قد تؤدي الحرب التي شنّها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا ودفعه لقلب النظام الأمني الأوسع نطاقاً في أوروبا إلى تحول تاريخي في التفكير الأمريكي بشأن الدفاع عن القارة. واعتماداً على المدى الذي يصل إليه بوتين، قد يعني هذا زيادة في القوة العسكرية الأمريكية إلى أوروبا لم نشهدها منذ الحرب الباردة. فماذا يعني ذلك؟
تحول ملحوظ وحقبة جديدة من المواجهة مع روسيا
يقول تقرير لوكالة The Associated Press الأمريكية، إن احتمال وجود تواجد عسكري أمريكي أكبر في أوروبا يمثل تحولاً ملحوظاً عمّا كان عليه الحال قبل عامين فقط. ففي عام 2020، أمر الرئيس دونالد ترامب آلاف الجنود الأمريكيين بالخروج من ألمانيا بحجة أنَّ الأوروبيين حلفاء غير مستحقين.
لكن بعد أيام فقط من توليه منصبه، أوقف الرئيس جو بايدن الانسحاب قبل أن يبدأ، وشددت إدارته على أهمية حلف شمال الأطلسي (الناتو) حتى عندما حدد بايدن الصين باعتبارها التهديد الرئيسي طويل الأجل لأمن الولايات المتحدة. ثم جاء الهجوم الروسي على أوكرانيا.
يقول ألكسندر فيرشبو، سفير الولايات المتحدة السابق لدى روسيا ونائب الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي لوكالة AP: "نحن في حقبة جديدة من المواجهة المستمرة مع روسيا". ويجادل بأنَّ الولايات المتحدة، بالتعاون مع حلفاء الناتو، ستحتاج إلى اتخاذ موقف أقوى للتعامل مع التهديدات المتزايدة من روسيا. وينطبق هذا بالأخص في أوروبا الشرقية، حيث يطرح قرب روسيا مشكلة لدول البلطيق الثلاث التي كانت دولاً سوفييتية سابقة.
كان وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن متوجهاً إلى أوروبا، يوم الثلاثاء 15 مارس/آذار، لإجراء الجولة الثانية الأخيرة من المشاورات مع أوكرانيا في مقر الناتو في بروكسل. وسيسافر إلى دولتين من دول حلف شمال الأطلسي في أوروبا الشرقية؛ هما سلوفاكيا، المتاخمة لأوكرانيا، وبلغاريا، غير المتاخمة. وبعد اجتماع للناتو الشهر الماضي، زار أوستن حليفين آخرين على الجانب الشرقي؛ هما بولندا وليتوانيا.
ما حجم القوة الأمريكية التي تم تعزيزها في أوروبا؟
في الشهرين الماضيين فقط، قفز الوجود الأمريكي في أوروبا من نحو 80 ألف جندي إلى نحو 100 ألف، وهو عدد يقارب العدد الذي كان موجوداً في عام 1997 عندما بدأت الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو توسيع التحالف الذي يقول بوتين إنه يهدد روسيا، ويجب عكس توسعه. وبالمقارنة، في عام 1991، وهو العام الذي تفكك فيه الاتحاد السوفييتي، كان للولايات المتحدة 305 آلاف جندي في أوروبا، بما في ذلك 224 ألف جندي في ألمانيا وحدها، وفقاً لسجلات البنتاغون. ثم انخفض العدد باطراد حتى وصل إلى 101000 في عام 2005 ونحو 64000 في الآونة الأخيرة في عام 2020.
ووُصِفَت عمليات إضافة القوات الأمريكية لهذا العام بأنها مؤقتة، لكن ليس هناك تأكيدات حول إلى متى ستبقى. وتشمل هذه القوات لواء مدرع من فرقة المشاة الأولى، يبلغ قوامه نحو 4000 جندي، إلى ألمانيا، ولواء مشاة مماثل الحجم من الفرقة 82 المحمولة جواً، إلى بولندا. كما أُرسِلت العديد من وحدات قيادة الجيش إلى بولندا وألمانيا. وأرسل وزير الدفاع الأمريكي طائرات مقاتلة من طراز "إف-35 إيه" إلى الجناح الشرقي لحلف الناتو وطائرات هليكوبتر هجومية من طراز أباتشي إلى دول البلطيق.
وخلُصت مراجعة البنتاغون الأخيرة حول وجودها العسكري في جميع أنحاء العالم إلى أنَّ مستويات القوات والمواقع في أوروبا مناسبة. لكن في شهادتها أمام لجنة في مجلس النواب بعد عدة أيام من الهجوم الروسي على أوكرانيا، قالت مارا كارلين، المسؤولة البارزة في البنتاغون التي أشرفت على مراجعة 2021، إنَّ هذا الاستنتاج يجب إعادة النظر فيه.
وأضافت مارا، في 1 مارس/آذار، أنَّ البنتاغون يجب أن "يضمن أنَّ لدينا قوة ردع ضد روسيا وأننا نستطيع القول بنسبة 150% إنَّ الناتو آمن ومأمون"، ليس فقط في ضوء الهجوم الروسي، لكن على المدى الطويل.
خطط استراتيجية جديدة في أوروبا أيقظتها الحرب الروسية الأوكرانية
دفعت حرب بوتين في أوكرانيا إلى إعادة التفكير في الاحتياجات الدفاعية الإقليمية ليس فقط من واشنطن، بل أيضاً من بعض الحلفاء الأوروبيين، بما في ذلك ألمانيا، التي خالفت الشهر الماضي سياسة زعمت فيها "عدم تصدير الأسلحة إلى مناطق الصراع"، وذلك عن طريق إرسال أسلحة مضادة للدبابات ومضادة للطائرات إلى أوكرانيا. والتزمت ألمانيا كذلك بميزانية دفاعية أكبر بكثير. وأعلن المستشار أولاف شولتز "واقعاً جديداً".
لم يطالب بوتين أوكرانيا بالتخلي عن طموحها في الانضمام إلى الناتو فحسب، بل أصر أيضاً على أن يسحب الحلف قواته من الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي، ويطالب الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي برفض التوسع باعتباره مخالفاً للحقوق الأساسية للدول في تقرير علاقاتها الخارجية لنفسها ولالتزام حلف الناتو الأساسي بتوفير الأمن لجميع الأعضاء على قدم المساواة.
وإذا سيطرت روسيا على أوكرانيا بأكملها، فستصير على حدود دول أخرى في الناتو، بما في ذلك رومانيا وسلوفاكيا والمجر. وتشترك بولندا وليتوانيا بالفعل في حدود برية مع جيب كالينينغراد الروسية، حيث يقع مقر أسطول البلطيق التابع للبحرية الروسية. وهناك قلق من أنَّ بوتين قد يقرر تنفيذ مهمة للسيطرة على ذلك الممر البري الذي يبلغ طوله 60 ميلاً (96.5 كيلومتر)، والمعروف باسم فجوة سوالكي، والتي تربط بين كالينينغراد وبيلاروسيا.
ويوصي فيرشبو، النائب السابق للأمين العام لحلف الناتو، والباحث الحالي في المجلس الأطلسي، بأنَّ تتجاوز الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي اعتمادهما الحالي على مجموعات قتالية خفيفة بحجم كتيبة في أوروبا الشرقية، وبدلاً من ذلك نشر قوات دائمة هناك تكون أكثر كثافة وقوة.
مثل هذا التحول على الجانب الشرقي لحلف الناتو هو مجرد نوع من الأشياء التي يقول بوتين إنها تمثل تهديداً لروسيا ويقول إنه لن يتسامح معها بعد الآن. وطالب بالعودة إلى الترتيبات التي كانت قائمة في عام 1997، عند التوقيع على القانون التأسيسي لحلف الناتو وروسيا.
وفي تلك الوثيقة، أقرّت موسكو بأنَّ الناتو سيمضي قدماً في خططه لدعوة بولندا والمجر وجمهورية التشيك للانضمام إلى الحلف. يُذكَر أنَّ الوثيقة ذكرت أيضاً أنه "في البيئة الأمنية المرتقبة"، سيتخلى الناتو عن "تمركز دائم إضافي لقوات قتالية كبيرة على أراضي الأعضاء الجدد".
هل هذا يمنع خيار زيادة القوات الأمريكية في أوروبا الشرقية؟ الإجابة لا، بحسب تقرير جديد صادر عن مركز Scowcroft Center for Strategy and Security التابع لمجلس أتلانتيك. ويجادل التقرير بأنَّ القيود المفروضة على الوجود العسكري لحلف الناتو في أوروبا الشرقية كما هو موضح في قانون التأسيس لحلف الناتو وروسيا لعام 1997 لم تعد ذات صلة بالنظر إلى الهجوم الروسي على أوكرانيا.
ويقول التقرير: "نحن في أرضية جديدة وخطيرة؛ وفترة من التوترات المستمرة، والتحركات العسكرية والتحركات المضادة، والأزمات العسكرية الكبرى المتناوبة في المنطقة الأوروبية الأطلسية التي ستتدهور على الأقل لما تبقى من عشرينيات القرن الحادي والعشرين، إنَّ لم يكن لفترة أطول من ذلك".