منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، سارعت القوات الروسية والانفصاليون الموالون لها في إقليم دونباس للتوسع غرباً على طول الشريط الساحلي جنوب أوكرانيا، وقد نجحت موسكو بدخول معظم المدن والموانئ والسيطرة عليها، إلا أنها لم تنجح بعد بالوصول إلى مدينة أوديسا الاستراتيجية جنوب شرق البلاد، وإذا تم الاستيلاء عليها، ستسيطر روسيا على الساحل الأوكراني بأكمله وتعزل الجنوب عن بقية البلاد، وتمنع وصول كييف إلى البحر.. فإلى أين وصلت المعركة على أوديسا؟
"الجائزة الكبرى" هي أوديسا.. كيف تسعى روسيا للسيطرة عليها؟
تعتبر مدينة أوديسا وميناؤها في جنوب غرب أوكرانيا هدفاً رئيسياً للكرملين منذ بداية الحرب، نظراً لتاريخها وموقعها الاستراتيجي على البحر الأسود وأهميتها الاقتصادية لأوكرانيا، إذ تمثل العصب الاقتصادي للبلاد.
تقع مدينة أوديسا على بُعد 300 كيلومتر غرب شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا إليها في عام 2014، واستولت القوات الروسية، التي تتقدم غرب شبه جزيرة القرم، على مدينة خيرسون الساحلية بالفعل ووصلت إلى ميكولايف، على بعد 120 كيلومتراً شرق أوديسا، كما شوهدت سفن تابعة للبحرية الروسية بالقرب من المياه الإقليمية الأوكرانية.
وبينما يستعد الجنود الأوكرانيون والمتطوعون لحماية المدينة، تستعد روسيا للسيطرة على أوديسا من البر والبحر، لكن عليها أولاً تجاوز مدينة ميكولايف المجاورة لأوديسا، والتي تحولت إلى جبهة ساخنة جديدة في الحرب الدائرة بجنوب أوكرانيا.
تخوض القوات الروسية معارك عنيفة في ميكولايف وتمطرها بالصواريخ بشكل متواصل، وقد قتل وأصيب العشرات من الجنود الأوكرانيين بغارة جوية روسية على قاعدة عسكرية في ميكولايف يوم الإثنين 14 مارس/آذار بحسب ما أوردت تقارير أجنبية، ويشتد القتال في المناطق السكنية المدنية، كما يتم قصف الطرق، في حين يفر مئات الأشخاص كل يوم باتجاه الشمال والغرب، كما يقول تقرير لمجلة foreign policy الأمريكية.
ويقول الضابط في الجيش الأوكراني ياروسلاف تشيبورني للمجلة الأمريكية: "إن هدف روسيا هنا ليس سراً، تريد العبور نحو أوديسا، وبينما تستعد أوديسا لهجوم محتمل، فإن مدينتنا ميكولايف تتحمل بالفعل العبء الأكبر".
لكن قد لا يطول صمود مدينة ميكولايف طويلاً؛ لأن تضاريسها لا تساعد كثيراً بالدفاع عنها؛ إذ يقول جوستاف جريسيل، الباحث في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: "هناك الكثير من الحقول المفتوحة والأراضي المنبسطة، لذا إذا اصطدم الروس بالجنود الأوكرانيين، فقد يحاولون التحايل عليهم بدلاً من محاربتهم".
وتحاول بعض القوات الروسية تجاوز ميكولايف بالفعل، بينما يخوض البعض الآخر قتالاً نشطاً هناك. في غضون ذلك، تحاول القوات الأوكرانية منع الروس من عبور نهر باغ الجنوبي، النهر الرئيسي الذي يقسم ميكولايف وإحدى آخر العقبات الرئيسية في طريق الجيش الروسي نحو أوديسا.
ويوم الأربعاء 16 مارس/آذار 2022، أعلن مستشار وزير الداخلية الأوكرانية أنطون غيراشينكو، قصف السفن الحربية الروسية سواحل مدينة أوديسا، وفي تغريدة عبر حسابه على تويتر، قال غيراشينكو: "منذ حوالي ساعة، شن الغزاة الروس قصفاً صاروخياً ومدفعياً من السفن على الساحل الأوكراني في منطقة أوديسا بالقرب من قرية توزلا. أطلقت السفن كميات كبيرة من الذخيرة من مسافة بعيدة، لم تكن هناك محاولات لإنزال القوات".
السيطرة على ميناء أوديسا قد يؤثر على نتيجة الحرب بأكملها
تعتبر مدينة أوديسا من الأصول الاستراتيجية لكل من أوكرانيا وروسيا، وسيكون لسقوطها تداعيات كبيرة، ليس فقط على البلدين، ولكن أيضاً على الدول المطلة على البحر الأسود، كما يحذر خبراء.
يوم الأحد 13 مارس/آذار، قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إن الجيش الروسي يخطط لشن هجوم عنيف على المدينة، واصفاً إياه بـ"جريمة تاريخية". وفي وقت سابق من الأسبوع الماضي، أقال الرئيس الحاكم المدني لإقليم أوديسا، سيرهي هرينيفيتسكي، واستبدله ماكسيم مارشينكو، وهو كولونيل بالجيش والقائد السابق لكتيبة أيدار المثيرة للجدل، والتي تقاتل في منطقة دونباس في شرق أوكرانيا منذ عام 2014.
وقد أقام الجيش الأوكراني بالفعل مواقع دفاعية في أنحاء أوديسا، وفرض حظر تجول وأقام حواجز على جميع مداخل المدينة التي يبلغ عدد سكانها مليون نسمة. وأغلقت الموانئ أمام الشحن التجاري فيما بدأت عمليات إجلاء المدنيين.
أوديسا لها أهمية استراتيجية عسكرية واقتصادية لأوكرانيا، فبعد خسارة قاعدتها البحرية في سيفاستوبول بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014، نقلت البحرية الأوكرانية مقرها هناك.
وتلعب الموانئ التي تسعى روسيا لإحاكم سيطرتها عليها أيضاً دوراً مهماً في اقتصاد البلاد، إذ تمثل حوالي 70% من جميع الواردات والصادرات الأوكرانية في شكل شحن بحري، وتتولى أوديسا حوالي 65% من ذلك.
ويقول أليكسي مورافييف، الأستاذ المشارك للأمن القومي والدراسات الإستراتيجية في جامعة كيرتن الأسترالية، لقناة الجزيرة الإنجليزية: "بالنسبة لأوكرانيا، تمثل أوديسا شريان حياة محورياً إلى الخارج، إذا استولت روسيا على أوديسا، فإنها ستقطع فعلياً أوكرانيا عن التجارة الخارجية والمساعدات العسكرية".
وقد يكون لخسارة المدينة الساحلية تداعيات كبيرة على أوكرانيا وجهودها الحربية ومنح روسيا ميزة استراتيجية؛ إذ ليس لدى أوكرانيا أي موانئ كبيرة أخرى يمكن الاعتماد عليها في حال فقدت السيطرة على ثالث أكبر مدنها، مما يسمح لروسيا بالسيطرة بشكل فعال على الساحل الشمالي للبحر الأسود.
ستلعب معركة أوديسا أحد الأدوار الرئيسية في تحديد النتيجة السياسية المستقبلية للصراع الحالي، وبالنسبة لروسيا، قد تكون السيطرة الكاملة على سواحل البحر الأسود وبحر آزوف في أوكرانيا أكثر أهمية من الاستيلاء على خاركيف أو غرب أوكرانيا مجتمعين، كما يقول مورافييف.
وتعتبر أوديسا ثالث أكبر مدن أوكرانيا وعاصمتها الاقتصادية، كما تُعَدُّ منتجعاً سياحياً ولها أهميةٌ استراتيجية. وترجع الأهمية الجوهرية للمدينة إلى دورها في تصدير السلع الزراعية، وخام الحديد، والتيتانيوم؛ إذ إن أوكرانيا غنيةٌ بالمعادن، وعادةً ما تسافر هذه المعادن عبر البحر.
وتُسافر جميع البضائع السائبة الأوكرانية، ومنها الحبوب، إلى أوروبا عبر البحر، وبالتالي فإن خسارة الساحل ستوجه ضربةً استراتيجية هائلة للاقتصاد الأوكراني، ولن يتمكّنوا من تصدير البضائع بشكلٍ فعّال إلى الاتحاد الأوروبي عن طريق البر أو السكك الحديدية، كما يقول الجنرال ريتشارد بارونز، القائد العسكري البريطاني السابق لصحيفة The Times البريطانية، ويضيف: "نحن نعلم أن خطوط النقل العادية لا يمكنها محاكاة وظائف الميناء على الإطلاق، سيكون الأمر أشبه بخسارة الاقتصاد البريطاني لميناء دوفر".
ويصل حجم منطقة أوديسا عموماً إلى قرابة حجم بلجيكا أو مولدوفا، وتغطي 5.5% من الأراضي الأوكرانية. كما تُعَدُّ المنطقة من المناطق الرئيسية المنتجة والمصدّرة للحبوب في أوكرانيا. وقد سبق أن حذَّر وزراءٌ من تأثير الهجوم على أوكرانيا في أسعار الحبوب حول العالم، خاصةً في مناطق مثل اليمن ولبنان ومصر وغيرها التي تعتمد على الحبوب الأوكرانية بشكلٍ كبير.
الروس يريدون أوديسا "سليمة" لهذه الأسباب التاريخية
تمتلك مدينة أوديسا أهمية رمزية خاصة لدى روسيا، بالنظر إلى المكانة المهمة التي تحتلها في الثقافة والتاريخ الروسيين، فقد تأسست المدينة عام 1794 على يد الإمبراطورة الروسية كاثرين العظيمة، وأصبحت أوديسا ميناءً بحرياً مهماً ومركزاً حضرياً عالمياً، ليس فقط للروس والأوكرانيين، ولكن أيضاً للجماعات الأرمينية والبلغارية واليونانية وغيرها. ومع هندستها المعمارية المزخرفة التي صممها فنانون إيطاليون وحياة ثقافية غنية، تحولت المدينة إلى أحد رموز هيبة الإمبراطورية الروسية وقوتها منذ القرن الثامن عشر.
وأعربت السلطات المحلية في أوديسا عن أملها في أن تؤدي الأهمية التاريخية للمدينة الساحلية إلى تجنيبها الغارات الجوية المدمرة التي تعرضت لها المدن الأوكرانية الأخرى.
ويقول عمدة المدينة، جينادي تروخانوف، لموقع الإذاعة الوطنية الأمريكية NPR: "إنهم يريدون أوديسا سليمة لقيمتها التاريخية، وكذلك البنية التحتية والهندسة المعمارية والمعنى الاستراتيجي. إنهم يريدون كل هؤلاء سالمين. لهذا السبب أعتقد أن أوديسا ستخضع لعملية خاصة".
السبب الآخر الذي يدفع روسيا للسيطرة على المدينة إلى جانب رمزيتها التاريخية، هي أنها موطن كبير للعرقية الروسية، وهو عامل ادعى بعض المراقبين الروس أنه قد يساعد في تسهيل السيطرة العسكرية على المدينة.
وفي عام 2014، عندما بدأت القوات الانفصالية المدعومة من روسيا التمرد في منطقتي دونيتسك ولوغانسك الشرقية ضد الحكومة المركزية في كييف، شهدت أوديسا أيضاً بعض أعمال العنف؛ حيث اشتبك القوميون الأوكرانيون المتطرفون مع الجماعات الموالية لروسيا التي تعارض الاحتجاجات الموالية للغرب، والتي بلغت ذروتها بمقتل أكثر من 40 شخصاً، ونجح الأوكرانيون بإيقاف محاولة تحويل أوديسا إلى جمهورية منفصلة مثل دونيتسك ولوغانسك.
وتعهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في خطابه الذي ألقاه في 21 فبراير/شباط 2022 والذي اعترف فيه "باستقلال وسيادة جمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوغانسك الشعبية"، بالعثور على المسؤولين عن أعمال العنف في أوديسا التي وقعت ضد الأقلية الروسية في عام 2014 ومحاسبتهم.
إذا نجحت روسيا بالسيطرة على أوديسا فقد تربطها بإقليم ترانسنيستريا في مولدوفا
تعد أوديسا آخر حلقة في إعادة بوتين إحياء مشروع "نوفوروسيا"، أو "روسيا الجديدة" التاريخي، والذي يتحدث عنه الرئيس الروسي منذ عام 2014؛ حيث كان المشروع جزءاً تاريخياً من الإمبراطورية الروسية، يشير إلى إقليم شمال البحر الأسود، الذي تَشكَّل كمقاطعة إمبراطورية جديدة تابعة لروسيا (مقاطعة نوفوروسيا) في عام 1764، مع أجزاء من المناطق الجنوبية الساحلية.
ويقول المحلل العسكري في صحيفة "إزفيستيا" الروسية، أنطون لافروف، في مقالة في مقالة سابقة له، إن "الجيش الروسي يعمل على حسم المعركة سريعاً جنوب أوكرانيا"؛ حيث تعمل موسكو على إحياء مشروع "نوفوروسيا"، كاتحاد كونفدرالي بين "جمهوريتَي" دونباس و5 مناطق ساحلية جنوبية تصل حتى أوديسا غرباً.
ويوضح لافروف أن ذلك يعني أن يعمل الجيش الروسي على السيطرة على المنطقة الممتدّة من ماريوبول حتى أوديسا، وهذا ما يؤدّي مباشرة إلى عزل أوكرانيا عن بحرَي أزوف والأسود، بحيث تتحوّل إلى جيب برّي فقط، مشيراً إلى أن السيناريو المشار إليه سيُمكّن روسيا من الوصول إلى إقليم ترانسنيستريا الانفصالي الموالي لروسيا في جمهورية مولدوفا، وهو ما يُعدّ بالتأكيد مفيداً لموسكو، كونه "سيسمح بإغلاق الملفّ الأوكراني بشكل نهائي"، بحسب لافروف.
وتعتبر ما يعرف بـ"جمهورية ترانسنيستريا" أو (بريدنيستروفيه)، التي انفصلت عن مولدوفا في عام 1992، وعاصمتها تيراسبول، من مناطق "النزاع المجمد" بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وتقع ترانسنيستريا في الشريط الضيق بين نهر دنيستر والحدود الأوكرانية، ومعترف بها دولياً في الوقت الحالي كجزء من مولدوفا، وهي ذات نفوذ روسي؛ حيث تقيم بها أغلبية عرقية روسية، كما يحمل معظم سكانها الجنسية الروسية إلى جانب المولدوفية.
وفي عام 2003، أيدت روسيا طلب ترانسنيستريا الحفاظ على وجود عسكري روسي طويل الأمد في المنطقة، وبعد ضم شبه جزيرة القرم من قِبَل روسيا، في مارس/آذار 2014، طلب رئيس برلمان ترانسنيستريا الانضمام إلى الاتحاد الروسي، وهو ما أثار غضباً من قِبَل مولدوفا وحلف الناتو.
سقوط أوديسا سيؤثر أيضاً على الأمن الإقليمي للدول المطلة على البحر الأسود
وسيمكن الاستيلاء على أوديسا وفتح ممر بري منها إلى منطقة ترانسنيستريا عواقب سلبية ليس فقط على أوكرانيا، ولكن أيضاً على أمن جيرانها، كما يقول محللون، حيث تستضيف المنطقة حوالي 1500 جندي روسي تم نشرهم كجزء من قوة حفظ السلام التي تم إنشاؤها بعد اتفاق وقف إطلاق النار لعام 1992 بين كيشيناو والانفصاليين ترانسنيستريا. وكانت هناك تكهنات خلال السنوات الماضية بأن موسكو قد تسعى إلى ضمها إلى "دولة اتحاد الروسي" إلى جانب بيلاروسيا وجمهوريات أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية الانفصالية في جورجيا.
من المرجح أن يؤدي التحرك نحو ترانسنيستريا إلى زعزعة استقرار مولدوفا، التي يشابه وضعها أوكرانيا، فهي ليست عضواً في الناتو أو الاتحاد الأوروبي. لكنها في 3 مارس/آذار 2022، قدمت حكومة مولدوفا طلباً رسمياً للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، خوفاً من امتداد الحرب الروسية الأوكرانية.
وإلى الجنوب، تتابع بلغاريا ورومانيا بقلق الأحداث في أوكرانيا، حيث شعرت هاتان الدولتان بالتهديد بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم ونشرها لأنظمة الصواريخ هناك وتوسيع أسطولها في البحر الأسود، كما أن تركيا الدولة صاحبة أكبر إطلالة على البحر الأسود، لن تكون سعيدة بأي توسع روسي هناك على سواحل البحر الأسود، وقد كانت أنقرة قد أعلنت الأسبوع الماضي أنها قررت إغلاق المضائق المؤدية إلى البحر الأسود (البوسفور والدردنيل)، أمام السفن الحربية، وذلك بموجب اتفاقية مونترو التي تعطيها الصلاحية بذلك.