منذ وصول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى سدة الحكم عام 2000، عمد إلى توثيق الصلات الاقتصادية بين بلاده والغرب في جميع المجالات والتي حققت إلى حد كبير نجاحاً كبيراً في هذا المضمار.
ولم يكن اندماج روسيا الاقتصادي مع العالم الخارجي سلساً وسهلاً بأي حال. فكثيراً ما تسبب الفساد والمخالفات القانونية في خنق تنميتها الصناعية، وجعلها تفرط في الاعتماد على تصدير مواردها الطبيعية. وأدت خصخصة شركات النفط والمعادن في التسعينيات إلى نشوء طبقة أثرياء تسيطر على الاقتصاد.
على أنه في العقود التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي، تقدَّم الاقتصاد الروسي تدريجياً ونجح في بناء علاقات تجارية واستثمارية مهمة مع العالم.
لكن أحداث الأسبوعين الماضيين حطمت تلك العلاقات بسرعة مخيفة.
يقول كونستانتين سونين، الخبير الاقتصادي الروسي بجامعة شيكاغو، لصحيفة The Washington Post الأمريكية: "روسيا احتاجت سنوات كثيرة لتصبح جزءاً من الاقتصاد العالمي. ومعظم هذه الجهود تحطمت، وذهبت أدراج الرياح في خمسة أيام. ولا يمكن أن تعود الأمور لما كانت عليه بسهولة".
تاريخ العلاقات الاقتصادية بين موسكو والغرب
فخلال الفترة الأكبر من الحرب الباردة، كان للاتحاد السوفييتي علاقات تجارية محدودة مع الغرب، وكانت تقتصر في الغالب على صادرات نفط وغاز إلى أوروبا وواردات مواد غذائية وآلات. وأدى انهيار أسعار النفط في ثمانينيات القرن الماضي، إلى تدمير عائدات التصدير وتفاقم نقص المنتجات في الداخل، وكان هذا أحد أسباب انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991.
ودخلت روسيا فترة طويلة من الاضطرابات بعد نهاية الاقتصاد الموجه، حيث عصف بها التضخم المفرط والجريمة المنظمة والمزادات الفاسدة للمؤسسات المملوكة للدولة.
ووصلت صدمات أخرى إلى أعتاب روسيا عام 1998، حين تسببت الاضطرابات المالية بآسيا في انهيار مفاجئ لأسعار النفط، وانخفاض حاد في قيمة الروبل، وهلاك العديد من مدخرات الروس للمرة الثانية في أقل من عشر سنوات.
وبدأ الاستقرار الاقتصادي- وارتفاع أسعار النفط- يعود في العام التالي مع صعود بوتين إلى السلطة، وبدأت معه "فترة شهر عسل" للاستثمار الأجنبي في الاقتصاد، وفقاً لسيرجي ألكساشينكو، المسؤول البارز بوزارة المالية الروسية والبنك المركزي الروسي في التسعينيات.
وقال ألكساشينكو في مقابلة: "قطاعات عديدة فُتحت، وتدفقت الاستثمارات، وبلغت نسبة نمو الاقتصاد 7% سنوياً، واستفادت العديد من الشركات الغربية من هذه الفترة".
فافتتحت شركة إيكيا Ikea أول متجر لها في موسكو عام 2000، وجذبت عشرات الآلاف من الزبائن منذ اليوم الأول وفتحت مزيداً من فروعها على مستوى البلاد. وبدأت شركة أوشون Auchan الفرنسية في بناء سلسلة من المتاجر، وافتتحت شركة صناعة السيارات الفرنسية Renault مصنعاً في موسكو.
وبدأت شركة إكسون موبيل ExxonMobil استثمارات جادة عام 2001، حيث قادت مجموعة من المستثمرين الروس والأجانب في تطوير مشروع كبير للنفط والغاز قبالة ساحل جزيرة سخالين.
وعام 2003، كشفت شركة شل Shell النقاب عن استثمار بقيمة 10 مليارات دولار في مشروع آخَر قبالة جزيرة سخالين، ووقَّعت شركة بريتيش بتروليوم BP صفقة مشروع مشترك.
2014 وأول أزمة ثم توالت الأزمات
وضربت الأزمة المالية التي اجتاحت العالم عام 2008، في نهاية رئاسة جورج بوش الابن، روسيا مع بقية العالم، وكان الانتعاش بطيئاً. وتفاقم الوضع عام 2014، حين شن بوتين أول هجوم له على أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم. وفرضت الولايات المتحدة عقوبات على عدد من البنوك والشركات الروسية، قالت إنها تدعم نظام بوتين.
وقال ألكساشينكو إنه بعد ذلك، واصلت العديد من الشركات الأجنبية الموجودة في روسيا إعادة استثمار أرباحها، لكن الاستثمارات الجديدة كانت محدودة.
وانهيار ما تبقى من علاقات حدثَ بسرعة مذهلة. ففي الوقت الذي أطلقت فيه الولايات المتحدة والدول الأوروبية العنان لعقوبات تهدف إلى شل الاقتصاد الروسي، توقفت بنوك وشركات عديدة عن التعامل مع نظيرتها الروسية؛ خشية انتهاك العقوبات أو عدم حصولها على أموالها. وأعرب كثير منها عن استيائها من المعاناة التي تُلحقها روسيا بالشعب الأوكراني.
إذ أعلنت شركة الشحن الدنماركية "ميرسك" Maersk أنها ستوقف جميع الشحنات الجديدة بحراً وجواً وعبر السكك الحديدية من روسيا وإليها حتى إشعار آخر بسبب العقوبات.
وأوقفت مرسيدس بنز وفولكس فاغن ورينو إنتاج السيارات في روسيا، فيما أوقفت جنرال موتورز ودايملر تراك التصدير إلى البلاد. وكتب مارتن دوم، رئيس مجلس إدارة شركة دايملر تراك، في رسالة إلى الموظفين: "صَدمَنا العنف العسكري في أوكرانيا ونشعر بقلق بالغ من التهديدات المحيقة بالسلام والاستقرار في أوروبا".
وقالت شركة إيكيا إنها ستوقف مؤقتاً جميع عمليات البيع والإنتاج في روسيا وكذلك عمليات التسليم من البلاد وإليها، دون أن توضح مصير 15 ألف وظيفة. وتسبب قرارها في تهافت المستهلكين على متاجرها قبل أن يفقدوا تواصلهم مع السلع الغربية.
وأعلنت شركة النفط النرويجية الحكومية وصندوق الثروة السيادية عن نيتهما التخلي عن حصصهما الروسية. وبدأت شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات، وغيرها من الشركات المصنِّعة لشرائح الحواسيب في وقف الشحنات إلى روسيا، وهو ما يحرم شركات الإلكترونيات من مكونات مهمة.
وقررت أكبر شركات النفط الغربية التخلي عن مشاريعها في روسيا بعد أكثر من عقدين من العمل فيها.
إذ قالت شركة بريتش بتروليوم إنها ستتخلى عن حصتها البالغة 14 مليار دولار في شركة روسنفت الروسية، ووصفت الهجوم الروسي بأنه "عمل عدواني له عواقب مأساوية على المنطقة بأسرها". ولم تلبث شركتا شل وإكسون موبيل أن حذتا حذوها وتخلتا عن مشاريعهما في سخالين. ولا يُعرف على وجه التحديد ما إذا كانت أي من هذه الشركات تبحث عن مشترين لحصصها أم أنها ستتركها فحسب.
وقال أليكساشينكو: "روسيا ستدفع ثمناً باهظاً في اقتصادها… المستقبل لا يبشّر بالخير لها أبداً".
وقال إنه إذا وصلت قيادة جديدة إلى السلطة في روسيا بطريقة أو بأخرى وأوقفت الحرب، فمن الممكن إعادة بناء العلاقات التجارية تدريجياً.
لكنه استدرك قائلاً: "أما لو ظل بوتين في السلطة لـ10 أو 15 سنة أخرى، فأعتقد أن روسيا حينها ستزداد عزلة عن الاقتصاد العالمي، بدرجة تفوق ما كانت عليها أيام الاتحاد السوفييتي".