"انتصار روسي أو اتفاق تفاوضي أو انهيار النظام في موسكو"، يبدو أن هذه الخيارات الثلاثة هي حدود ما قد ينتهي إليه الهجوم على أوكرانيا، فأي منها بات أكثر ترجيحاً؟
وعلى الرغم من أن الرئيس الأمريكي جو بايدن قد قال إن بوتين "لا يمكنه أن يستمر في الحكم"، وسواء أكانت زلة لسان أم تهديداً مبطناً، فإن أغلب التحليلات الغربية لا تزال تشير إلى أن سقوط بوتين أو تغيير النظام في روسيا أمنية لدى بعض الزعماء الغربيين وليس احتمالات تغذيها المعطيات على الأرض.
فالهجوم الروسي على أوكرانيا، والذي يصفه بوتين بأنه عملية عسكرية خاصة ويصفه الغرب بالغزو، دخل شهره الثاني فعلاً دون أن يحقق الجيش الروسي انتصاراً عسكرياً حاسماً بالسيطرة على العاصمة كييف والمدن الكبرى، لكن في الوقت ذاته من الصعب تصوير الأمر على أنه انتصار أوكراني أو هزيمة لموسكو.
وفي هذا السياق نشرت مجلة Foreign Policy الأمريكية تقريراً عنوانه "هل التوصل إلى اتفاق سلام بين روسيا وأوكرانيا يضر أكثر مما ينفع؟"، عبّرت فيه إيما أشفورد زميلة بارزة في مركز "سكوكروفت" للاستراتيجيات والأمن التابع للمجلس الأطلسي، وماثيو كروينغ نائب مدير المركز نفسه عن رؤيتهما للكيفية التي قد تنتهي بها الحرب.
هل تقترب الحرب من نهايتها؟
وبحسب رأي أشفورد، فإنه على الرغم من تحقيق القوات الروسية مكاسب كبيرة بجنوب وشرق أوكرانيا في نهاية المرحلة الأولية من الصراع، فإنها تكافح لتدعيم هذه المكاسب وتعزيز سيطرتها على المناطق التي باتت خاضعة لسيطرتها. وتعتبر مدينة ماريوبول، الواقعة في جنوب شرقي أوكرانيا، أحد الأمثلة البارزة على تعثر الحملة العسكرية الروسية، حيث لم ينجح الروس بعد في الاستيلاء عليها بالكامل على الرغم من تدميرها وخلق أزمة إنسانية متفاقمة فيها.
كما يبدو أنَّ التقدّم الروسي لمحاصرة العاصمة كييف إما متوقف وإما في فترة توطيد، حيث تحتفظ القوات الروسية بمواقعها؛ في محاولة لتحسين خطوط إمدادها وتعزيز مكاسبها الحالية، وعلى الجانب الآخر، ثمة بعض الأدلة على أنَّ القوات الأوكرانية ربما تستعيد السيطرة على مواقع في مناطق مثل إيربين، شمال كييف.
لكن على الرغم من ضباب الحرب الكثيف، فإنَّ أفضل ما يمكننا استنتاجه حقاً هو أنَّنا ربما ندخل المراحل النهائية من هذه الحرب، ويُرجح أنَّ نشهد في المستقبل القريب فترة توقف مؤقتة قصيرة. قد يعود الروس في وقتٍ لاحق، إلى الحرب بحملة أكثر بشاعة ووحشية بعد فشلهم في تحقيق هدفهم الأول المتمثّل في تحقيق انتصار سريع وحاسم، بحسب تقرير المجلة الأمريكية.
ويبدو أنَّ تقدم الحملة العسكرية الروسية قد توقف، سواء كان ذلك طوعاً أو كرهاً، ويبدو أيضاً أنَّ الروس تكبدوا خسائر كبيرة في الأرواح، ما يؤثر سلباً بلا شك، في الروح المعنوية الروسية. وتتباين التقديرات فيما يخص عدد قتلى الجانب الروسي، لكن مسؤولي حلف الناتو يقولون إنَّ روسيا فقدت ما بين 7 آلاف و15 ألف جندي، أي ما يقرب من 5% إلى 10% من إجمالي عدد قواتها في أوكرانيا.
بالنسبة للقوات الأوكرانية، يبدو أنَّهم صامدون جيداً حول المدن الكبرى وحققوا بالفعل بعض النجاحات المهمة، مثل قصفهم سفينة إنزال روسية كبيرة قرب ميناء بيرديانسك هذا الأسبوع. لكن تجدر الإشارة إلى أنَّ الروس لا يستخدمون أسلحة دقيقة التوجيه، بل يشنون في الغالب قصفاً عشوائياً باستخدام الصواريخ والمدفعية، وهو ما يسفر عن تداعيات مروعة بالنسبة للمدنيين الأوكرانيين.
لكن بوتين ضاعف قوة هجومه على أوكرانيا بدلاً من التراجع عندما فشلت خطته الأولية، وبالتالي فإن تحليل المجلة الأمريكية توقع أن الرئيس الروسي سيواصل محاولة كسر الجمود من خلال معارك استنزاف، لكن في الوقت نفسه، وعلى الرغم من نجاحات الأوكرانيين في الصمود، من غير المرجح حدوث تغييرات جذرية في مسار الحرب خلال الأيام المقبلة.
أي الحلول أصبح متاحاً لروسيا ولأوكرانيا؟
ورأت أشفورد بداية تحرّك من كييف وموسكو نحو التفكير في سبل يمكن بها حل هذا النزاع: "في الواقع، عندما نفكر في مجموعة الخيارات القادرة على إنهاء هذه الحرب (على سبيل المثال، تحقيق انتصار روسي أو التوصل إلى تسوية تفاوضية أو انهيار النظام في موسكو)، سنجد أنَّ التوصّل إلى تسوية تفاوضية هو الخيار الأكثر ترجيحاً والأقل سوءاً".
من جانبه يرى كرونيغ أن إبرام صفقة سريعة ليس بالضرورة الحل الأفضل لجميع الأطراف: "لا يريد الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، أن يقدم لموسكو تنازلات لم تكن مقبولة بالنسبة له قبل شن الحرب، في حين يتمثّل هدف حلف الناتو في ضمان أن تفضي هذه الحرب إلى هزيمة إستراتيجية كبرى لبوتين تُضعف مكانته وتعزز مكانة الغرب. لا يريد أحدٌ مكافأة بوتين على عدوانه"، بحسب قوله.
"لن يكون من السهل التوصل إلى اتفاق، لكن أي صفقة سلام محتملة ستنطوي بالضرورة على مكاسب لروسيا بشكلٍ ما. هذه هي طبيعة الحرب، حيث تفرض المكاسب في ساحة المعركة حجم التنازلات السياسية في نهاية المطاف"، بحسب أشفورد.
"كان هناك بعض التحرّك الأوكراني بشأن مسألة الحياد، وهو مطلب روسي أساسي، لكن ليس فيما يتعلق بمسألة التنازلات الإقليمية، التي ربما تكون ضرورية أيضاً بالنسبة للروس. على الجانب الروسي، رأينا أيضاً بعض المؤشرات على أنَّ موسكو لم تعد تدفع باتجاه تغيير النظام في كييف. ومع ذلك، لا يزال الجانبان متباعدين، ومن غير المحتمل التوصل إلى اتفاق قريباً. أنا أقول فقط إنه قد يكون من الأفضل لجميع الأطراف السعي نحو ذلك".
وحقيقة الأمر هي أن الجانب الأوكراني قد تراجع بالفعل عن رفضه فكرة الحياد من حيث المبدأ، وتتناول جولة المفاوضات، الجارية حالياً بين الجانبين في إسطنبول، مسألة الحياد وتفاصيلها، وهو في حد ذاته تقدم لافت بالفعل ويفتح الباب أمام احتمال التوصل لتسوية توقف إطلاق النار.
لكن كرونيغ يرى أنه بينما لن يكون استمرار الصراع هو الوضع الأفضل بالنسبة لأوكرانيا، فإنَّ الموافقة على تسوية مبكرة لن يكون بالضرورة أيضاً الحل الأفضل بالنسبة لها. على العكس من ذلك، قد يكون هذا الاتفاق المبكر أسوأ نتيجة ممكنة، إذ "سيحوّل العالم اهتمامه سريعاً إلى مكان آخر، معتقداً أنَّ المشكلة قد حُلّت. وسيتراجع بوتين في وقتٍ لاحق، عن الاتفاق ويستأنف الحرب ضد أوكرانيا. سيفقد زيلينسكي حينها الدعم الشعبي بعد رضوخه لبوتين وقد يُعزل من منصبه، ومن ثمَّ سيحقق بوتين رغبته المنشودة في تغيير النظام بكل سهولة".
هل يمكن أن يجبر الغرب بوتين على وقف إطلاق النار؟
على الرغم من أن الغرب يرفض تماماً فكرة خروج بوتين منتصراً من الصراع في أوكرانيا، فإن حقيقة الأمر تشير إلى مدى محدودية ما يمكن الغرب القيام به لإجبار روسيا على وقف إطلاق النار والانسحاب من أوكرانيا دون أن يحقق الكرملين الحد الأدنى من أهدافه من تلك الحرب.
فحلف الناتو لا يمكنه أن يفرض منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا أو أن يقدم طائرات مقاتلة لكييف، وهذا ما تم الإعلان عنه صراحة بالفعل من جانب الرئيس الأمريكي جو بايدن والأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ، وبالتالي فإن تزويد أوكرانيا بالسلاح والمرتزقة هو الحد الأقصى لما يمكن للغرب تقديمه عسكرياً، إضافة إلى العقوبات الاقتصادية.
وحتى بالنسبة للعقوبات الاقتصادية، لا تزال مسألة الاتفاق على حظر الطاقة الروسية تسبب خلافاً بين الأمريكيين والأوروبيين، فالقارة العجوز تعتمد بشكل شبه كامل على الغاز والنفط والفحم من روسيا، ولن تتمكن بعض الدول الأوروبية، خاصةً ألمانيا، من التخلي عن الطاقة الروسية على المدى القصير على الأقل.
هذه المعطيات تجعل من فكرة تشديد الخناق على بوتين كي يقبل بوقف إطلاق نار أو تسوية ما في أوكرانيا، لا تحقق للدب الروسي الحد الأدنى مما يريده، غير واردة، بحسب أغلب المحللين الغربيين أنفسهم، حتى وإن أعلن بعض الزعماء، كبايدن، عن أمنياتهم بأن يخرج بوتين من أوكرانيا خاسراً كل شيء.