"سيهدمون بيتي للمرة الثالثة"، يعرف خالد بشير معرفةً غائرة هذا الألم الناجم عن رؤية منزله يُهدَم بأيدي قوات الاحتلال الإسرائيلية، فقد عايش الأمر مرتين من قبل مع عائلته التي تعيش في حي جبل المكبر في القدس الشرقية المحتلة. والآن، جاء النذير باقتراب موعد الهدم الثالث.
لطالما كانت حجة الاحتلال في هدم المنازل هي عدم حصول أهله على تصاريح بناء، لكن بشير يقول إن الخطة التي أُعلن عنها حديثاً لبناء طريق سريع يخترق المنطقة ويخدم المستوطنين غير الشرعيين كشفت عن نيةٍ أشد شراً، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
الطريق الأمريكي يهدد بإزالة حي جبل المكبل من الوجود
يقول خالد بشير في ألم: "لقد حاولت سنوات عديدة أن أحصل على تصريح [بناء]، لكن جميع طلباتنا رُفضت. لنكتشف لاحقاً أن السبب هو أن جميع المنازل في هذه المنطقة في حي جبل المكبر مقررٌ هدمها لإفساح المجال أمام طريق استيطاني سيُبنى على أنقاض منازلنا".
تعمل بلدية القدس الإسرائيلية، التي تُدير كلاً من الجانب الغربي من المدينة والجانب الشرقي المحتل، على تشييد "الطريق الأمريكي"، وهو طريق دائري سريع ضخم يرمي إلى ربط المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية في جنوب القدس الشرقية المحتلة وشرقها وشمالها.
ومن المفترض أن يمتد الطريق الدائري مسافة 12 كيلومتراً من حاجز مزموريا قرب قرية "صور باهر" جنوب شرقي القدس إلى حاجز الزعيّم العسكري شمالاً.
ولمَّا كان جزء كبير من الطريق يمر عبر حي جبل المكبر، فإن أهل الحي سيقع عليهم أكبر نصيب من آثار المشروع وأضراره التي تتضمن تشريد المئات منهم.
إسرائيل تمنح التصاريح للمستوطنين وتمنعها عن الفلسطينيين
لطالما قالت جماعات حقوقية، فلسطينية وإسرائيلية، إن السياسات الإسرائيلية "تتعمَّد" تعويق خطط البناء في الأحياء الفلسطينية.
تقول منظمة "السلام الآن"، وهي منظمة إسرائيلية غير حكومية معنية بمراقبة بناء المستوطنات، إن نسبة تصاريح البناء التي منحتها بلدية القدس للأحياء الفلسطينية في القدس الشرقية بين سنة 1991 إلى سنة 2018 لا تزيد على 30% من إجمالي التصاريح التي أصدرتها في القدس، مع أن السكان الفلسطينيين هم أكثر من 60% من سكان المدينة.
في غضون ذلك، وافقت إسرائيل بين سنة 2012 إلى سنة 2021 على خططٍ لبناء 55704 وحدات سكنية جديدة في المستوطنات الإسرائيلية المنتشرة في الضفة الغربية، منتهكةً بذلك القانون الدولي الذي يجرِّم المستوطنات.
إما الطرد أو الاستدانة من البنوك والغرق في الديون
يقول محمد بشير، وهو مهندس معماري من المنطقة، إن 62 عائلة فلسطينية تلقت إنذارات بهدم منازلها في حي جبل المكبر لإفساح المجال لبناء الطريق الأمريكي، الذي اكتملت مرحلته الأولى مؤخراً.
وأشار محمد إلى أن سلطات الاحتلال شقَّت بالفعل 3 كيلومترات من الطريق، وتضمن ذلك ابتلاع أراضي حي جبل المكبر وتجزئتها. ويسكن في بقية المباني المقرر هدمها 750 شخصاً، منهم نحو 300 طفل، وهؤلاء جميعاً قد يصبحون بلا مأوى في أي لحظة.
في المرحلة الأولى من البناء، كان عرض الطريق 16 متراً، لكن محمد يقول إن وزارة النقل الإسرائيلية تسعى الآن إلى توسعته ليكون عرضه 32 متراً. وتتضمن المرحلة الثانية من مشروع "تسكين" هؤلاء الذين طردتهم أوامر الهدم من منازلهم في أماكن أخرى. وأشار محمد إلى أن بلدية القدس كانت قد صادرت بالفعل 38 هكتاراً (94 فداناً) من أراضيهم.
يقول المهندس محمد بشير إن بلدية الاحتلال عرضت بدائل للسكان في حي جبل المكبر مع أوامر الهدم، لكنها ليست بدائل واقعية ولا عادلة، فقد عرضت عليهم إقامة أبراج عالية على جانبي الطريق، وتخصيص 4 طوابق فيها لمواقف السيارات و4 طوابق أخرى للاستخدام التجاري، وطابقين فقط للاستخدام السكني، يحتوي كل منهما على 4 شقق.
تتنوع التكلفة التقديرية لكلٍّ من هذه المباني بين 20 إلى 25 مليون شيكل إسرائيلي (أي 6 إلى 7.7 مليون دولار أمريكي) وهي مبالغ لا يستطيع معظم الفلسطينيين في المنطقة توفيرها دون قروض.
ويعني ذلك أن الخيارات المعروضة على المقيمين في المنطقة هي إما الطرد وإما القروض. ويقول محمد بشير إن هذه وسيلة تستخدمها البلدية لإخلاء المنطقة بالكامل من سكانها وبناء مراكز تجارية محلَّ منازلهم.
وأضاف محمد: "إنهم يريدون إجبار السكان على اللجوء إلى مستثمرين محليين أو خارجيين، أو اللجوء إلى البنوك للحصول على قروض، ثم لا يحصل أصحاب الأرض إلا على شقة سكنية واحدة، ويحتفظ المستثمرون أو البنوك بأكبر الأرباح. لكن سكان جبل المكبر رفضوا هذه المحاولات رفضاً قاطعاً، وقالوا إن البناء العمودي يتعارض مع بيئة البناء الأفقي الريفية التي اعتادوها في المنطقة".
لماذا سُمي "الطريق الأمريكي"؟
يهدد الطريق الأمريكي بالتشريد أكثر من 200 شخص من عائلة البشير الذين يعيشون على أرضهم في جبل المكبر.
يقول خليل التفكجي، مدير دائرة الخرائط في مركز الدراسات العربية في القدس، إن مشروع الطريق الأمريكي سُمي على اسم طريق ضيق مهجور شارك في بنائه مقاولون أمريكيون في أوائل ستينيات القرن الماضي، وتبلغ تكلفة بنائه نحو 260 مليون دولار.
يتولى زمام المشروع شركة موريا القدس للتطوير العقاري، المرتبطة ببلدية القدس الإسرائيلية، بالشراكة مع وزارة النقل الإسرائيلية.
يشير التفكجي إلى أن وزارة النقل الإسرائيلية اقترحت المشروع لأول مرة في سنة 1994، ثم وُضع مخططه في سنة 1996، ولتنفيذ المشروع، صادرت سلطات الاحتلال نحو 1070 دونماً (نحو 265 فداناً) من أراضي القرى والأحياء الفلسطينية في صور باهر والسواحرة وجبل المكبر وجبل الزيتون وعناتا والعيسوية.
يرمي تصميم الطريق إلى ربط جميع المستوطنات الواقعة شرقي القدس بوسط المدينة وبجميع المستوطنات الواقعة غربي القدس، لتسهيل تنقُّل المستوطنين القادمين من التجمعات الاستيطانية معاليه أدوميم وكيدار ومتسبيه يريحو.
وقال التفكجي إن الطريق الأمريكي يخدم أيضاً مستوطنات غوش عتصيون وإفرات وجبل أبو غنيم، لتيسير حركة المستوطنين هناك إلى شمال شرق القدس وتخفيف حركة المرور في وسط المدينة.
ولفت التفكجي إلى أن الطريق يربط المستوطنات داخل حدود البلدية بالمستوطنات خارجها لتنفيذ رؤية إسرائيل عن "القدس الكبرى"، والهدف هو قلب التوازن الديموغرافي، ليصبح الإسرائيليون أغلبية في المدينة، من خلال ضم تلك المستوطنات لتصبح جزءاً من حدود بلدية القدس.
على الجانب الآخر، فإن هذه الخطط تفرِّق القرى والبلدات الفلسطينية المجاورة وتعزلها وتطوِّقها بطرقٍ تابعة للمستوطنين والمستوطنات الإسرائيلية مع مصادرة ما تبقى من أراضي الفلسطينيين لشقِّ هذه الطرق.
قوانين عنصرية
قررت سلطات الاحتلال الإسرائيلي هدم 132 مبنى في جبل المكبر، يُزال 62 مبنى منها لإفساح المجال للطريق الجديد، ويُهدم 70 مبنى آخر بدعوى بنائها دون تصاريح بناء، واستناداً إلى قانون "كامينتس" العنصري الإسرائيلي (قانون يوسع صلاحيات الحكومة الإسرائيلية في معاقبة المتهمين بـ"البناء غير المشروع" ويخص بالدرجة الأولى العرب).
يقول محمد بشير إن هدم هذه المباني سينجم عنه انكماش عدد السكان الفلسطينيين في جبل المكبر من 38 ألفاً إلى 20 ألفاً.
منذ يناير/كانون الثاني، ينظم سكان جبل المكبر مسيرات أسبوعية أمام بلدية القدس للمطالبة بوقف عمليات الهدم. لكن المهندس محمد بشير يقول إن البلدية ردَّت على ذلك بزيادة عمليات الهدم، وقد هدمت بالفعل 8 مبان منذ بداية هذا العام. وتشتد المخاوف بين 170 عائلة أخرى في انتظار أن تواجه منازلهم مصير الهدم نفسه.
أجبروني على هدم منزل ابني
على الرغم من كل تلك العقبات التي وضعتها سلطات الاحتلال الإسرائيلية وعمليات الهدم المستمرة، فإن خالد بشير لم يستسلم أبداً. وفي عام 2020، بنى منزلاً آخر لابنه ليث، لكنه أُجبر على هدمه بنفسه قبل نهاية العام لتجنب الغرامات الباهظة وهدم البلدية للمنزل إن لم يفعل ذلك بنفسه.
يقول نبيل بشير "أشعر أنني مكبَّل"، مستنكراً قلة خياراته في مواجهة سياسات القمع الإسرائيلية، "فأنا عاجز عن توفير سقف لأبنائي فوق رؤوسهم، وهم مهددون الآن بطردهم قسراً في أي لحظة. وكل ذلك لأن الإسرائيليين يريدون بناء طريق سريع للمستوطنين على أرضنا".