في الوقت الذي لا تزال القوات الروسية تفرض حصاراً قاسياً على المدن الأوكرانية وتقوم بقصفها، يقوم القادة الغربيون في واشنطن وعواصم أوروبا بفرض عقوباتٍ واحدة تلو الأخرى على موسكو. حيث أصبح يُنظر في الغرب إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أنه "شخصيةٌ كاريكاتورية شريرة" وخصمٌ لـ فولوديمير زيلينسكي، "البطل المحبوب للملايين".
لكن خارج العالم الغربي، كان الوضع مختلفاً، إذ لا تزال أجزاء واسعة من العالم تتجنب أو ترفض صراحة عزل روسيا وزعيمها بوتين، ففي الهند امتنعت حكومة رئيس الوزراء ناريندرا مودي عن إدانة الهجوم الروسي على أوكرانيا، واصفة إياه بأنه مأزقٌ بين موسكو وحلف شمال الأطلسي. وقال الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو إن بلاده "لن تنحاز إلى أيِّ طرفٍ"، حتى في الوقت الذي وصف فيه الزعيم زيلينسكي بأنه "ممثلٌ كوميدي". ولا يزال مسؤولٌ كبيرٌ في جنوب إفريقيا يصف روسيا بأنها "صديقةٌ دائمة".
خارج الغرب.. بوتين أقل عزلةً مِمَّا قد يظن البعض
ليس هناك شك في أن بوتين قد دفع نفسه وشعبه في أزمة خطيرة. لقد قطعت الدعاية والرقابة الروسية شعبها عن الواقع، في حين أن الاقتصاد الروسي، الذي ضُرِبَ بالعقوبات وانقطع عن جزءٍ كبيرٍ من النظام المالي العالمي، آخذٌ في الذبول. هذا الأسبوع، ضربت الدول الغربية قطاع الطاقة الحيوي في موسكو، وصار الروبل يذوي أمام الدولار.
ومع ذلك، إذا نظرت بشكل أعمق، فإن الطرح القائل بأن بوتين معزولٌ قد يظلُّ شيئاً من التحيُّز الغربي كما تصف ذلك صحيفة Washington Post الأمريكية. ذلك الافتراض القائم على تعريف "العالم" كمناطق امتياز، إلى حدٍّ كبير الولايات المتحدة وأوروبا وكندا وأستراليا واليابان. من بين 193 عضوا في الأمم المتحدة، صوت 141 لإدانة هجوم موسكو غير المبرر على أوكرانيا، لكن تصويت الأغلبية هذا لا يروي القصة بصورةٍ دقيقة.
يقول ريتشارد غوان، مدير مجموعة إدارة الأزمات الدولية في الأمم المتحدة: "هناك شعورٌ بأن مستوى الدعم من الكثير من الدول غير الغربية لهذا القرار كان ضعيفاً للغاية".
العديد من الدول في العالم النامي، بما في ذلك بعض أقرب حلفاء روسيا، لم يستقر قرارها بشأن اجتياح بوتين لأوكرانيا. ومع ذلك، فإن كبار اللاعبين في دول الجنوب– بما في ذلك الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا- تتحوَّط رهاناتها بينما لا تزال الصين تدعم بوتين علناً.
وفي الأمم المتحدة، في 2 مارس/آذار، كانت جنوب إفريقيا من بين 24 بلداً إفريقياً رفضت الانضمام إلى التصويت الذي يدين حرب روسيا على أوكرانيا، حيث امتنع 16 بلداً إفريقياً عن التصويت، فيما لم تُصوِّت 7 بلدان بالأساس، وصوَّت بلدٌ واحد (إريتريا) ضده.
بالنسبة للعالم خارج المحيط الغربي.. فإن حرب بوتين لا ناقة لهم فيها ولا جمل
مثلما يتجاهل المتفرِّجون الغربيون في كثير من الأحيان الصراعات البعيدة في الشرق الأوسط وإفريقيا، فإن بعض المواطنين في الاقتصادات الناشئة ينظرون إلى أوكرانيا ويرون أنفسهم لا ناقة لهم ولا جمل في هذه المعركة- لكن مع مصالح قومية مُقنِعة لعدم عزل روسيا. وفي رقعةٍ واسعةٍ من العالم النامي، تتسرب نقاط حديث الكرملين إلى الأخبار السائدة ووسائل التواصل الاجتماعي. لكن التقييمات الأدق تصوِّر أوكرانيا على أنها ليست المعركة العظمى بين الخير والشر، ولكنها أشبه بلعبة شدِّ الحبل بين واشنطن وموسكو.
تقول واشنطن بوست، إن التردد حول بوتين يعكس صدى حركة عدم الانحياز لتلك الدول التي سعت إلى حلٍّ وسط بين القوى العظمى المتصارعة خلال الحرب الباردة. لكن الهوة بين الغرب والجنوب العالمي قد تزداد سوءاً أيضاً خلال الجائحة وعصر تغيُّر المناخ، حيث يزداد استياء الدول النامية من ردود أفعال المصلحة الذاتية في الولايات المتحدة وأوروبا.
قال كريس لاندسبيرغ، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة جوهانسبرغ: "إنهم على استعداد لبعث رسالةٍ مفادها أنهم لا يتقبلون فكرة أن يكونوا محاصرين أو يُجبَروا على الاختيار".
لا تُترجَم عدم الرغبة في إدانة بوتين بالضرورة إلى تصميمٍ على مساعدته. في الأسبوع الماضي، علَّق البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية بقيادة الصين جميع الأعمال التجارية مع روسيا.
والأهم من ذلك، أن مدى دعم الصين لبوتين، الذي التقى به الزعيم الصيني شي جين بينغ في بكين قبل ثلاثة أسابيع تقريباً من الهجوم على أوكرانيا، لا يزال يمثِّل ورقةً جامحة. وسط تداعيات لم تكن الصين تريدها بالتأكيد- حيث اليابان أكثر حزماً، وانقسام الاقتصاد العالمي- تحوَّل دعم شي لنظام عالمي جديد إلى جانب موسكو إلى موازنةٍ معقَّدة.
"دول الجنوب" ترفض الانخراط في الصراع الروسي الغربي
رفضت الهند دعم قرارات الأمم المتحدة التي تدين الغزو، مشيرة إلى علاقة استراتيجية تعود إلى الحرب الباردة. وترى نيودلهي أن موسكو قوةٌ موازنة للصين، وأكثر من 60% من أسلحة الهند تأتي من روسيا. أبرمت الهند صفقة بقيمة 5.43 مليار دولار مع موسكو في 2018 لنظام صواريخ S-400 الروسي.
وقالت مجموعة الأزمات الدولية في تقريرٍ جديد إن "الهند ردَّت على الهجوم الروسي بواقعية فظة لقوة صاعدة وطموحة لا تريد أن تعلَق بين روسيا وما يسميه مودي (مجموعة الناتو)".
أما جنوب إفريقيا، فهناك علاقات تاريخية بين المؤتمر الوطني الإفريقي، الذي قاد نضال تلك الدولة ضد حكومة الأقلية البيضاء، وبين الاتحاد السوفييتي. وكان اثنان من رؤساء جنوب إفريقيا بعد الفصل العنصري، ثابو مبيكي وجاكوب زوما، قد خضعا لتدريبٍ عسكري في الاتحاد السوفييتي.
وفي يوم الإثنين 7 مارس/آذار، وصف زوما، في بيانٍ صدر من مؤسسته، بوتين بأنه "رجل سلام". وقالت لينديوي زولو، وزيرة التنمية الاجتماعية في جنوب إفريقيا التي درست في موسكو خلال سنوات الفصل العنصري، لصحيفة New York Times الأمريكية: "روسيا صديقةٌ دائمةٌ لنا، ونحن لسنا على وشك التنديد بهذه العلاقة التي لطالما حظينا بها".
وتقول صحيفة نيويورك تايمز، إن التعاطف الإفريقي مع أوكرانيا مؤخراً تضاءل كذلك بعد تقارير أفادت بإجبار قوات حرس الحدود الأوكرانية الطلبة الأفارقة على العودة إلى أواخر الطوابير أثناء محاولتهم مغادرة البلاد. وقد شجب الرئيس النيجيري، محمدو بخاري، الذي تملك بلاده 4 آلاف طالب في أوكرانيا هذه التصرفات العنصرية.
ولسنوات طويلة، كان بوتين يستحضر أحداثاً تعود إلى الحرب الباردة، حين دعمت موسكو حركات التحرر الإفريقية وقدَّمت نفسها باعتبارها حصناً ضد النزعة الاستعمارية الغربية، التي تحمل إرثاً تاريخياً مشيناً في القارة السمراء. كما قسَّم بوتين أيضاً الرأي العام الإفريقي بفضل جهوده لتوسيع النفوذ الروسي في أرجاء القارة عبر مزيج فذ من الدبلوماسية والسلاح والمرتزقة.
وفي محاولة لاستعادة بعض النفوذ الذي فقدته موسكو عام 1991، بانهيار الاتحاد السوفييتي، استضاف بوتين قمة كبيرة في مدينة سوتشي، الواقعة غربي البلاد، عام 2019، حضرها 43 من قادة الدول الإفريقية. ومن المقرر عقد قمة ثانية بين روسيا وإفريقيا هذا الخريف.
ينبع نفوذ روسيا من مبيعات الأسلحة، فوفقاً لوكالة تصدير الأسلحة الروسية والمنظمات التي ترصد عمليات نقل السلاح، تُصدِّر روسيا قرابة نصف واردات السلاح في إفريقيا. وكان أحد أشرس المدافعين عن بوتين، منذ بداية الحرب في أوكرانيا، شخصية نافذة في أوغندا، التي تمثل "زبوناً رئيسياً" للسلاح الروسي. فقال الجنرال موهوزي كاينيروغابا، نجل الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني، في تغريدة: "معظم البشرية (من غير ذوي البشرة البيضاء) تدعم موقف روسيا في أوكرانيا".