أثارت ضربة صاروخية روسية يوم الأحد، 27 مارس/آذار 2022، في غرب أوكرانيا بالقرب من الحدود البولندية، والتي أصبحت نقطة عبور للأسلحة التي تُرسَل إلى القوات الأوكرانية، مخاوف جديدة بشأن ما إذا كانت روسيا قد تهاجم أراضي الناتو لوقف الشحنات أو تدميرها، فهل تقدم موسكو على ذلك؟ هذا ما يقوله التاريخ.
هل يضرب بوتين خطوط إمداد الناتو لأوكرانيا؟
تقول صحيفة New York Times الأمريكية، إنه يمكن لمثل هذا الهجوم أن يوسِّع الصراع بشكلٍ كبير. مرَّت الأسلحة -التي تشمل مدافع رشاشة وطائرات بدون طيار تكتيكية وصواريخ مضادة للدبابات- عبر بولندا ورومانيا، وكلاهما عضوٌ في الناتو، وسيؤدي الهجوم على أي من البلدين إلى تفعيل بند الدفاع الجماعي للحلف، والمعروف باسم المادة 5. وقال الرئيس الأمريكي جو بايدن، متحدِّثاً في وارسو يوم السبت، 26 مارس/آذار، إن الولايات المتحدة لديها "التزامٌ مُقدَّس" باحترام المادة 5.
ويقدِّم احتمال نشوب صراع مباشر مع حلف الناتو المسلح نووياً حافزاً قوياً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لكن التاريخ الحديث، بما في ذلك تجربة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان في الثمانينيات، يُظهر أنه حتى في حالة عدم وجود حرب نووية مُحتَمَلة، كانت القوى الغازية متردِّدةً بشكلٍ مدهش في استهداف البلدان التي تزوِّد الخصوم بالدعم الحاسم.
يبدو أن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، هدَّد بمثل هذا الهجوم، إذ قال مؤخَّراً للمنفذ الإخباري الحكومي الروسي RT، إن "أيَّ شحنة تنتقل إلى الأراضي الأوكرانية نعتقد أنها تحمل أسلحةً سيتوجَّب استهدافها".
ستكون الضربة الروسية على نقاط الإمداد في شرق بولندا أو شمال رومانيا خروجاً عن الأعراف الأخيرة، ربما تكون الولايات المتحدة قد قصفت لاوس على نطاقٍ واسع، وغزت كمبوديا خلال حرب فيتنام، على أمل تحطيم خطوط الإمداد والملاذات الفيتنامية، لكن هذا النهج أثبت أنه مُكلِّفٌ سياسياً وغير فعَّال من الناحية الاستراتيجية، كما تقول نيويورك تايمز.
ما الذي تقوله التجارب التاريخية المماثلة؟
هناك العديد من الأمثلة التي تشير إلى الاتجاه الآخر، بما في ذلك الحرب السوفييتية والولايات المتحدة في أفغانستان، في كلتا الحالتين، كان القادة السوفييت والأمريكيون يخشون التكاليف والعواقب المُحتَمَلة لتوسيع الصراعات الصعبة بالفعل.
بالنسبة لبوتين، ستكون المخاطر كبيرة. مع انهيار جيشه يقول بعض المحلِّلين إن حملة إمداد الناتو القوية قد تؤدي إلى فشل عسكري روسي، مع تداعياتٍ كارثية مُحتَمَلة عليه.
تعلم القادة السوفييت هذا الدرس بالطريقة الصعبة في الثمانينيات، بعد أن غزت موسكو أفغانستان، وكافحت للسيطرة على البلاد، في ظلِّ مقاومةٍ شرسة من قبل المجاهدين. سرعان ما حوَّلَ برنامجٌ تابعٌ للاستخبارات المركزية الأمريكية غرب باكستان إلى نقطة انطلاق لمقاتلي المجاهدين، وزوَّدَهم في النهاية بأكثر من ملياري دولار من المعدات والتدريب والأسلحة، بما في ذلك صواريخ ستينغر المضادة للطائرات، التي تشحنها الولايات المتحدة الآن إلى أوكرانيا.
كان المسؤولون الباكستانيون قلقين من أن السوفييت قد يردون بهجمات عبر الحدود على أراضيهم، لكن الولايات المتحدة أكدت لهم -بشكلٍ صحيح، كما اتضح فيما بعد- أن موسكو لا تريد تكريس المزيد من القوات لحربٍ لا تحظى بشعبية.
يقول بعض المحللين إنه في هذه الحالة، قد يفتقر بوتين إلى القوات اللازمة لاستكمال السيطرة على أوكرانيا، ناهيك عن اقتحام أو إغلاق حدود دولة أخرى.
لكن بوتين يتمتع بأسلحة أكثر تطوُّراً ودقة من أسلافه السوفييت، ما يجعل من السهل ضرب مراكز الإمداد للقوات الأوكرانية من مسافةٍ بعيدة.
قد يشكُّ بوتين أيضاً في أن الناتو سيتعامل مع ضربةٍ صاعقةٍ محدودة من الجو على أراضيه، كعمل من أعمال الحرب، لا سيَّما بالنظر إلى تحذيرات بايدن من أن الصراع المباشر مع روسيا يمكن أن يؤدي إلى حربٍ عالمية ثالثة.
مخاطرة كبيرة قد يقدم عليها بوتين
ومع ذلك، يشكُّ البعض في أن بوتين سوف يخاطر بمثل هذه المخاطرة، قال سيث جونز، المسؤول السابق في قيادة العمليات الخاصة الأمريكية، والذي يعمل الآن بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، إن أحد الأسباب هو أنه "من الصعب للغاية على الدول اعتراض خطوط الإمداد بجدية". وأضاف: "الضرب المحدود للأهداف في أوكرانيا، أو في بلدان مثل بولندا، لن يوقف التدفُّق على نحوٍ فعلي".
يمكن لبوتين أن يحاول خطوة أبعد من العمل العسكري العلني، في غضون أشهر من تدخُّل روسيا عام 2014 في شرق أوكرانيا، لدعم المتمرِّدين الانفصاليين الموالين لموسكو، دمَّرَ انفجاران كبيران اثنين من مستودعات الأسلحة في جمهورية التشيك وبلغاريا.
ومنذ ذلك الحين، عزا المسؤولون في كلا البلدين الهجمات إلى التخريب الذي قام به ذراع الاستخبارات العسكرية الروسية، كان الدافع المُفتَرَض هو منع الأسلحة من الوصول إلى وجهتها، حيث المقاتلون الأوكرانيون الذين يقاتلون الانفصاليين المدعومين من روسيا.
في تحقيقٍ مُفصَّلٍ للأحداث، قال المنفذ الإخباري مفتوح المصدر Bellingcat إن الهجمات كانت "جزءاً من تخطيط الاستخبارات العسكرية الروسية. تهدف العملية إلى تعطيل قدرات أوكرانيا على شراء الأسلحة والذخائر الضرورية لدفاعها ضد القوات الروسية والمسلحين الذين ترعاهم روسيا في شرق أوكرانيا".
بينما يحاول مسؤولو بايدن توقُّع استجابة بوتين لإمدادات الأسلحة الخاصة بهم، فإنهم سيضعون في اعتبارهم الحالات التي واجهت فيها الولايات المتحدة خيارات مماثلة.
الجميع يخشى من الحرب الشاملة
بعد غزو الولايات المتحدة لأفغانستان، لم يتحرَّك الرئيس الأمريكي آنذاك جورج دبليو بوش بجديَّةٍ ضد الملاذات العابرة للحدود التي أنشأتها طالبان في باكستان. قد يتطلَّب إغلاق هذه المواقع مضاعفة عدد القوات الأمريكية في البلاد من مستويات ذروتها في الحرب، وفقاً لما ذكره جيان جنتيلي، العقيد المتقاعد بالجيش الأمريكي، والمؤرخ في مؤسسة RAND. ولم يكن ذلك خياراً مطروحاً على الإطلاق.
قال حسين حقاني، السفير الباكستاني في واشنطن، خلال إدارة أوباما: "لم يكن الأمريكيون مستعدين للتصعيد عسكرياً". وأضاف أنه حتى عندما أمر الرئيس باراك أوباما بشنِّ غارةٍ على مجمع أسامة بن لادن في أبوت آباد في باكستان، عام 2011، "كان ذلك مصدر قلقٍ كبير، ماذا لو انتقمت باكستان وأصبح هذا نوعاً من الحرب الشاملة؟".
في عام 2007، قال المسؤولون الأمريكيون، بمن فيهم بوش نفسه، إن إيران كانت تزوِّد الميليشيات الشيعية المتمردة في العراق بصواريخ مُرتَجَلة وقنابل قاتلة يمكنها اختراق معظم المركبات الأمريكية.
كان السيناتور جوزيف آي ليبرمان، وهو مستقل عن ولاية كونيتيكت، من بين أولئك الذين طالبوا بردٍّ عسكري، قائلاً إن القادة الإيرانيين لا يمكن أن "يتمتَّعوا بحصانةٍ لتدريب الناس وتجهيزهم للدخول وقتل الأمريكيين". لكن بوش، الذي كان قد شنَّ حربين بالفعل وقتذاك، لم يرد قط.
وخلال الحرب الكورية، ابتعدت الولايات المتحدة عن دفع القتال إلى عدوٍ كان يهاجم قواتها بشكلٍ مباشر. بعد أن تقدمت القوات الأمريكية بالقرب من حدود كوريا الشمالية مع الصين في أواخر عام 1950، أرسلت بكين مئات الآلاف من القوات جنوباً لصدِّ الأمريكيين. سعى الجنرال دوغلاس ماك آرثر للحصول على إذنٍ لتفجير القواعد والجسور والمصانع في الصين، لكن الرئيس هاري ترومان رفض الفكرة، واستجاب لنصيحة القادة الآخرين، الذين قالوا إن الحرب الموسعة يمكن أن تجتذب الاتحاد السوفييتي، وتجعل الولايات المتحدة في مأزق.
ومع ذلك، أرسل السوفييت طائراتٍ مقاتلة للمساعدة في محاربة القوات الجوية الأمريكية على كوريا. ورغم أن موسكو نفت تورُّطها، حتى إنها كانت تضع علامات على طائراتها بألوان كوريا الشمالية، تشكَّكَت الولايات المتحدة في ذلك، لكنها اختارت أن تنظر في الاتجاه الآخر.