قبل أن يبدأ الهجوم على أوكرانيا، كانت أوروبا تسعى إلى إيجاد بدائل للغاز الروسي، لكن يبدو أن تلك المهمة ليست سهلة، فالبدائل المتوافرة غير كافية، فماذا يعني ذلك بالنسبة للعقوبات الغربية على روسيا؟
كانت موسكو قد تعرضت لأكبر حملة عقوبات فرضها الغرب عليها منذ بدء الهجوم على أوكرانيا، وبدأ فرض العقوبات الغربية على روسيا، هذه المرة، منذ أن أعلن فلاديمير بوتين الاعتراف باستقلال لوغانسك ودونيتسك في إقليم دونباس الأوكراني، وتصاعدت وتيرة تلك العقوبات وحدّتها وشمولها مع بدء الهجوم على أوكرانيا، الخميس 24 فبراير/شباط.
وكانت قضية الغاز الروسي الذي يصل إلى أوروبا عبر خط أنابيب ينقل الغاز الروسي إلى ألمانيا وباقي دول القارة، تمثل نقطة خلاف كبرى بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وتصاعدت حدة الخلاف مع مشروع نورد ستريم2، الذي أعلنت ألمانيا تعليقه أخيراً مع بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا.
تفاصيل اعتماد أوروبا على الغاز الروسي
صحيفة The Wall Street Journal الأمريكية نشرت تقريراً عنوانه "أوروبا تخشى أن يكون الأوان فات للتخلص من إدمانها للغاز الروسي"، رصد كيف أن الهجوم على أوكرانيا قد تسبب في عرقلة جهود أوروبا البطيئة لفطام نفسها عن الغاز الطبيعي الروسي.
الوقت ينفد، وهو ما يهدد بترك المستهلكين الأوروبيين يعانون من البرد، إضافة إلى تعطل المصانع عن العمل خلال الشتاء المقبل. فسواء أغلق الكرملين صنابير الغاز رداً على العقوبات الغربية أو توقفت أوروبا عن شراء الغاز، يتفق صانعو السياسة الأوروبيون على أنَّهم بحاجة للتحضير من أجل مستقبل به كمية أقل بكثير من الطاقة الروسية، والأفضل ألا تكون به طاقة روسية من الأصل.
ومن شأن فك ارتباط سوق الغاز الأوروبية عن روسيا أن يمثل تغيُّراً هائلاً بالنسبة لقارة زاد اعتمادها بصورة كبيرة على غاز التربة المتجمدة في سيبيريا لدرجة أنَّها لم تنشئ بنية تحتية تُذكَر للإمدادات البديلة.
يحصل الاتحاد الأوروبي على قرابة 40% من الغاز من روسيا، وزاد هذا الاعتماد في السنوات الأخيرة. ووفقاً لمركز أبحاث بروغل (Bruegel)، كان الاتحاد الأوروبي حتى هذا الأسبوع يدفع ما يصل إلى 600 مليون يورو (نحو 722 مليون دولار) يومياً لروسيا، فيما كان الغرب يسعى لشل موسكو بالعقوبات، ويمثل ذلك ثلاثة أضعاف مستوى ما قبل الغزو الروسي لأوكرانيا.
لكنَّ القول أسهل من الفعل فيما يتعلَّق باستبدال الغاز الروسي. إذ بلغ الكثير من محطات الغاز الطبيعي المسال التي تستقبل الشحنات من الولايات المتحدة وقطر، سعتها القصوى. ولن يكتمل إنشاء محطتين جديدتين وافقت عليهما الحكومة الألمانية هذا الأسبوع إلا بعد ثلاث سنوات على أقل تقدير، وذلك وفق ما قالته إحدى الشركات المشاركة في المشروع.
ويقول المحللون إنَّ الطاقة المتجددة ستستغرق وقتاً أطول من ذلك حتى تُحدِث فارقاً. والمُوردون الأقرب إلى أوروبا -مثل النرويج والجزائر وأذربيجان- ليسوا قادرين على زيادة الإنتاج بصورة كبيرة. كما أنَّ الروابط الداخلية بين شبكات خطوط الغاز في أوروبا غير مكتملة، ما يجعل من الصعب توزيع أي غاز إضافي متبقٍّ.
الغاز الروسي هو الأرخص على الإطلاق
وستأتي أي شحنات غاز مسال بأسعار أعلى بكثير من الغاز الروسي الذي يأتي عبر خطوط الأنابيب، وهو الأمر الذي يهدد الاقتصاد الأوروبي الذي يعاني من التضخم بالفعل. ويقول مركز بروغل إنَّ تخزين ما يكفي من مخزون غاز في أوروبا قبل حلول الشتاء المقبل قد يُكلِّف 70 مليار يورو (76.5 مليار دولار تقريباً) على الأقل وفق الأسعار الحالية، مقارنةً بـ12 مليار يورو (13.11 مليار دولار) في السنوات السابقة.
كل هذه المعطيات تترك صانعي القرار أمام خيارات بغيضة في حال توقفت الإمدادات من الغاز الروسي، وضمن ذلك ترشيد الطاقة واستخدام مزيد من الفحم، وهو ما يُعرِّض أهداف التغيُّر المناخي للخطر، خصوصاً أن أوروبا عانت بالفعل من تبعات كارثية لتغير المناخ على مدار العام الماضي.
ويقول المحللون إنَّ ذلك قد يؤدي- في حال حدوث سيناريو حاد- إلى الإغلاق المؤقت للمصانع الكيميائية والمصاهر وغيرها من الجهات ذات الاستهلاك الكثيف من الغاز. وقال المحللون إنَّه يمكن من الناحية العملية تحقيق ذلك من خلال تقديم الحكومات مدفوعات للشركات كي تحد من استهلاك الغاز الطبيعي والكهرباء إلى مستوى معين من خلال عطاءات. وسيتعين ترشيد استهلاك الغاز والكهرباء، وهو ما قد يؤدي إلى انقطاعات للكهرباء وتعطُّلات في أنظمة التدفئة.
وعلى الرغم من ترويج المسؤولين جهود تنويع مصادر الطاقة منذ سنوات، فإنَّ أوروبا فشلت إلى حدٍّ كبير في الاستعداد. فألمانيا لا تملك حالياً محطة غاز مسال واحدة. ولم يضع نظام نقل الغاز بالاتحاد الأوروبي في الاعتبار إمكانية حدوث توقف كامل للغاز الروسي في تدريبات محاكاة الأزمات، التي تُجرى سنوياً. وتُعَد روسيا أيضاً هي المورد الرئيسي للنفط الخام والفحم الصلب للاتحاد الأوروبي.
ويتباين اعتماد أوروبا على روسيا. فبلدان مثل ألمانيا وإيطاليا ومجموعة من دول وسط وشرق أوروبا عرضة لأن تكون الأكثر تضرراً في ظل اعتمادها بصورة أكبر على الواردات الروسية. ومن ناحية أخرى، لا تستهلك المملكة المتحدة والبرتغال وإسبانيا كثيراً من الغاز الروسي، لكن حتى هذه البلدان ستشعر بوخز ارتفاع الأسعار. وحطَّمت أسعار الغاز الأوروبية مستويات قياسية هذا الأسبوع بعدما وضع التجار تأثير الاضطرابات المحتملة في الاعتبار عند التسعير.
ألمانيا الأكثر اعتماداً على الغاز الروسي
قال مارتن فلاديميروف، مدير برنامج الطاقة والمناخ في مركز أبحاث "مركز دراسة الديمقراطية" بالعاصمة البلغارية، صوفيا، لـ"وول ستريت جورنال": "إذا ما توقف الغاز الروسي، فلن يكون للأسعار سقف".
وخفَّضت شركة Capital Economics للأبحاث توقعاتها للنمو الاقتصادي في منطقة اليورو هذا العام بنحو نقطة مئوية على خلفية العقوبات. وقالت الشركة إنَّ توقف إمدادات الغاز الروسي قد يُخفِّض النمو بواقع نقطتين مئويتين أخريين ويؤدي إلى ركود.
يتفق المسؤولون والمحللون على أنَّ تداعيات حدوث توقف كاملٍ الآن يمكن تجاوزها في الشتاء الحالي والربيع. فيقول المحللون إنَّ العديد من محطات الطاقة الحرارية التي تستخدم الغاز يمكن تحويلها إلى النفط في غضون أسبوع أو نحو ذلك، ولن يُحدِث ذلك إلا انقطاعات مؤقتة فقط في إمدادات التدفئة. وقد يتعين على الصناعات تقليص بعض أنشطتها.
لكن يبدو الأمر أكثر صعوبة خلال الشتاء المقبل، وما بعده. قال مركز بروغل إنَّ جلب مستوى قياسي من الواردات غير الروسية لن يكون كافياً لإعادة ملء محطات التخزين بصورة كافية قبل الشتاء المقبل، وسيتعين على أوروبا تخفيض طلبها على الغاز.
وحتى لو استطاع المسؤولون الأوروبيون تأمين إمدادات جديدة، فسيشكل إيصالها إلى المكان المناسب تحدياً. فمعظم قدرات أوروبا لإعادة تحويل الغاز المسال إلى هيئته الغازية موجودة في سواحلها الغربية بإسبانيا وفرنسا والمملكة المتحدة، لكنَّ أنظمة خطوط الأنابيب في ألمانيا والجناح الشرقي ليست متصلة جيداً بهذه الأماكن. يقول المحللون إنَّ محطات الغاز المسال في إسبانيا مُستخدَمة بنسبة 45% فقط، لكنَّ خطوط الأنابيب فوق جبال البرانس لا يمكنها نقل المزيد ومن الصعب زيادة سعتها.
وفي الشرق، تعمل الجارتان بلغاريا واليونان منذ سنوات، على إنشاء خط ربط من شأنه تمكين بلغاريا، التي تحصل على نحو 75% من غازها من روسيا، من الاستفادة من محطة غاز مسال يونانية. لكنَّه لم يبدأ العمل بعد.
وفي الوقت نفسه، فإنَّ التحول إلى استخدام الفحم، فضلاً عن تعريضه سياسات التغيُّر المناخي للخطر، سيكون عرضة بالقدر نفسه للأزمة. إذ حصل الاتحاد الأوروبي في 2020 على 49% من وارداته من الفحم الصلب من روسيا.
وبعد مقاومة طويلة لتنويع الإمدادات بعيداً عن الغاز الروسي الرخيص والوفير، كلَّفت ألمانيا، الأربعاء 2 مارس/آذار، مركز سوق تجارة الغاز لديها بشراء غاز مسال بقيمة مليار ونصف يورو (1.64 مليار دولار) من خارج روسيا. وتوجّه وزير الخارجية الإيطالي والمدير التنفيذي لشركة الطاقة الكبرى "إيني" إلى الجزائر للتفاوض على شحنات جديدة. والتقى المسؤولون النمساويون مع القادة من دول الخليج خلال الأسابيع الأخيرة.
وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي، يعمل المسؤولون على وضع قواعد لإجبار المُشغِّلين على إبقاء الاحتياطيات عند مستوى معين والتوسع في الطاقة المتجددة على المدى الطويل.
وبما أنَّ بناء محطات الغاز المسال يستغرق سنوات، فإنَّ أحد الخيارات الأخرى أمام صانعي السياسة هو تأجير أو شراء ما تُسمَّى بمحطات الغاز المسال العائمة التي عادةً ما تكون في صورة سفن ضخمة.
ترسو هذه السفن، التي تُكلِّف أقل من نصف تكلفة بناء محطة تقليدية على اليابسة وتكون جاهزة للتشغيل خلال أشهر، في موانئ وتوزع الغاز في شبكات خطوط الأنابيب الموجودة على اليابسة.
ومن الناحية النظرية، يُعَد استخراج الغاز الصخري خياراً آخر في أوروبا، ولو أنَّه يواجه معارضة كبيرة، بسبب مخاوف بيئية. وقد منعت ألمانيا عملية "التكسير الهيدروليكي" في عام 2016؛ خوفاً من إمكانية أن تتسبب المواد الكيميائية المستخدمة بهذه العملية في تلويث إمدادات المياه، لكنَّها تملك بعض الاحتياطيات الطبيعية التي يمكن أن تستغلها إذا ما غيَّرت القوانين، ولم تقل برلين إنَّ هذا من بين الخيارات التي تبحثها.