تعرضت روسيا لأكبر حملة عقوبات فرضها الغرب على موسكو منذ بدء الهجوم على أوكرانيا، وطالت العقوبات الثروات الشخصية للرئيس فلاديمير بوتين ودائرته المقربة من رجال الأعمال، فأين يخفي هؤلاء ثرواتهم؟
وبدأ فرض العقوبات الغربية على روسيا، هذه المرة، منذ أن أعلن فلاديمير بوتين، الأحد 21 فبراير/شباط 2022، الاعتراف باستقلال لوغانسك ودونيتسك في إقليم دونباس الأوكراني، وتصاعدت وتيرة تلك العقوبات وحدتها وشمولها مع بدء الهجوم على أوكرانيا، الخميس 24 فبراير/شباط.
ومع تواصل الهجوم الروسي على أوكرانيا، تزايدت بشكل متسارع عزلة روسيا على جميع المستويات الاقتصادية والسياسية والرياضية، وحتى الثقافية والسينمائية، ولا تزال القوات الروسية لم تحقق انتصاراً حاسماً وسريعاً كما كان يأمل الرئيس الروسي.
هل يمكن الوصول لأموال أثرياء روسيا؟
يعتبر هذا السؤال هو جوهر قضية العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، فإذا لم يتمكن النظام المالي الرسمي أو الهيئات الرقابية المكلفة بمتابعة تطبيق العقوبات من معرفة مكان الأموال، فلن يكون ممكناً تطبيق تلك العقوبات.
ونشر موقع Quartz الأمريكي تقريراً عنوانه "أين تُخبِّئ نخبة روسيا الحاكمة ثروتها؟"، حاول رصد الإجابة عن السؤال، في حال كانت متوافرة من الأساس. فقصة العقوبات الاقتصادية ومدى جدواها في تحقيق الهدف من فرضها، وفي
الحالة الروسية يبدو أن الهدف هو إجبار موسكو على وقف الهجوم على أوكرانيا.لكن النخب الروسية اعتادت، على مدى عقود من الزمان، إخفاء أموالها بالخارج،وفي كثير من الأحيان كانت تفعل ذلك لصالح الكرملين. ووفقاً لمركز الأبحاث الأمريكي، Atlantic Council، يتحكم الرئيس فلاديمير بوتين وشركاؤه في نحو ربع ما يُقدَّر بتريليون دولار من الأموال السرية الروسية المخبأة خارج البلاد.
والآن مع محاولة الحكومات الغربية اتخاذ إجراءات صارمة ضد الأوليغارشية (النخبة الحاكمة) الروسية على خلفية الهجوم الروسي على أوكرانيا، أنشأت وزارة العدل الأمريكية فرقة العمل KleptoCapture الهادفة إلى تتبُّع الثروات الطائلة لرجال الأعمال الروس الداعمين لبوتين. لكن فعل ذلك قد يكون صعباً، بسبب الطبيعة الغامضة لاستثماراتهم، بحسب تقرير الموقع الأمريكي.
واستهدفت العقوبات الغربية أثرياء روسيا ورجال أعمالها المقربين من بوتين، مثل سيرغي بوريسوفيتش إيفانوف، الممثل الرئاسي الخاص لحماية البيئة والنقل، وهو أحد أقرب حلفاء بوتين، ونيكولاي بلاتونوفيتش باتروشيف، وهو أمين مجلس الأمن في الاتحاد الروسي، وهو مقرب من بوتين أيضاً، إضافة إلى إيغور إيفانوفيتش سيشين، وهو الرئيس التنفيذي لشركة روسنفت، وهي واحدة من أكبر شركات النفط المتداولة بالبورصة في العالم.
كما طالت العقوبات نخب القطاع الخاص الروسي، وعلى رأسهم ألكسندر ألكسندروفيتش فيدياخين، وهو النائب الأول لرئيس المجلس التنفيذي لبنك سبيربانك، وأندريه سيرغيفيتش بوتشكوف ويوري أليكسيفيتش سولوفيف، وهما مديران تنفيذيان رفيعا المستوى في بنك VTB، كما طالت العقوبات بوتين نفسه ووزير الدفاع سيرغي شويغو، وجميع أعضاء البرلمان الروسي الداعمين لقرار الهجوم على أوكرانيا.
كيف يخفي رجال الأعمال الروس أموالهم؟
تشير التقديرات إلى وجود ما يصل إلى 60% من ثروة روسيا في الخارج، وفقاً لورقة بحثية صادرة عن المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية لعام 2017 حول الملاذات الضريبية، بحسب تقرير Quiz.
من الناحية العملية، يعني هذا أنَّ أغنى مواطني الدولة غالباً ما يخزنون استثماراتهم في الخارج، من خلال العقارات والشركات الوهمية وهياكل الشركات المعقدة التي تخفي أسماءهم. لذا، في حين أنه قد يكون من الواضح أنَّ مليارديراً روسيّاً يستخدم قصراً أو يختاً، "فإنَّ إثبات ملكيته أو امتلاكها أمر صعب"، كما يقول جوش كيرشينباوم، الزميل في فريق The German Marshall Fund الأمريكي.
على سبيل المثال، كشف تسريب أوراق بنما لعام 2016 أنَّ نائب رئيس الوزراء الروسي السابق وزوجته كانا يستخدمان طائرة نفاثة بقيمة 37 مليون جنيه إسترليني، على الرغم من أنَّ ثروة الزوجين مجتمعة كانت تُقدَّر بنحو 634 ألف جنيه إسترليني فقط على الورق. ولم تُدرَج الطائرة تحت أسمائهم، لكن من خلال شركة في برمودا كانا المالكيّن المنتفعين لها.
وبحسب سكوت غريتاك، مدير المناصرة في منظمة الشفافية الدولية، إذا كان مسؤول روسي سابق يسعى إلى اختلاس الأموال ونقلها إلى الخارج، "فلن يشتري العقارات السكنية أو التجارية باسمه الحقيقي"، موضحاً كيف يمكن أن يمتلك أحد الأوليغارشية عقاراً من خلال شركة وهمية. وسمحت مثل هذه الممارسات للروس بتكديس ثرواتهم في أماكن مثل المملكة المتحدة، حيث يُقدَّر أنَّ نحو 87000 عقار ملكيته مجهولة.
هل يمكن للغرب أن يلاحق أصول الأثرياء الروس؟
في الأيام الأخيرة، كشفت الدول الغربية، وضمنها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا، عن خطط للتدقيق في الأصول الروسية ببلادهم، حتى إنَّ ألمانيا صادرت يخت الملياردير الروسي الخاضع للعقوبات أليشر عثمانوف في 2 مارس/آذار.
ويرى كيرشنباوم في الغالب أنَّ التعهدات الغربية بقمع الأصول الروسية مجرد خطابات في الوقت الحالي. فقد يستغرق تعقُّب أصول الأوليغارشية والاستيلاء عليها في الخارج سنوات، وحتى لو حدث هذا، فليس من المؤكد أنه قد يدفع بوتين إلى إنهاء الهجوم على أوكرانيا.
وقد تكون الخطوة الأكثر فاعلية هي استهداف الطبقة السياسية في روسيا، مثلما قال مستشار سابق بالكرملين؛ لأنهم في الواقع "هم من يصوغون قرارات بوتين ويوافقون عليها ويدعمونها وينفذونها".
وأدت العقوبات الغربية إلى تراجع الروبل لما يقرب من 30% قبل تدخل البنك المركزي الروسي لإنقاذ العملة من أدنى مستوياتها، وهناك توقعات بأن العقوبات التي فُرضت على البنك المركزي نفسه والشركات الكبيرة والنخبة الحاكمة والمسؤولين، ومن ضمنهم بوتين نفسه، ومنع بعض البنوك الروسية من استخدام نظام سويفت الدولي للمدفوعات، ستظهر آثارها السلبية أكثر خلال الأيام والأسابيع القليلة المقبلة.
لكن لا أحد يمكنه الجزم بمدى القدرة على تطبيق تلك العقوبات الغربية بشكل صارم، خاصةً تلك التي تستهدف ثروات النخبة الروسية، إذ يتطلب ذلك الوصول أولاً إلى مكان إخفاء تلك الثروة، وهي عملية قد تبدو يسيرة من حيث الشكل لكنها أصعب مما يتخيل كثيرون، في ظل وجود شبكات مالية دولية متخصصة في مساعدة الأثرياء على إخفاء ثرواتهم.
ويعتبر فشل العقوبات الأمريكية أو الدولية بشكل عام في تغيير سلوك الأنظمة التي تُفرض عليها، مثالاً قوياً على هذه الحقيقة، مهما كانت قسوة العقوبات أو مداها الزمني. ويستشهد أصحاب هذا الرأي بإيران وكوريا الشمالية، وحتى روسيا نفسها خلال السنوات الماضية، ومن قبل الجميع كوبا، التي عاشت في ظل عقوبات أمريكية كاسحة لعقود طويلة دون أن تحقق تلك العقوبات الهدف الأساسي منها وهو تغيير النظام هناك.