تونس: فقدان السلع المدعمة من الأسواق ينبئ بصيف من جمر.. فهل بلغت الأزمة ذروتها؟
تشهد تونس منذ أشهر فقدان المواد الغذائية الأساسية من قمح وشعير وطحين وبيض وأرز من الأسواق، وعندما تتوفر هذه المواد تكون بكميات قليلة ما تنفك تختفي بسرعة من المحلات التجارية بسبب ارتفاع الطلب عليها.
وقد ساهم الارتفاع المتواصل لأسعار المنتوجات الغذائية والمحروقات في الآونة الأخيرة من حدة الأزمة الاقتصادية الشاملة التي تعيشها البلاد منذ السنة الماضية، ما يؤشر إلى فرضية اندلاع اضطرابات اجتماعية تؤثر على السلم الأهلي في البلاد.
كيف اختفت المنتوجات الغذائية الأساسية؟
تتزايد مخاوف التونسيين من فقدان هذه المواد في الأسواق خصوصاً إثر اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا؛ لأن البلاد تستورد 80% من إجمالي وارداتها من القمح من هذين البلدين، ومخزونها الاستراتيجي من الحبوب ينتهي في شهر حزيران/يونيو فقط.
وفاقمت تداعيات وباء كوفيد-19 في العامين 2020 و 2021 من الأزمة، حيث سجل الاقتصاد التونسي انكماشاً بنسبة 9%، واختلت الموازنة العامة للبلاد، إذ تشكو ميزانية الدولة لسنة 2022 نقصاً بقيمة 9,3 مليار دينار (3,2 مليار دولار) أي 6,7 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي.
ومن المتوقع أن يبلغ إجمالي متطلبات الاقتراض 18,7 مليار دينار في السنة الحالية بما يرفع الدين العام 82,6% من الناتج المحلي الإجمالي.
ويمتنع صندوق النقد الدولي إلى حد اللحظة عن منح تونس قرضاً جديداً بقيمة العجز في قانون المالية لسنة 2022 قبل أن يتم اعتماد إصلاحات اقتصادية موجعة تتمثل في رفع الدعم الحكومي عن المواد الأساسية مثل الطحين والسميد والأرز والزيت النباتي (زيت الصويا) والمحروقات.
ومن الشروط الأخرى التي يطرحها المانحون الدوليون من الرئيس التونسي قيس سعيد لتقديم مساعدات وقروض فتح حوار وطني مع المكونات السياسية في البلاد والاتفاق حول البرنامج السياسي والاقتصادي للمرحلة القادمة إلا أن الرئيس لا يزال يرفض أي شكل من الحوار مع من وصفهم بـ"المناوئين" و"المفسدين" و"العملاء".
وقد صعّب العجز في ميزانية الدولة لسنة 2022 وارتفاع الأسعار العالمية للحبوب والمحروقات بسبب الحرب الروسية الأوكرانية المهمة أمام الحكومة التونسية ورئاسة الدولة لتزويد السوق التونسية بحاجياتها من هذه المواد الحيوية.
ونبه تقرير نشرته "مجموعة الأزمات الدولية" في كانون الثاني/يناير الماضي إلى أن تونس "بالكاد تتمكن من دفع رواتب الموظفين وسداد ديونها الخارجية".
وأفلست أو غادرت البلاد أكثر من 80 ألف شركة خاصة في تونس بسبب تدهور الوضع الاقتصادي، وفق المعهد الوطني للإحصاء (حكومي).
ارتجالية أم مقاومة للاحتكار؟
تحولت في الآونة الأخيرة أزمة فقدان أو اضطراب توزيع المواد الغذائية في الأسواق التونسية إلى الخبز اليومي في خطابات وتصريحات الرئيس مؤخراً، حيث يتهم أطرافاً لا يسميها باحتكار هذه السلع.
وقال سعيد في فيديو نشرته الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية حول زيارته إلى مقر وزارة الداخلية بتاريخ 09 مارس/آذار: "أريدها حرباً بلا هوادة ضدّ هؤلاء المحتكرين المجرمين، وذلك بالتأكيد في إطار القانون".
وأضاف: "لا بد من تحميل كل طرف مسؤوليته كاملة؛ لأن المناوئين للشعب التونسي هدفهم التنكيل به في كل مظاهر الحياة، فمرة يتعلق الأمر بالأدوية الحياتية، ومرة بالبنزين والفضلات، وهذه الأيام بالنسبة لعدد من المواد الأساسية كالقمح والزيت المدعم".
وأشار إلى أن ما يحصل ليس من قبيل الصدفة، ولكنه بتدبير وبترتيب مسبق ممن يهزّهم الحنين إلى ما قبل 25 يوليو/تموز 2021. كما شدد على ضرورة مراقبة مسالك التوزيع والتصدي بكل الوسائل القانونية المتاحة للمحتكرين والمضاربين.
إلا أن متابعين للشأن الداخلي يرون أن هذه التصريحات غير كافية لتبرير مسببات الأزمة على اعتبار أنه يغيّب دور الدولة في توفير هذه المواد المنقوصة.
هذا وينتقد معارضو سعيد أداءه في إيجاد حلول فعالة للمشاكل التي تعيشها البلاد، متهمين إياه بأنه سياسي شعبوي، يفتقد لرؤية سياسية واقتصادية واضحة لإدارة البلاد وتسيير شؤون التونسيين على المدى القريب والمتوسط.
كما أن خبراء في الاقتصاد والمالية يعتبرون أن سعيّد يتعامل بأسلوب ارتجالي وسطحي مع مسألة فقدان المواد الأساسية من الأسواق وارتفاع أسعار السلع الغذائية والمحروقات، ولا يعتمد على أهل الاختصاص من خبراء ومستشارين أكفاء لإيجاد حلول عاجلة وناجعة للأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد.
ويشتكي الفلاحون والتجار والصناعيون في تونس من ارتفاع تكلفة المواد الأولية والمحروقات التي يستخدمونها في تحضير منتوجاتهم، مما يضطرهم لرفع أسعار سلعهم، إلا أن تدخل الدولة في تحديد سياسة الأسعار دون مراعاة هذه العوامل يجعل المنتجين مجبرين على إيقاف الإنتاج أو التخفيض فيه، والمزودين إلى تخبئة المنتوجات الغذائية القليلة لخلق ما يعرف بوضع "الندرة" في الأسواق، وهو ما سيزيد من الطلب على السلع وبالتالي الرفع في أسعارها.
وينتقد الخبير الاقتصادي عز الدين سعيدان "غياب برنامج اجتماعي" لسعيّد الذي أعلن حملة "لتطهير البلاد" من الفساد.
ويقول، في تصريحات لوكالة الأنباء الفرنسية: "لا يلتقي بخبراء في الاقتصاد. يجتمع بخبراء في القانون فقط، بينما مشكلتنا ليست قانونية. هناك أزمة اقتصادية واجتماعية".
ويخلص سعيدان إلى القول بأن الأزمة الحالية يمكن أن تتسبب في غياب الاستقرار الاجتماعي، ويقول: "وكأنه الهدوء الذي يسبق العاصفة. تنتظر البلاد فقط شرارة كما كان الأمر في العام 2010″، بحسب تعبيره للوكالة الفرنسية.
الأسوأ لم يأتِ بعد
يرجع البعض تردي الوضعين الاقتصادي والاجتماعي في تونس في الأشهر الأخيرة لغياب استراتيجية حكم ناجعة والتفرد بإدارة الشأن العام حتى في أوج أزمة نقص المواد الغذائية غير المسبوقة التي تعيشها تونس في المرحلة الراهنة.
وفي هذا السياق، قال الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي، لدى افتتاحه ندوة وطنية للاتحاد بتاريخ 7 مارس/آذار إن "تونس تمر بمنعرجات خطيرة وبلغت مرحلة دقيقة جداً اليوم لم يعد من الممكن فيها الحديث عن الحقوق والمكتسبات في ظل واقع أصبحت فيه المستلزمات الغذائية الضرورية والاساسية مفقودة لدى المواطن التونسي، مشيراً إلى أن "الوضع لم يعد يحتمل أكثر وقد آن الأوان لتعديل البوصلة وإنقاذ البلاد".
حديث الأمين العام لأهم منظمة عمالية في البلاد عن خطورة الأوضاع وافتقاد المستلزمات الغذائية الأساسية في البلاد بتلك الحديّة يؤشر على وجود اضطرابات اجتماعية مخيفة في الأفق.
ويرى مراقبون أن المجتمع التونسي يمكن أن يتغاضى عن عدة أشياء، لكنه لا يتغاضى عن أمنه الغذائي والاجتماعي، وهذا ما يفسر حالة الغضب الشديد التي يعيشها الشعب التونسي في الآونة الأخيرة والتي تمظهرت في عمليات إيقاف شاحنات نقل السميد والمواد الأساسية في الطرقات ومحاولات السطو على حمولاتها قبل وصولها للمحلات التجارية.
وقد كشفت دراسة حديثة للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (مجتمع مدني) عن توسّع قاعدة الفقر في تونس، إذ إن "ثلث السكان يعيشون في حالة الفقر وحتى الطبقة المتوسطة تآكلت في تونس، نتيجة السياسات الاقتصادية الخاطئة وانخفاض نسبة النمو، وانعدام خلق الثروة بسبب التداين المفرط".
وبعد ما كان التونسيون يطالبون بالحرية السياسية والكرامة الاجتماعية خلال ثورة 17 ديسمبر– 14 يناير أصبحوا اليوم يطالبون بتوفير الحد الأدنى من مستلزمات العيش من موارد غذائية أساسية ومحروقات بأسعار تتناسب مع الدخول الضعيفة لفئات كثيرة منهم.
ويتوقع الكثيرون أن تؤدي الأزمة الغذائية الأخيرة إلى نوع جديد من الاحتجاجات تشارك فيها الفئات الشعبية المسحوقة والأكثر تضرراً من سياسيات الدولة الحالية، والتي لن يقف في طريق استرجاع حقوقها الاجتماعية والاقتصادية أي عائق بعد أن تحول الحكام الحاليون إلى حاجز بينهم وبين حاجياتهم الحياتية الأساسية المتمثلة في الغذاء والوقود.