"وزارة دفاع دولة أوروبية مهمة بمثابة إدارة تابعة للمخابرات الروسية"، إلى هذه الدرجة وصلت أنشطة الاستخبارات الروسية في اختراقها للدول الغربية الذي بات محل فحص غير مسبوق بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.
فلقد بدأت الدول الأوروبية تفتح ملف أنشطة الاستخبارات الروسية، التي اخترقت العديد من دول القارة، لدرجة أن بعض الدول الغربية الأخرى الأكثر فاعلية في مواجهة هذه الأنشطة أوقفت تزويد أجهزة أمنية في دولة أوروبية مهمة بالمعلومات بسبب خوفها من تسربها للروس، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Financial Times البريطانية.
أنشطة الاستخبارات الروسية وصلت إلى مستوى خطير في أوروبا
قال المقدم سيرغي سولوماسوف، وهو عميل استخبارات يعمل لدى "مديرية المخابرات الرئيسية" الروسية العسكرية، لأحد مصادره السلوفاكية: "قلتُ لموسكو إنَّك فتى مطيع. وقرَّرت موسكو أن تكون صياداً".
لكنَّ سولوماسوف– وهو على الورق نائب الملحق العسكري الروسي في براتيسلافا- كان مخطئاً. فلم يحظَ مصدره، بوهوس غاربار، بفرصة للصيد. بل جرى اصطياده، إذ صوَّر عملاء أمنيون سلوفاكيون اللقاء الذي تم مع مشرفه.
وفي 14 مارس/آذار 2022، كان سولوماسوف واحداً من بين ثلاثة روس طُرِدوا من سلوفاكيا "لقيامهم بالعمل بما يخالف اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية".
ومع أنَّ غاربار– وهو مُدوِّن ذو علاقات جيدة ومُشهِّر بالفضائح- كان هدفاً صغيراً، فإنَّ مُجنَّدي روسيا الآخرين لم يكونوا كذلك، إذ ضمَّت شبكة سولوماسوف عقيداً سلوفاكياً ومسؤولاً رفيع في مكافحة التجسس.
وأصبح تتبُّع أنشطة الاستخبارات الروسية في الغرب مهمة أكثر إلحاحاً منذ قَلَبَ الغزو الروسي لأوكرانيا النظام الأمني الأوروبي رأساً على عقب. لكنَّ العديد من البلدان لا تزال تحاول مواكبة نشاط موسكو السري على أراضيها.
وقال كير غايلز، وهو زميل استشاري بارز في برنامج روسيا لدى معهد تشاثام هاوس البريطاني: "ما نعرفه عن أنشطة الاستخبارات الروسية مجرد رأس جبل الجليد. فطوال سنوات كثيرة، كانت هناك مؤامرة صمت، في ظل إحجام القوى الغربية عن الحديث بشأن أنشطة الاستخبارات الروسية أو حتى ملاحقتها".
ومن أخطر أنشطة الاستخبارات الروسية في أوروبا عمليات اغتيال المعارضين ومنها محاولة اغتيال المعارض الروسي ليكسي نافالني التي تتهم ألمانيا الحكومة الروسية بالمسؤولية عنها.
وروسيا ومن قبلها الاتحاد السوفييتي لديهما تاريخ طويل من اغتيالات المعارضين لدرجة أن هناك صفحة على موقع المعرفة المشاعية Wikipedia تحمل اسم قائمة الاغتيالات الروسية والسوفييتية List of Soviet and Russian assassinations.
لدرجة أن عمليات مكافحة التجسس لا تستطيع مطاردتها
وقال ثمانية مسؤولين استخباراتيين ودبلوماسيين أوروبيين حاليين لصحيفة The Financial Times البريطانية إنَّ عمليات روسيا السرية قد توسَّعت بمعدل جعل جهود مكافحة التجسس تعاني لمواكبته. ولا تزال العديد من البلدان الأوروبية تعتمد على جمع المعلومات الاستخباراتية الأمريكية والبريطانية بسبب القيود على الرقابة الداخلية ونقص الموارد.
وتشير موجة عمليات طرد الروس هذا الشهر إلى حجم المشكلة. فبالإضافة إلى الطرد من سلوفاكيا، أعلنت دول البلطيق الثلاث وبلغاريا طرد إجمالي 20 عميلاً روسياً مزعوماً. وأعلنت بولندا 45 دبلوماسياً روسياً أشخاصاً غير مرغوب بهم، بزعم أنَّ جميعهم يستخدمون الغطاء الدبلوماسي للقيام بنشاط استخباراتي.
وتثق بعض الدول، مثل المملكة المتحدة، أنَّها قلَّصت القدرة الروسية بشكل كبير، فوفقاً لمسؤول بارز في الحكومة البريطانية، أصبحت أعداد العملاء في بريطانيا تُقدَّر بأرقام آحاد منخفضة. لكنَّ بلداناً أخرى أكثر انكشافاً. فوفقاً لتقدير مسؤول استخباراتي أوروبي، لا يزال العشرات من العملاء الروس نشطين في ألمانيا وفرنسا وبلجيكا.
دولة أوروبية بمثابة حاملة طائرات لأنشطة الاستخبارات الروسية
وقال آخر إنَّ النمسا "حاملة طائرات حقيقية" للنشاط السري الروسي. وتُعتَبَر وكالة "المكتب الفيدرالي لحماية الدستور"، وهو جهاز استخباراتي نمساوي، مُعرَّض لخطر كبير لدرجة أنَّه، وبحسب دبلوماسي أوروبي مقيم في فيينا، عُزِلَ في وقتٍ من الأوقات عن معظم نشاط تقاسم المعلومات الاستخباراتية الأوروبي. وأضاف الدبلوماسي أنَّ وزارة الدفاع النمساوية هي "عملياً إدارة داخل مديرية المخابرات الرئيسية الروسية".
قال غايلز: "بدأنا نرى الحكومات في أوروبا تشرع في مواجهة ما يجري علنياً. لا يمكن للديمقراطيات الدفاع عن نفسها في مواجهة تهديدات الجزء الأكبر من سكانها ليس على علم بها".
أشهر العمليات التي تم كشفها
وتكشف الحالات الأخيرة التي وصلت إلى المجال العام نطاق وحجم المصالح ونجاحات أنشطة الاستخبارات الروسية:
في 2017: قال مدير الاستخبارات الفرنسية السابق برنارد باجولي في مقابلة العام الماضي، 2021، إنَّه كان لروسيا عميل يعمل مستشاراً مقرباً لوزير الدفاع الفرنسي آنذاك، ووزير الخارجية حالياً، جان إيف لودريان.
في يوليو/تموز 2020: كشفت السلطات الدنماركية محاولات روسية سرية لسرقة تكنولوجيا في مجال الطاقة. وفي أغسطس/آب من نفس العام، أُلقي القبض على مقدم فرنسي يعمل في قيادة الناتو البحرية في نابولي الإيطالية لتمريره معلومات سرية خاصة بالناتو لمديرية المخابرات الرئيسية الروسية. وفي ديسمبر/كانون الأول، طردت السلطات الهولندية عميلين سريين روسيين لمحاولتهما سرقة تكنولوجيا ذكاء اصطناعي وتكنولوجيا نانوية من شركات هولندية.
في مارس/آذار 2021: ألقت بلغاريا القبض على ستة من مواطنيها– بينهم موظفون في وزارة الدفاع ورئيس الاستخبارات الدفاعية السابق إيفان إلييف- لتمريرهم أسراراً إلى مديرية المخابرات الرئيسية الروسية مقابل 3 آلاف دولار لكلٍ منهم. ويُحتَجَز إلييف والمتهمون الآخرون على ذمة التحقيق بانتظار المحاكمة. وفي وقتٍ لاحق من الشهر نفسه، ألقت السلطات الإيطالية القبض على النقيب البحري والتر بيوت وهو يبيع سلسلة من الأسرار العسكرية لمديرية المخابرات الرئيسية الروسية مقابل 5 آلاف دولار في المرة الواحدة. وبدأت محاكمة بيوت الأسبوع الماضي.
في يونيو/حزيران 2021: ألقت السلطات الألمانية القبض على العالم الروسي "إيلنور إن" لسرقته أسرار طيران وتكنولوجيا صواريخ من مراكز بحثية في مدينة أوغسبورغ. ومحاكمته ما زالت مستمرة. وفي سبتمبر/أيلول، ألقت القبض على موظف أمني بالبرلمان الألماني، كان قد باع مخططات تفصيلية للمبنى ونظامه لمديرية المخابرات الرئيسية الروسية.
400 ألف شخص يعملون في الاستخبارات الروسية
توظف روسيا نحو 400 ألف شخص في أجهزة استخباراتها الرئيسية الثلاثة. وتملك "المديرية الرئيسية" بوزارة الدفاع الروسية اهتمامات واسعة بشؤون الناتو والتكنولوجيا العسكرية، وكذلك بالتآمر والتخريب.
ويركز "جهاز الأمن الفيدرالي" الروسي على الاستخبارات الداخلية، لكنَّ "الدائرة الخامسة" به تجمع المعلومات الاستخباراتية الأجنبية من دول الجوار القريب من روسيا، بما في ذلك أوكرانيا. ويُكلَّف "جهاز المخابرات الأجنبية"، وريث المديرية الرئيسية الأولى بلجنة أمن الدولة السوفييتية السابقة (KGB)، بصورة حصرية بجمع المعلومات الاستخباراتية الأجنبية.
وقال مسؤولون غربيون إنَّ هناك ثلاثة أنواع من العملاء الروس يعملون في أوروبا: العملاء المُعلَنون، وغالباً ما يشغلون مناصب مثل الملحق العسكري، وهم يعملون لصالح مديرية المخابرات الرئيسية. والعملاء غير المُعلَنين، الذين قد يجعلهم جهاز المخابرات الأجنبية يتنكرون بكونهم جزءاً من وفد تجاري. والعملاء غير القانونيين، وهم عملاء نائمون يعملون بصورة سرية جداً.
وقال مسؤول: "هناك عدد قليل جداً من هؤلاء. فمن بين كل 100 يدخلون المديرية (إس) بجهاز المخابرات الأجنبية للتدرُّب ليكونوا عملاء غير قانونيين، قد يتخرَّج اثنان فقط".
ويمثل تتبُّع النشاط السري الروسي تحدياً ضخماً حتى حين تكون الأهداف معروفة.
قال غوستاف غريسيل، وهو محلل للشأن الروسي بالمجلس الأوروبي للشؤون الخارجية مقيم في برلين: "تحتاج إلى عملية استخباراتية خارجية داخلية مُنسَّقة للغاية لمحاولة إحباط الكثير من هذا النشاط. والكثير من البيروقراطيات الأمنية في أوروبا ببساطة لا ترقى إلى ذلك الحد".
لكنَّ عمليات الطرد، أو تدمير شبكات أنشطة التجسس الروسية في أوروبا، مجرد أداة واحدة يمكن استخدامها. فقال آخر إنَّ الجوائز الأكبر تتمثل في إقناع العملاء بتغيير انتمائهم أو أن يُقدِّموا معلومات مضللة عمداً.
وقال مسؤول أمني أوروبي: "غالباً ما يكون الهجوم أفضل وسيلة للدفاع، خصوصاً حين تكون الأمور بغيضة مثلما هي الآن. يمكن أن يكون الوقت مناسباً للتجنيد".