"مفارقة غريبة".. ففي يوم واحد انهار الجيش الأفغاني الذي صنعه الأمريكيون أمام طالبان، بينما لا يزال الجيش الأوكراني الذي يدعمه الأمريكيون صامداً أمام روسيا، صاحبة ثاني أقوى جيش في العالم، فما السبب في هذا التناقض الغريب رغم أن الداعم واحد في الحالتين؟
وقبل ذلك بسنوات انهار الجيش العراقي الذي أسسه الأمريكيون أيضاً أمام مسلحي داعش، وفر أفراده من الموصل، بينما عاد أداؤه ليكون أفضل بعد ذلك بسنوات في نفس المدنية، كما أن ميليشيات الحشد الشعبي المدعومة من قوة عالم ثالثية هي إيران كان أداؤها أفضل أمام داعش من الجيش العراقي المؤسس من قبل الأمريكيين.
لماذا يظهر فارق هائل في القدرات في الحالات المشار إليها، بين قوات انهارت بين عشية وضحاها وأخرى صمدت أمام قوى أشد تسليحاً.
واللافت في حالة أفغانستان تحديداً، أن قوات الجيش الأفغاني التي أسسها الأمريكيون هزمت أو حتى لم تحارب أمام قوة لا يزيد عددها عن 50 ألفاً من رجال طالبان المسلحين تسليحاً خفيفاً في أغلبه وليس لديهم سلاح طيران أو مدفعية ثقيلة أو دبابات.
الفساد قاسم مشترك بين الجميع
قد يكون هناك تفسير بسيط مرتبط بالفساد، فلقد اتهم الجيش الأفغاني المنحل بأنه فاسد لدرجة قطعت أوصاله، وخلق تفشي الفساد جيشاً على الورق أكبر بكثير من الجيش الواقعي، حيث كانت توجد قوائم وهمية للضباط والجنود الأفغان الذين يفترض أنهم كانوا يتلقون أجوراً من أموال المعونة الغربية.
وينطبق الأمر كذلك على الجيش العراقي الذي هزم في الموصل أمام داعش عام 2014، حيث تفشى فيه الفساد بشكل كبير.
ولكن الواقع أن أوكرانيا أيضاً، مشهورة بالفساد، وتوصف بأنها أفقر وأفسد دولة في أوروبا.
وحتى لو كان الجيش الأوكراني يحتمل أنه أقل فساداً، من المؤسسات المدنية، إلا أنه عرف عنه قدر من الفساد الذي أقلق المؤسسات والجهات الغربية المعنية.
وكانت المساعدات العسكرية المقدمة إلى أوكرانيا قبل الحرب مرتعاً لممارسات فساد كبيرة؛ حيث اعتاد المدنيون والجنود، على حد، سواء تسريب الأسلحة إلى شبكةٍ تهريب أسلحة غير شرعية متوسعة، حسبما ورد في تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
ورغم أن البلاد كثّفت تحقيقاتها في سرقة الممتلكات العسكرية عام 2014، لكن تحويل مسار الأسلحة الصغيرة والكبيرة لا يزال قائماً؛ إذ وجد تقريرٌ من Small Arms Survey حول تدفقات الأسلحة غير الشرعية عام 2017 أن هناك أكثر من 300 ألف سلاح صغير قد اختفت من أوكرانيا بين عامي 2013 و2015، ولم تنجح السلطات سوى في استرداد 13% منها فقط.
ويمثل تحويل مسار الأسلحة العسكرية تجارةً مربحة في أوكرانيا؛ حيث تنتشر آلاف القنابل اليدوية والصواريخ والألغام الأرضية التي تصل من مناطق النزاع المحيطة بمنطقة دونباس إلى مختلف مدن وبلدات أوكرانيا.
ولا تقتصر عمليات تحويل المسار والسرقة على الأسلحة الصغيرة أو المدنيين؛ حيث حاول جنديان أوكرانيان في عام 2019 مثلاً بيع 40 قنبلة RGD-5، و15 صاروخ RPG-22، و2.454 خرطوشاً نارياً مقابل نحو 2.900 دولار فقط، حسب الموقع الأمريكي.
ووجد مؤشر الجريمة المنظمة العالمي أن دور أوكرانيا كحلقة وصل أساسية في تجارة السلاح العالمية قد زاد منذ اشتداد الصراعات شرقي أوكرانيا في السنوات الأخيرة؛ مما يُنذر بالسوء بعد تدفق شحنات الأسلحة الدولية على البلاد مؤخراً، بحسب تقرير مركز Stimson Center البحثي.
كما أن الجيش العراقي بعد عملية إعادة تدريبه وهيكلته خلال الحرب على داعش، ظل معروفاً بفساده، حتى لو تراجع قليلاً، ولكن أداءه في حرب القضاء على داعش عامي 2016 و2017، كان أفضل كثيراً من أدائه عام 2014 إضافة إلى أن الحشد الشعبي معروف عنه الفساد الواسع وسيطرته على ممرات التهريب، ورغم ذلك فإنه لا يمكن إنكار أن أداءه كان جيداً أمام داعش.
يعني هذا أن الفساد، رغم أنه يؤثر بلاشك على أداء الجيوش، ولكنه ليس العامل الفاصل في صمود جيش ما أو إنهياره، كما أن مصدر التدريب والأسلحة ونوعيتها لا يمثل فارقاً كبيراً، بالنظر إلى أنه في حالات العراق وأفغانستان وأوكرانيا، كان مصدر السلاح هو الغرب وبالأخص الولايات المتحدة.
فما الذي جعل الجيش الأوكراني يصمد أمام قوة أكبر منه بكثير ممثلة في الجيش الروسي، بينما، انهار الجيش التابع للحكومة الأفغانية السابقة أمام قوة أقل تسليحاً بكثير مثل طالبان، أو ما الذي جعل الجيش العراقي ينهار عام 2014، ثم ينتصر عام 2017 أمام نفس القوة (داعش).
التفتت خطر على أي جيش
وحدة الجيش ووجود عصب إحدى النقاط الجوهرية التي تفرق الحالات المشار إليها، هي وحدة الجيش.
كان الجيش الأفغاني رغم التدريبات الأمريكية، مجرد انعكاس لأحزاب البلاد وإثنياتها، ونظام الحكم الذي أسسه الأمريكيون بعد إسقاطهم لحكم طالبان الأول، كان فاقداً للوحدة والعصب الموحد.
كان النظام يقوم بشكل أساسي على تحالف الشمال الذي يضم أمراء الحرب من أقليات البلاد الطاجيك والهزارة والأوزبك، الذين أدمجوا رجالهم في الجيش الأفغاني، مما جعل كل جنود ينتمون لإثنية معينة ممثلين لزعماء الطوائف أكثر منهم جنوداً وطنيين، ولأن الجيش كان أداة للنفوذ والفساد وخضع للمحاصصة الطائفية الإثنية، فإن الجنود كان يتم اختيارهم حسب هذه المحاصصة وليس بناء على الكفاءة.
كما أنه بما أن النظام الذي أسسه الأمريكيون كان بالأساس على أنقاض حركة طالبان التي تعد من أهم ممثلي البوشتون أكبر قوميات أفغانستان والذين يشكلون محور وعصب الدولة الأفغانية منذ قرون، ولأنه تم استبعاد قلب الدين حكمتيار الذي يعد من أبرز الزعماء البوشتون، فلقد نظر البوشتون لهذا النظام بأنه ليس نظامهم.
ولم يفد كثيراً محاولة الأمريكيين إشراك زعماء بوشتون قبليين، للنظام في جعله أكثر شرعية بالنسبة للبوشتون، بل عززت إحساسهم بأن هذه دولة الأقليات في مواجهة هيمنتهم التاريخية على البلاد.
كما أن مشاركة بعض السياسيين الموالين للغرب من البوشتون وغيرهم، والذي يقدمون كنماذج للحداثة الغربية أضعف النظام لأنهم بطبيعتهم بعيدون عن التركيبة التقليدية للمجتمع الأفغاني، وبدوا كغرباء يقحمهم الغرب في الحياة الاجتماعية والسياسية لأفغانستان.
أداة لنهب الموارد وليس الحرب
وتحول الجيش الأفغاني عبر المحاصصة الطائفية، ليس وسيلة لتوحيد البلاد أو حمايتها، بل قناة لنهب المساعدات الغربية من قبل أمراء الحرب، الذين لم يحتفظوا فقط بنفوذهم، ولكن أيضاً جزئياً بميلشياتهم وأسلحتهم، حتى إن الأمريكيين والحكومة الأفغانية راهنت على أمراء الحرب هؤلاء للصمود أمام هجوم أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي مثلما حدث مع أمير الحرب الأوزبكي المتوحش عبد الرشيد دوستم وإسماعيل خان المعروف بلقب "أسد هرات" ، ولكن كان من الواضح أن سنوات الدعة، وغياب الدعم الأمريكي جعلت قوتهم المنتظرة مجرد سراب.
كل ما سبق خلق جيشاً مهلهلاً، لا يجمعه سوى سيطرة المدربين الغربيين والرواتب القادمة من عواصم الناتو، فور أن اختفت هذه العوامل انهار الجيش.
نفس هذه العوامل تنطبق تقريباً على الجيش العراقي الذي أسسه الأمريكيون عقب إسقاطهم لنظام صدام حسين.
استخدام أساليب غير ملائمة
وزاد من فشل المحاولات الأمريكية في الحالة الأفغانية، تحديداً، اعتماد الأمريكيين على أساليب لا تلاءم تركيبة البلاد الاجتماعية والقبلية والحضرية والجغرافية.
فلقد حاول الأمريكيون بناء جيش أفغاني على صورة الجيش الأمريكي وغيره من الجيوش الغربية، رغم أن أفغانستان بلد فقير تنتشر فيه الأمية، يصعب توفير عدد كاف من الجنود والضباط القادرين على التعامل مع أساليب الغرب العسكرية وأسلحته، خاصة في ظل إصرار الجانب الأمريكي على تزويد الجيش الأفغاني بأسلحة أمريكية معقدة يصعب على الفنيين الأفغان التعامل معها دون تدريب كاف.
مثلما هو الحال مع قرار واشنطن استبدال مروحيات ميل مي 17 الروسية التي يجيد الأفغان طيارين وفنيين التعامل معها وهي أكثر ملاءمة للتضاريس والأجواء الأفغانية بمروحيات بلاك هوك الأمريكية الأكثر تعقيداً والتي كان يحتاج الفنيون الأفغان سنوات لم تتوفر لهم للتدرب على صيانتها.
أدى طريقة الأمريكيين في تأسيس الجيش الأفغاني إلى افتقاده لفطرة القتال الراسخة لدى الشعب الأفغاني التي توافرت لدى طالبان، والتي تضافر معها الروح القتالية الجهادية للحركة، والتي أضيف لها الانضباط الذي ميز النسخة الجديدة من طالبان، وكذلك الفهم الفطري لطبيعة القتال في أفغانستان الوعرة والمنقسمة قبلياً وإثنياً، وقدرتهم على خوض قتال طويل ومتقطع ضد الجيش الأمريكي ملائم لتسليحهم المحدود وأعدادهم القليلة.
إرادة القتال أهم من الأسلحة
ترتب على ما سبق، نقطة جوهرية في أي حرب، فوحدة أي جيش حتى لو كان عليه شبهات فساد، مثل الجيش الأوكراني، واستعداده لمواجهة عدو هناك إجماع على رفضه، يترتب عليه وجود إرادة للقتال، وحتى الموت في الحرب.
فالجيوش حتى لو واجهت قوى أكبر، وحتى لو تعرضت للحصار، يمكن أن تتجنب الهزيمة بوجود إرادة ترفض الاستسلام.
فالهزيمة والانتصار ليسا فقط عملية عسكرية، منطقية، بل قرار، كلما توفرت إرادة القتال، للجيش ورفض للاستسلام حتى في ظل الظروف السيئة كلما ابتعدت الهزيمة واقترب النصر.
ويتحقق هذا عبر عوامل عديدة ولكن من أهمها شعور المقاتلين بالجيش الذي يحاربون فيه بأن وحداته بمثابة أسرهم.
يظهر ذلك واضحاً في حروب داعش، المتعددة، ففي أغلب معارك التنظيم المتطرف سواء تلك التي أدت لصعوده أو هزيمته، كان داعش يواجه قوى مسلحة بشكل أفضل منه، ولكن التنظيم كان لديه إرادة عالية للقتال.
وقد أفادت دراسات أمريكية عن أداء داعش اللافت، أنه بينما يفترض المنظرون العسكريون أن تدمير أو تحييد ثلث أي وحدة كفيل باستسلامها أو هزيمتها، فلقد رصد أن مقاتلي داعش وبعض المقاتلين الأكراد (في الأغلب أكراد سوريا) ظلوا يحاربون بعد تعرض وحداتهم لخسائر أكبر من هذا المعدل، وقد أرجع الباحثون الأمريكيون بعد تحقيقات مع سجناء داعش، أنه وجد أن الجنود التقليديين يفكرون في حياتهم وفي مصير أسرهم بعد وفاتهم، بينما في حال مقاتلي داعش وبعض الجماعات الكردية، فإن انتماء المقاتل لوحدته مماثل أو يزيد عن انتمائه لأسرته ومن هنا يقاتل حتى الرمق الأخير، كأنه يدافع عن أسرته.
طبيعة التدريب والدعم الخارجي
كما أن عملية التدريب والتوجيه من قبل القوى الداعمة كلما تحولت إلى عملية وصاية تضعف معنويات الجيش، وتجعله تابعاً، والمقاتلون التابعون لا يقاتلون إذا اختفى المتبوعون، بينما إذا كان الدعم في شكل تدريب وتسليح ونصح في إطار استقلال الجيوش عن داعميهم كلما زادت فرص الصمود.
تحول الدعم والتدريب لوصاية يفقد أي جيش إحساسه بالمسؤولية والذاتية ويحوله لأجير.
الموقف من العدو
يعد الموقف من العدو عاملاً أساسياً لصمود الجيوش، كلما زادت الكراهية العدو والخوف من احتمال انتصاره مرتفعاً، والشعور بوجود فرص للانتصار عليه، زادت فرص الصمود.
يظهر هذا في الحالة العراقية، في الحرب الأولى ضد داعش، صدم الجيش العراقي الذي كان مهلهلاً وفاسداً وشديد الانقسام على أساس طائفي من وحشية داعش، وبدا الهرب هو الخيار الأفضل لكثير من الجنود الشيعة مثلما حدث في الموصل للنجاة بحياتهم من المناطق السنية إلى مواطنهم في المناطق الشيعية، بينما يشعر الجنود السنة بأن النظام الحال يناصبهم العداء.
ولكن بعد أن شعر الشيعة والأكراد بأن انتصار داعش وسيطرتها على العراق، قد يكون معناه إبادة الطائفتين الشيعية والكردية، ومع شعور جزء يسير من السنة أن داعش خطر عليهم وليست مكسباً للطائفة، ومع توالي الدعم الأمريكي والإيراني، سواء بالتدريب أو الدعم النيراني، ومع تأسيس الحشد الشعبي ذي العصبية الطائفية، وإعادة بلورة الانتماء المهني للجيش العراقي، ولو بشكل محدود، كان أداء القوات المعادية لداعش أفضل كثيراً.
مع الوضع في الاعتبار أن أحد أسباب هزيمة داعش الرئيسية أيضاً، كان أنها توسعت في اكتساب الخصوم الذين تكالبوا عليها؛ حيث كانت تحارب في بعض الأوقات في سوريا والعراق كلاً من أكراد العراق وسوريا والجيش والشرطة العراقيين والحشد الشعبي وبعض الميليشيات السنية العراقية والمعارضة السورية، وجبهة النصرة، وجيش بشار الأسد والجيش اللبناني، ومن الجو كانت تقصف من الروس والإيرانيين والأمريكيين ومعهم التحالف الدولي الذي ضم دولاً غربية وعربية.
ولكن إذا لم يكن هذا التكالب من الخصوم والدعم العسكري الخارجي النيراني، متضافراً مع شد العصب الشيعي والكردي، وشعور الطائفتين بأن مصيرهما على المحك، وانضمام السنة لهما، لكانت النتيجة لتكون مختلفة.
ولكن في حال الجيش الأفغاني المنحل حدث العكس؛ إذ خيرته طالبان بين مصيري قتال، قد يؤديان للموت أو استسلام لن يعقبه انتقام مثلما وعدت الحركة، خاصة بعد أن قامت بخليط من الرشاوى والتسويات مع قادة قبليين وعسكريين وسياسيين، وبالفعل لم يرصد عمليات ثأر كبيرة من طالبان بعد انتصارها رغم الدعاية الغربية التي كانت تنذر الأفغان بمصير قاتم.
ماذا يوجد لدى أوكرانيا مختلف عن الجيش الأفغاني؟
بناء على ما سبق يوجد لدى الجيش الأوكراني رغم مشكلاته العسكرية وتلك المرتبطة بالفساد أشياء عدة افتقدها الجيش الأفغاني المنحل.
لدى الجيش الأوكراني وحدة، وتوحد في مواجهة العدو، فرغم انقسام المجتمع الأوكراني تقليدياً بين مؤيدين لروسيا ومعادين لها، إلا أن البلاد ومؤسساتها ازدادت هيمنة المناهضين لروسيا عليها منذ عام 2004 خاصة في وسط البلاد (غرب أوكرانيا تقليدياً مناهض لموسكو وشرقها وجنوبها قريب منها)
ولكن بعد الإطاحة بالرئيس الموالي لروسيا فيكتور يانكوفيتش، عام 2014، وما أعقب ذلك من احتجاجات في المناطق الناطقة بالروسية في شرق البلاد وجنوبها، وهي الاحتجاجات التي استغلتها روسيا لضم القرم وفصل إقليم دونباس، فإن التوجهات المعادية لموسكو اشتدت عودها في الوسط والغرب، وانتقلت للشرق والجنوب، بينما ازداد ضعف مؤيدي روسيا بعد أن أحرجتهم وجرحت شعورهم الوطني عندما استغلت أزمة داخلية لتحقيق مكاسب إقليمية، مما جعلها عدواً حتى لقطاع كبير من الأوكرانيين الناطقين بالروسية بعد أن كانوا يرونها أخاً كبيراً.
وفي ذلك الوقت لعب الجيش الأوكراني على الرغم من ضعفه، دوراً كبيراً في إفشال خطط روسيا وأنصارها في توسيع المناطق الموالية لها، حيث وأد الجيش الأوكراني محاولات فصل أو تمرد مناطق مهمة ناطقة بالروسية مثل مدينة خاركييف الشمالية التي يتحدث نحو نصف سكانها بالروسية، أو مدينة أوديسا الجنوبية التي يتحدث ثلاثة أرباع سكانها بالروسية.
الجيش الأوكراني تعرض لإهانة لا تنسى من الأخ الأكبر
ومنذ أزمة عام 2014، أصبحت النغمة المعادية لروسيا هي السائدة في كل أراضي أوكرانيا غير المحتلة، وظهر أثر ذلك واضحاً، في عدم ظهور أي تأييد من قبل الناطقين بالروسية لغزوة موسكو لبلادهم حتى في المناطق غير الانفصالية في إقليم الدونباس ذي الأغلبية الناطقة بالروسية والذي يفترض أنه معقل التأييد لموسكو في البلاد.
كما أظهر سلوك الجيش الأوكراني في عام 2014، أنه موحد ضد روسيا باعتبارها العدو الوحيد لبلاده وأن هذه باتت أيديولوجيته التي ترسخت منذ ذلك الحين.
وحتى لو كان هناك قطاع من الجيش الأوكراني كان مؤيداً لروسيا امتداداً لانقسامات البلاد، فإن احتلال الروس لأجزاء من أوكرانيا حسم موقفهم؛ لأن الجيوش النظامية الحديثة، بطبيعتها الفطرية تعتبر سلامة واستقلال وانضباط بلادها جزءاً من مهمتها وهي لا تقبل قضم أي جزء من أراضيها أو تهديد استقلالها حتى لو كان الأمر يأتي من حليف.
أزمة حدثت في دولة عربية تثبت خطورة إهانة أي جيش
وتجدر الإشارة إلى أن هناك أزمة شهيرة حدثت في دولة عربية عام 1958.
ففي ذلك الوقت كان لبنان يشهد استقطاباً بين المسلمين المؤيدين للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، والذين زاد حماسهم، بإعلان الوحدة بين مصر وسوريا تحت قيادة عبد الناصر، بينما كان المسيحيون قلقون من أن يسعى المسلمون أو عبد الناصر لضم لبنان للدولة الموحدة ذات الغالبية المسلمة، وأعلن الرئيس اللبناني الماروني الموالي للغرب في ذلك الوقت كميل شمعون الانضمام لمشروع أيزنهاور لما يسمى ملء الفراغ في الشرق الأوسط ضد الشيوعية والقومية العربية وهو المشروع الذي رفضه عبد الناصر.
ونشبت أزمة كبيرة في ذلك الوقت، لأسباب عديدة منها القلق المسيحي من النفوذ المصري، واستغلال الرئيس كميل شمعون الأزمة لتنظيم انتخابات نيابية وفرت له الأغلبية لتعديل الدستور لتمديد ولايته مقدماً ذلك بأنه في إطار التصدي للنفوذ الناصري.
ومع استفحال الأزمة إثر اعتراض الساسة المسلمين حتى كادت تصل لحرب أهلية، بدأ الجيش الأمريكي يستعد لإنزال في لبنان لدعم حكومته في مواجهة ما قيل إنه مخاطر لتدخل جيش دولة الوحدة المصرية السورية لصالح المعارضة المسلمة.
اللافت في هذه الأزمة، أن الجيش اللبناني الذي كان يسيطر عليه تماماً المسيحيون وكان يعد معقلاً للشعور الطائفي الماروني، هدد بالتدخل ضد الإنزال الأمريكي، رغم أنه يفترض به أن يؤيد القوى السياسية المارونية التي طلبت الدعم الغربي، ولكن المساس باستقلال البلاد، حتى بالنسبة لجيش صغير وطائفي، مثل الجيش اللبناني لم يكن يتحمله حتى لو جاء من أمريكا التي كان ينظر لها على أنها راعية الموارنة باعتبارهم الطائفة الأكثر تغريباً في المنطقة والأكثر عداء للتوجهات الاشتراكية والعروبية التي ظهرت في المنطقة في ذلك الوقت، وكانت قوية للغاية بين مسلمي لبنان.
وهذا ما لم يفهمه بوتين منذ أزمة 2014، عندما ضم القرم وفصل الدونباس، وهو أنه لم يفقد فقط تأييد قطاع كبير من الناطقين بالروسية في أوكرانيا، ولكن أصبح عدواً للجيش الأوكراني بعد أن أهانه بانتزاع أراضيه، ولذا لم يحدث أي استجابة للدعوة الروسية في بداية الحرب لتولي السلطة من الحكومة المدنية المنتخبة، وأصبح الجيش الأوكراني محوراً للمقاومة، وليس القوميين الأوكرانيين كما يقول الكرملين.
بالإضافة لذلك، توفر للجيش الأوكراني، الحد الأدنى من الاستقلال في علاقته مع داعميه الأمريكيين، فرغم وضوح ضخامة التأثير الأمريكي عليه ومتانة العلاقات الأمريكية معه، ولكن ليس جيشاً من صنع أمريكا مثل الجيش الأفغاني السابق.
وهناك أمر آخر لم يتوفر للجيش الأفغاني، وهو المزيج السليم من التدريب والأسلحة الملائم للمعركة وليس المشابه للنمط الأمريكي، فلم يزود الأمريكيون الجيش الأوكراني بدبابات أبرامز أو طائرات إف 15 التي لم تكن لتغني أي أعداد بسيطة أو حتى متوسطة منها الجيش الأوكراني شيئاً أمام التفوق الساحق للجيش الروسي، بل زودت واشنطن كييف بأسلحة ملائمة لتوازن القوى المعيب الذي تعانيه أمام الجيش الروسي، أسلحة ملائمة لحرب المدن، ولتنفيذ هجمات ضد جحافل الدبابات الروسية من المدن والغابات والحقول، وأنظمة دفاع جوي خفيفة لن تدمر الطائرات الروسية، ولكن تجعل قدرتها على دعم القوات الأرضية صعبة، وتؤخر تحقيقها للهيمنة الجوية اللازمة للانتصار.
كما أن الأسلحة التي نقلها للجيش الأوكراني إما جرى التدريب عليها، أو هي بسيطة أو تنتمي للمدرسة السوفيتية التي ينتمي لها الجيش الأوكراني، عكس ما حدث في أفغانستان.
إضافة لذلك، فإن مستوى الأسلحة والتدريب ملائم، للمستوى الفني للجيش الأوكراني، ولم يتكرر خطأ منع جرعة وأسلحة وتدريب أعلى من قدرات الأفراد، كما حدث في أفغانستان.