هل تندلع انتفاضة عربية جديدة بسبب أزمة الغذاء التي تسببت بها الحرب في أوكرانيا؟ بات هذا السؤال مطروحاً بقوة في الآونة الأخيرة، خصوصاً أن احتجاجات الربيع العربي التي اندلعت قبل نحو 10 سنوات، كان الغذاء ورغيف الخبز هو الصاعق الذي فجرها وأدى في النهاية لإسقاط أنظمة كان يعتقد أنها لا تتزحزح.
هل تبدأ موجة جديدة من الربيع العربي في المنطقة؟
بالفعل، اندلعت احتجاجات في المنطقة منذ تفجر أزمة القمح وارتفاع أسعار الغذاء التي تسببت بها الحرب الروسية الأوكرانية وموجات العقوبات على موسكو، فقد احتشد مئات المتظاهرين الأسبوع الماضي في وسط مدينة الناصرية جنوب العراق اعتراضاً على ارتفاع أسعار الخبز وزيت الطهي وسلع أخرى، حيث ارتفعت أسعار المنتجات المستوردة من أوكرانيا بنسبة تصل إلى 50% منذ بدأت الحرب هناك.
ثم في هذا الأسبوع، نزل آلاف السودانيين إلى الشوارع احتجاجاً على استمرار الحكم العسكري للبلاد، وعلى ارتفاع أسعار الخبز بنسبة تصل إلى نحو 50% أيضاً.
جاء ارتفاع أسعار السلع الغذائية في كلا البلدين بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا، فالأخيرة قوة زراعية بارزة وأحد أهم منتجي القمح في العالم، فضلاً عن كونها أكبر مصدِّر لزيوت البذور. ويذهب نحو نصف القمح الأوكراني إلى بلدان الشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه، فإن روسيا أكبر مصدِّر للقمح في العالم.
يقول خبراء السوق إن الإمدادات من كلا البلدين في خطر بسبب الحرب، وإن الاضطرابات ستؤدي إلى ارتفاع أسعار القمح عموماً، وقد ارتفعت بالفعل بنسبة
50% خلال الشهر الماضي لتقترب من أعلى مستوى لها في 14 عاماً، ومن ثم بدأت تشتد تداعيات ذلك الارتفاع على دول الشرق الأوسط.
الخبز هو "عقد اجتماعي" في الشرق الأوسط
ويعتبر الخبز غذاء أساسياً في الشرق الأوسط، يؤكل مع معظم الوجبات. ويذهب الباحثون إلى أن الخبز والحبوب، مع بعض التفاوت بين بلد وآخر، يكوِّنان ما يصل إلى نصف متوسط النظام الغذائي المحلي هناك، في حين يصل إلى الربع من متوسط النظام الغذائي للأوروبيين.
وأوضح مايكل تانشوم، الباحث البارز في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية والمتخصص في الاقتصاد السياسي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في حديث مع شبكة Deutsche Welle الألمانية، أنه "في هذه البلدان، يعد توفير الخبز ميسور التكلفة للجماهير العاملة عقداً اجتماعياً"، لذلك فإن كثيراً من دول الشرق الأوسط تدعم توفير الخبز للأسر ذات الدخل المنخفض. وفي الماضي، حفَّز ارتفاع أسعار الخبز تغييرات سياسية في المنطقة.
مصر، على سبيل المثال، تملك تاريخاً ممتداً من الاحتجاجات و"أعمال الشغب المرتبطة بالخبز"، ففي عام 1977، أقرت الحكومة إصلاحات اقتصادية شهدت تخفيض الدعم الحكومي وارتفاع أسعار المواد الغذائية، فاشتعلت مظاهرات عنيفة في جميع أنحاء البلاد أسفرت عن 70 حالة وفاة على الأقل.
وفي عام 2011، كان شعار "عيش، حرية، عدالة اجتماعية" أحد أبرز الشعارات الشعبية في المظاهرات التي أزاحت نظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك خلال الربيع العربي.
وجد الباحثون الذين بحثوا في الأسباب التي أدت إلى اندلاع احتجاجات الانتفاضة العربية في عام 2011، أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية وانعدام الأمن الغذائي، غالباً بسبب تغير المناخ، كانا سببين بارزين، إضافة إلى السخط العام لدى الجمهور على زعماء بلاده المستبدين.
واستمرت الظاهرة بعد سنوات من ذلك، فقد أسقطت احتجاجات واسعة النطاق الرئيسَ السوداني عمر البشير في عام 2019 بعد أن اشتعلت سخطاً على تضاعف أسعار الخبز 3 مرات.
وفي تقرير حديث نشره "معهد الشرق الأوسط" الأمريكي في فبراير/شباط، قال محللون: "إن ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء بسبب أزمة أوكرانيا يمكن أن يؤدي إلى تجدد الاحتجاجات وانعدام الاستقرار في عدة بلدان في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا".
مخاوف من أزمات إنسانية في معظم بلدان الشرق الأوسط
من جهته، يقول فريد بلحاج، نائب رئيس البنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إن مخاوف منظمته شديدة بشأن سوريا ولبنان واليمن، وهي بلدان تعاني بالفعل ضعف حكوماتها وهشاشة اقتصادها، كما أنها تعتمد اعتماداً كبيراً على استيراد القمح من الخارج.
يبدو أن ارتفاع أسعار الخبز والسلع الاستهلاكية الأخرى، علاوة على أنواع الوقود المهمة مثل الديزل، أمرٌ لا مفر منه في الشرق الأوسط، لكن هل سيستدعي ذلك تغييراً سياسياً جذرياً مرة أخرى؟
تقول وكالة DW الألمانية إن بعض الخبراء الذين تحدثت معهم لا يغلب على ظنهم ذلك. وفي هذا السياق، قال جون راين، الاستشاري في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن: "سيتعرض الناس لضغوط اقتصادية شديدة، لكنني لست متيقناً بأن ذلك سيؤدي إلى صدمة هائلة كالتي رأيناها في المرة الماضية [خلال انتفاضة الربيع العربي في عام 2011]".
وأرجع راين رأيه إلى أن معظم دول المنطقة "في وضع سياسي مختلف بشدة الآن. وحكومات [الشرق الأوسط] بعضها بات أشد سيطرة وتخلَّص من أحزاب المعارضة، وبعضها الآخر تحول إلى نظام سياسي يتمتع بنوع من المرونة، نتيجة السنوات العشر الماضية".
انتقال تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية بين دول الشرق الأوسط
من جهته، يقول تانشوم، المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، إن ما سيحدث بعد ذلك يتوقف على طبيعة تعامل حكومة كل بلد مع هذه الأزمة، من جهة رشادة الحكم أو غيابها.
ويرى تانشوم أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية في الشرق الأوسط يُنذر باحتشاد الأسباب التي قد تؤدي إلى "عاصفة شديدة" في المنطقة، فقد بدأ انقطاع الإمدادات منذ جائحة كورونا، ثم سوء إدارة العالم للأزمة، علاوة على أن تغير المناخ جعلَ دول الشرق الأوسط عاجزة عن إنتاج الكميات التي كانت تنتجها سابقاً من الحبوب.
وأوضح تانشوم: "في يونيو/حزيران 2021، بلغ مستوى التضخم في أسعار المنتجات الغذائية المستوى الحرج نفسه الذي سبق اندلاع الربيع العربي. وقد زادت هذه الأسباب تأججاً بعد غزو روسيا لأوكرانيا".
أمَّا عن تفاقم الأوضاع إلى احتجاجات أو حتى تغيير سياسي عنيف، فإن تانشوم يرى أن ذلك يتوقف على مدى "رشادة الحوكمة وفاعليتها، وقدر المظالم التي يحملها الناس على أنظمة حكمهم".
وأوضح تانشوم أن الحوكمة الفعالة في هذه الأزمات تشمل عدة تدابير منها تخزين الحبوب. وفي هذا السياق، نجد أن انفجار ميناء بيروت عام 2020 دمر مخزون الحبوب الأساسي في لبنان، وأصبح البلد يملك بالكاد إمدادات شهر من القمح. أما مصر، فإنها تملك إمدادات تكفيها ما بين 6 إلى 9 أشهر.
وقال تانشوم إن الأمر يعتمد أيضاً على طبيعة التداعيات الناشئة ومدى انتقالها من بلد إلى آخر في المنطقة، إذ غالباً ما تنتقل التأثيرات في منطقة الشرق الأوسط من الدول إلى جيرانها، ودول شمال إفريقيا وساحل البحر المتوسط ستكون عرضة للخطر على وجه الخصوص.
وخلص تانشوم إلى أن الشرق الأوسط قد يشهد بعض الاضطرابات، إلا أنها لن تكون بشدة الانتفاضات التي شهدتها المنطقة في عام 2011، حسب تعبيره.