لماذا قرَّر الرئيس الأمريكي حظر واردات النفط والغاز الروسية في هذا التوقيت؟ وماذا يعني ذلك بالنسبة لواشنطن؟ وكيف يمكن أن تتأثر روسيا؟ وماذا عن تأثير الحظر على أوروبا وعلى أسعار النفط والغاز عالمياً؟
منذ أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الاعتراف باستقلال لوغانسك ودونيتسك منطقتين انفصاليتين في إقليم دونباس الأوكراني، بدأت الدول الغربية في فرض عقوبات على روسيا، بدأت بالقطاع المالي وبعض الأثرياء الروس، ثم تطورت بعد بدء الهجوم على أوكرانيا، يوم 24 فبراير/شباط الماضي، لتشمل جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والرياضية والثقافية، لتواجه موسكو ما يشبه العزلة.
لكن قطاع الطاقة الروسي ظلَّ بعيداً عن تلك العقوبات إلى حد كبير، باستثناء قرار ألمانيا تعليق مشروع خط أنابيب نورد ستريم2 لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا وأوروبا، علماً أن المشروع لم يكن قد دخل مرحلة التشغيل بعد. لكن استمرت واردات الغاز والنفط الروسية على حالها، حتى أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن، الثلاثاء 8 مارس/آذار، حظر واردات النفط والغاز الروسية.
كواليس قرار بايدن تكشف الكثير
قبل أن ندخل في تداعيات قرار الحظر، من المهم التوقف قليلاً عند الخلفيات والمعطيات التي أوصلت البيت الأبيض إلى اتخاذه وإعلانه. الولايات المتحدة تعارض اعتماد حلفائها الأوروبيين على روسيا بشكل شبه كامل فيما يخص موارد الطاقة، وظهر ذلك جلياً في المعارضة الشرسة لمشروع نورد ستريم2، والتي وصلت إلى حد إعلان الرئيس السابق دونالد ترامب نقل مقر القوات الأمريكية في أوروبا من ألمانيا كورقة ضغط على برلين لوقف المشروع.
لكن ألمانيا، تحت قيادة المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، والمستشار الحالي أولاف شولتس، رفضت الضغوط الأمريكية بشأن نورد ستريم2، حتى أعلن بوتين الاعتراف باستقلال لوغانسك ودونيتسك فردّت ألمانيا بتعليق مشروع خط الأنابيب، وتلك كانت أقوى خطوة عقابية من جانب الغرب تجاه روسيا، قبل أن يبدأ الهجوم على أوكرانيا.
وخلال الأسبوعين الماضيين، منذ بدء الهجوم على أوكرانيا، تعالت الأصوات في أروقة الكونغرس الأمريكي، بضرورة فرض حظر على النفط والغاز الروسي، كونهما المورد الرئيسي لاقتصاد موسكو، وبدون استهداف قطاع الطاقة تظل أي عقوبات غير مؤثرة بشكل قد يجبر بوتين على التراجع، بحسب كلام السيناتور الجمهوري البارز ليندسي غراهام.
لكن البيت الأبيض والديمقراطيين بدوا أكثر تردداً في الإقدام على تلك الخطوة حتى لا يُغضبوا الحلفاء الأوروبيين، المعتمدين على الغاز الروسي بشكل كبير، وأيضاً حتى لا يتسبب حشر بوتين في الزاوية في تصعيد أكثر قد يؤدي إلى مواجهة مباشرة مع دولة نووية. ومع استمرار الهجوم الروسي واتساع نطاقه وزيادة الغضب الشعبي في الغرب تجاه موسكو، بدأ عدد كبير من المشرعين الديمقراطيين ينضمون إلى الجمهوريين في المطالبة بفرض الحظر على الطاقة الروسية.
وحدد مجلس الشيوخ بالفعل موعداً على مشروع قانون بحظر النفط والغاز الروسي وفرض عقوبات على الدول والشركات التي تستمر في استيراد تلك المواد من موسكو، فاستبق البيت الأبيض الموقف وأعلن الحظر، مساء الثلاثاء، على الرغم من أن الاتحاد الأوروبي وألمانيا تحديداً كانوا قد أعلنوا مساء الإثنين رفضهم القاطع لمثل هذا الحظر، وقالت الخارجية الأمريكية إنها ستواصل التشاور مع الحلفاء قبل اتخاذ القرار حتى يكون هناك توافق حوله.
لكن القرار الأمريكي صدر دون هذا التوافق كما هو واضح من المواقف، وبالتالي لا يعتبر القرار مُلزماً لباقي الحلفاء، وهذا ما قالته نصاً وزيرة الطاقة الأمريكية جينيفر جرانهولم في مقابلة مع شبكة CNBC: "نحن (الولايات المتحدة) لا نعتمد كثيراً على النفط الروسي، ولا نعتمد على الغاز الروسي على الإطلاق. نعلم أن حلفاءنا في جميع أنحاء العالم قد لا يكونون في الموقف نفسه، ولذا فإننا لا نطلب منهم فعل الشيء نفسه".
ولا تستورد الولايات المتحدة، التي هي نفسها من كبار منتجي النفط عالمياً، سوى نحو 3% فقط من النفط الروسي، وهو ما يعني أن تداعيات قرار الحظر على الأسعار بالنسبة للمستهلك الأمريكي لن تكون كبيرة، كما أن تداعيات القرار على روسيا نفسها قد لا تكون ملموسة.
مات سميث، كبير محللي النفط بشركة كبلر، قال لرويترز إن الولايات المتحدة تستورد كميات ضئيلة جداً من النفط من روسيا، غير أن الحظر يمثل "سبباً إضافياً آخر لخسارة إمدادات. إنه مجرد تصعيد آخر ضمن سلسلة أحداث دفعت أسعار النفط الخام والمنتجات للارتفاع".
تجاذبات السياسة الأمريكية في عام الانتخابات
رصد تقرير لمجلة Politico الأمريكية، عنوانه "كيف طغت السياسة المخادعة بشأن حظر النفط الروسي على أروقة واشنطن خلال 100 ساعة"، كواليس قرار بايدن والدوافع لاتخاذه بتلك السرعة وبتلك الطريقة.
ويمكن القول إن المطالبة بحظر النفط والغاز الروسي أصبحت ورقة انتخابية في السياسة الأمريكية خلال الأسبوعين الماضيين، إذ يشهد نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، انتخابات التجديد النصفي في الكونغرس، ويريد الجمهوريون استعادة الأغلبية في مجلسي الشيوخ والنواب، خصوصاً في ظل تراجع شعبية بايدن منذ الانسحاب الفوضوي من أفغانستان.
وباتت الأزمة الأوكرانية التحدي الأكبر الذي يواجهه بايدن في عام الانتخابات، واتهمه كثير من المراقبين بالفعل باستغلال الأزمة للهروب إلى الأمام، وكان ذلك قبل أن يبدأ الهجوم الروسي. وبعد أن بدأ الهجوم بالفعل، يكثف الجمهوريون وزعيمهم ترامب من هجومهم على بايدن، الذي يصفونه "بالضعيف".
وفي ظل هذا الانقسام السياسي، الذي أصبح معتاداً في واشنطن خلال السنوات الماضية، بغض النظر عن طبيعة القضية أو حجمها، رفع الجمهوريون منذ اللحظة الأولى مطلب حظر الطاقة الروسية، بينما سعى الديمقراطيون إلى محاولة الابتعاد عن ذلك القطاع تحديداً، بغرض الحفاظ على تماسك الغرب في مواجهة روسيا، في ظل اعتماد الأوروبيين على الغاز والنفط الروسي.
كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قد وجه خطاباً عاطفياً مباشراً إلى الكونغرس، طلب خلاله 3 مطالب رئيسية، هي فرض منطقة حظر طيران فوق بلاده، وحظر النفط الروسي، ومزيد من المساعدة العسكرية المباشرة. لكن المطلب الأول والثالث قد يعنيان مواجهة عسكرية مع روسيا، وهو ما لا يريده أي من المشرعين في الحزبين.
أما المطلب الخاص بحظر النفط الروسي فهو يصب في صالح الجمهوريين أكثر مما يصب في صالح الديمقراطيين، لعدد من الأسباب، أبرزها أن الغضب الشعبي من ارتفاع الأسعار بشكل عام سيصب في صالحهم في الانتخابات المقبلة، ويخصم من رصيد الديمقراطيين، فإدارة بايدن ديمقراطية، وستتحمل تداعيات المزيد من الصعوبات الاقتصادية.
وبالطبع هذه المعطيات ليست غائبة عن الديمقراطيين، فانضم أغلب المشرعين من حزب بايدن إلى الجمهوريين في دعم مطلب حظر النفط الروسي، وهكذا وجدت إدارة بايدن نفسها في مأزق حقيقي، فهم لا يريدون إغضاب المشرعين الديمقراطيين.
فقد حدد مجلس الشيوخ، الأربعاء 9 مارس/آذار، موعداً لمناقشة مشروع قانون لحظر واردات النفط والغاز الروسية، وهو ما يعني إفساح المجال أمام المشرعين الجمهوريين لمناقشة سياسة الطاقة الأمريكية التي أقرها بايدن بشكل عام، وتوجيه مزيد من اللوم للإدارة بسبب ارتفاع أسعار مشتقات النفط.
فإدارة بايدن كانت قد أصدرت عدداً من القرارات التنفيذية في مجال إنتاج النفط، ووضعت قيوداً على الشركات لأهداف تتعلق بالتغير المناخي، وكذلك لأغراض ضريبية، انتقدها الجمهوريون بزعم أنها تحد من قدرة الشركات على الإنتاج والمنافسة وترفع من الأسعار.
"بالطبع سينتهز الجمهوريون الفرصة للتنكيل بالديمقراطيين ولومهم على زيادة أسعار الغاز، ولن يذكروا حتى تأييدهم لحظر النفط الروسي، ولا بد أن نكون مستعدين لذلك"، بحسب ما قاله السيناتور الديمقراطي كريس ميرفي لمجلة Politico.
وأضاف ميرفي أنه يؤيد تماماً قرار حظر النفط الروسي، وهو ما أعلنه بايدن بالفعل، وبالتالي لم تعد هناك حاجة لاتخاذ فعل آخر من جانب الكونغرس: "لقد فعلوا (إدارة بايدن) ما أردنا منهم فعله، ولست واثقاً أن هناك ضرورة لتقييد أيديهم".
ما تداعيات قرار بايدن على أوروبا وأسعار النفط؟
على أية حال اتخذ بايدن القرار، ولا أحد يمكنه الجزم بما إذا كان كافياً للجمهوريين أم أنهم سيواصلون السعي لاستصدار تشريعات من الكونغرس، لكن الشيء المؤكد هو أن للقرار تداعيات درامية، ليس فقط بالنسبة لأروقة السياسة في واشنطن، بل بالنسبة للأمريكيين عموماً ولأوروبا ولروسيا وللعالم أجمع، وربما تكون أوكرانيا ذاتها الأقل تأثراً بالقرار.
نعم لا تعتمد الولايات المتحدة تقريبا على الغاز الروسي، ولا تستورد أكثر من 3% فقط من النفط الروسي، وبالتالي لن تتأثر الإمدادات الأمريكية، خصوصاً أن أمريكا نفسها أصبحت من أكبر منتجي النفط في العالم، لكن الأسعار نفسها قصة أخرى.
فقد ارتفعت أسعار النفط بنحو 4% مع فرض الولايات المتحدة حظراً على واردات النفط الروسية، ومن المتوقع أن تُحدث هذه القرارات المزيد من الاضطرابات بسوق الطاقة العالمية، إذ إن روسيا ثاني أكبر مصدر للنفط الخام، بحسب رويترز.
وارتفعت أسعار النفط أكثر من 30% منذ الهجوم الروسي على أوكرانيا، إذ كان للعقوبات الأخرى تأثير بالفعل على عرقلة صادرات النفط والغاز من روسيا، حتى قبل فرض الحظر الأمريكي، في ظل سعي التجار إلى تجنب الوقوع تحت طائلة عقوبات مستقبلية.
وقال المبعوث الخاص لوزارة الخارجية الأمريكية آموس هوشتاين، إن الولايات المتحدة ودولاً أخرى ستدرس سحب المزيد من براميل النفط من الاحتياطيات إذا لزم الأمر، وأضاف "إذا احتجنا إلى القيام بشيء ما مرة أخرى على أساس عالمي مع حلفائنا، فسنقوم بذلك"، بحسب رويترز.
لكن روسيا تصدر ما بين سبعة وثمانية ملايين برميل يومياً من النفط الخام والوقود للأسواق العالمية، ولا توجد بدائل آنية لتعويض تلك الإمدادات، رغم محاولات واشنطن "التفاهم" مع فنزويلا لاتفاق يقضي برفع العقوبات الأمريكية مقابل إمداد واشنطن بنفط فنزويلا، فالدولة الواقعة في أمريكا الجنوبية تحتاج لسنوات كي تكون قادرة على تجهيز بنيتها التحتية المهترئة للإنتاج، بحسب محللين.
وقال محللون في شركة (ريستاد إنرجي) الاستشارية، ومقرها أوسلو، لرويترز، الأربعاء 9 مارس/آذار، إن حظر الواردات الروسية ربما يرفع أسعار النفط العالمية إلى 200 دولار للبرميل.
وقبل إعلان الحظر الأمريكي رفع غولدمان ساكس توقعاته لسعر خام برنت في 2022 إلى 135 دولاراً للبرميل من 98 دولاراً، ولعام 2023 إلى 115 دولاراً للبرميل من 105 دولارات، قائلاً إن الاقتصاد العالمي ربما يواجه "أكبر صدمات على الإطلاق في إمدادات الطاقة"، بسبب دور روسيا الرئيسي.
فاضطرابات الإمدادات تأتي في وقت يستمر فيه انخفاض المخزونات على مستوى العالم، وتوقَّع خمسة محللين استطلعت رويترز آراءهم انخفاض المخزون الأمريكي من الخام بنحو 700 ألف برميل في الأسبوع المنتهي في الرابع من مارس/آذار.
أما بالنسبة لأوروبا فالقصة مختلفة تماماً، القارة العجوز تعتمد بشكل أساسي، يوصف بالإدمان، على الغاز الروسي، حيث تورد موسكو إلى دول الاتحاد الأوروبي 40% من احتياجاتها من الغاز، و30% من احتياجاتها من النفط، ونحو 50% من احتياجاتها من الفحم. وبالتالي فإن موقف أوروبا المعلن هو رفض الحظر الأمريكي على واردات النفط والغاز من روسيا.
وحتى الآن لا تزال إمدادات الغاز الروسي لأوروبا مستمرة، لكن موسكو حذرت الإثنين 7 مارس/آذار، من أن فرض عقوبات على النفط الروسي قد يدفعها لإغلاق صنبور الغاز الواصل إلى أوروبا عبر خط نورد ستريم1.
ماذا عن التداعيات على روسيا وأوكرانيا؟
أما بالنسبة لروسيا نفسها فإن نائب رئيس الوزراء نوفاك كان قد قال إن موسكو "تعرف تماماً إلى أين ستوجه نفطها وغازها إذا رفضتهما أوروبا"، دون أن يقدم تفاصيل حول تلك الوجهة، لكن بشكل عام تستفيد روسيا حتى الآن، شأنها شأن كبار منتجي النفط والغاز، من الارتفاعات القياسية في الأسعار.
لكنّ عدداً من المحللين رجحوا أن يؤدي الحظر الذي فرضه بايدن على واردات النفط والغاز الروسية إلى بقاء مزيد من الشحنات عالقة في البحار دون مشترين، كما استبعدوا أن يكون لقرار الاتحاد الأوروبي مواصلة الاستيراد أثر يذكر على الفوضى التي حلت بتجارة النفط الروسية، بحسب رويترز.
إذ قال متعاملون إن الارتباك الحالي في تجارة النفط بفعل ابتعاد التجار عن الإمدادات الروسية بسبب الخوف من الوقوع تحت طائلة العقوبات المفروضة على روسيا سيتدهور على الأرجح بعد الحظر الأمريكي. وقال روجر ديوان، نائب رئيس الخدمات المالية في ستاندرد آند بورز غلوبال، لرويترز "تحويل مسار التدفقات التجارية يستغرق وقتاً. فهو يُحدث اختلالاً في السوق".
وقال المحللون إن العقوبات الحالية ستؤدي إلى بقاء عدد أكبر من الشحنات الموجودة حالياً في البحار عالقة، وسط صعوبة إيجاد مشترين. وقال كلاي سيجل، خبير استراتيجيات الطاقة في هيوستون، نقلاً عن بيانات من شركة فورتكسا، إنه عندما أعلن بايدن الحظر الأمريكي كانت هناك 34 شحنة من النفط الروسي على متن 26 سفينة متجهة للولايات المتحدة، معظمها من الوقود، وكان هناك ضمنها 3.2 مليون برميل من النفط الخام.
وقدّر بنك غولدمان ساكس أن أكثر من نصف النفط الروسي المصدّر من موانئ لم يتم بيعه حتى الآن. وقال يوم الثلاثاء "إذا استمر ذلك فسيمثل انخفاضاً قدره ثلاثة ملايين برميل يومياً من صادرات النفط والمنتجات النفطية الروسية المحمولة بحراً". كما قدّر جيه.بي. مورغان أن حوالي 70% من النفط الروسي المحمول بحراً يواجه صعوبة في إيجاد مشترين.
أما بالنسبة لأوكرانيا، التي تتعرض للهجوم الروسي منذ أسبوعين، فلا يبدو أن لقرار بايدن تأثيراً يذكر عليها. فالهدف الرئيسي من قرار حظر النفط، كما هو معلن من جانب بايدن وإدارته، هو رفع سقف الضغوط على بوتين حتى يوقف "غزوه" لأوكرانيا، لكن الواضح أن جميع العقوبات، بما فيها حظر النفط والغاز، لم تؤدِ إلى أي بادرة تراجع في الهجوم الروسي المستمر على أوكرانيا. ولا يتوقع أغلب المحللين أن يكون للعقوبات الاقتصادية، مهما كانت حدتها وشمولها، تأثير على القرار الروسي بشأن أوكرانيا، فالهجوم قضية عسكرية لا تؤثر فيها عوامل الاقتصاد من الأساس.