العقوبات الغربية التي فُرضت على روسيا، بعد الهجوم على أوكرانيا، تطرح سؤالاً مهماً حول مدى قدرة موسكو على التعايش هذه المرة، في ظل تنوع وشمولية تلك العقوبات.
بدأ فرض العقوبات الغربية على روسيا، هذه المرة، منذ أعلن الرئيس فلاديمير بوتين، الأحد 21 فبراير/شباط 2022، الاعتراف باستقلال لوغانسك ودونيتسك في إقليم دونباس الأوكراني، وتصاعدت وتيرة تلك العقوبات وحدتها وشمولها مع بدء الهجوم على أوكرانيا، الخميس 24 فبراير/شباط.
ومع اليوم السادس للهجوم الروسي على أوكرانيا، الثلاثاء 1 مارس/آذار، تزايدت بشكل متسارع عزلة روسيا على جميع المستويات الاقتصادية والسياسية والرياضية، وحتى الثقافية والسينمائية، ولا تزال القوات الروسية لم تحقق انتصاراً حاسماً وسريعاً كما كان يأمل الرئيس الروسي.
ولأن الأزمة الأوكرانية هي بالأساس صراع جيوسياسي بين روسيا وحلف الناتو، بقيادة الولايات المتحدة، فقد توحّدت العواصم الغربية بصورة غير مسبوقة في رفضها لما تصفه بالغزو الروسي، وسارعت بفرض عقوبات اقتصادية غير مسبوقة، وتزويد أوكرانيا بأطنان من الأسلحة، وفتح باب التطوع للقتال في أوكرانيا، وهو ما لم يكن يتوقعه الرئيس الروسي، بحسب كثير من المحللين.
عقوبات اقتصادية كاسحة على روسيا
تتبع حزم العقوبات التي تم فرضها على روسيا حتى الآن ربما يكون عملية صعبة، في ظل تسارع القرارات واتساع رقعتها بشكل لافت، فمن الولايات المتحدة إلى بريطانيا والاتحاد الأوروبي، ومن كندا إلى اليابان وأستراليا، لا تكاد تمر ساعات قليلة إلا ويتم الإعلان عن عقوبات جديدة يتم فرضها على روسيا.
العقوبات شملت القطاع المالي الروسي، إذ بدأت بريطانيا باستهداف 5 بنوك روسية، كما تقرر استبعاد البنوك الروسية من النظام المالي في لندن، وقال رئيس الوزراء بوريس جونسون، إن العقوبات هي "الأكبر في أوروبا بفارق كبير، ما يحولُ دون وصول روسيا إلى مدفوعات الجنيه الإسترليني والمقاصة عبر المملكة المتحدة".
وفرضت أمريكا عقوبات على 4 بنوك روسية لديها أصول بتريليون دولار، بحسب ما قال الرئيس جو بايدن، بالإضافة إلى عقوبات على أكبر مؤسستين ماليتين في روسيا، هما شركة الأسهم العامة (سبيربنك)، وشركة VTB Bank العامة للأوراق المالية المشتركة (VTB Bank).
كما أقر بايدن عقوبات قال إنها ستحد من قدرة موسكو على إجراء تعاملات بالدولار والينّ، إضافة إلى فرض عقوبات جديدة تشمل الصادرات الروسية.
ومن بين الشركات الروسية التي فرضت عليها عقوبات أيضاً أهم بنك للأوراق المالية، وهو ثالث أكبر مؤسسة مالية في روسيا، وينتسب بشكل وثيق إلى قطاع الطاقة، إضافة إلى شركة الأسهم المشتركة "البنك الزراعي الروسي"، وهو خامس أكبر مؤسسة مالية في روسيا، وينتمي بشكل وثيق إلى القطاع الزراعي.
كما أقر الاتحاد الأوروبي عقوبات مالية تستهدف 70% من البنوك الروسية لرفع تكلفة الاستدانة وتقييد وصول الأثرياء والشركات الكبيرة إلى السوق المالية الأوروبية، وقال الاتحاد إنه سيجمِّد أصول روسيا في التكتل، ويوقف وصول بنوكها إلى الأسواق المالية الأوروبية.
واستهدفت العقوبات أيضاً أثرياء روسيا ورجال أعمالها المقربين من بوتين، مثل سيرغي بوريسوفيتش إيفانوف، الممثل الرئاسي الخاص لحماية البيئة والنقل، وهو أحد أقرب حلفاء بوتين، ونيكولاي بلاتونوفيتش باتروشيف، وهو أمين مجلس الأمن في الاتحاد الروسي، وهو مقرب من بوتين أيضاً، بالإضافة إلى إيغور إيفانوفيتش سيشين، وهو الرئيس التنفيذي لشركة روسنفت، وهي واحدة من أكبر شركات النفط المتداولة في البورصة في العالم.
كما طالت العقوبات نخب القطاع الخاص الروسي، وعلى رأسهم ألكسندر ألكسندروفيتش فيدياخين، وهو النائب الأول لرئيس المجلس التنفيذي لسبيربانك، وأندريه سيرغيفيتش بوتشكوف ويوري أليكسيفيتش سولوفيف، وهما مديران تنفيذيان رفيعا المستوى في بنك VTB. يوضح المسؤولون الأمريكيون أنه بالنظر إلى هذه العقوبات ككل، فإنَّ الهدف منها هو إحداث صدمة للنظام المالي الروسي، وهز أسواق الدولة، وإعاقة صناعاتها الحيوية، وعرقلة النمو الاقتصادي.
وطالت العقوبات بوتين نفسه ووزير الدفاع سيرغي شويغو وجميع أعضاء البرلمان الروسي الداعمين لقرار الهجوم على أوكرانيا، وإلغاء حرية الوصول للجوازات الدبلوماسية ورجال الأعمال الروس للسفر بدون تأشيرات.
كما تم فرض قيود على تصدير منتجات الطاقة الروسية وتقييد تطوير مصافي التكرير، وطالت العقوبات بيع قطع الغيار والطائرات، حيث يتم بناء ثلاثة أرباع الطائرات المستخدمة تجارياً في روسيا داخل دول الاتحاد الأوروبي، وتم تقييد وصول روسيا لتكنولوجيا أشباه الموصلات وكافة أشكال التكنولوجيا الحساسة.
حصار شامل على روسيا
بالإضافة إلى حزم العقوبات الاقتصادية التي يتم تشديدها على مدار الساعة، تواجه روسيا أيضاً عقوبات رياضية، وحظر طيران يمكن وصفه بفرض عزلة دولية على موسكو؛ إذ قرر الاتحاد الدولي لكرة القدم طرد المنتخب الروسي من تصفيات الملحق الأوروبي للتأهل لمونديال قطر 2022.
وكان المنتخب الروسي لكرة القدم سيستضيف نظيره البولندي يوم 24 مارس/آذار الجاري، ضمن الملحق الأوروبي للتصفيات، وفي حالة فوز روسيا كانت ستستضيف أيضاً الفائز من السويد والتشيك، لكن قرر الاتحاد الدولي استبعاد المنتخب الروسي بشكل تام وحرمانه من استكمال التصفيات.
وكان الاتحاد الأوروبي لكرة القدم قد اتخذ قراراً بنقل نهائي دوري أبطال أوروبا الجاري من مدينة سانت بطرسبرغ الروسية إلى باريس، بعد بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا، ثم قرر الاتحاد استبعاد المنتخب الروسي والأندية من جميع بطولاته وإيقافها لأجل غير مسمى، والقرار نفسه اتخذه الاتحاد الدولي (الفيفا).
وعلى نفس المنوال سارت جميع الاتحادات الرياضية الدولية، وكذلك فعلت اللجنة الأولمبية الدولية، وقرر الاتحاد الدولي للعبة الجودو سحب الرئاسة الشرفية التي كان الرئيس الروسي يتمتع بها، فبوتين كان ولا يزال يمارس رياضة الجودو.
وعلى مستوى السفر الجوي، قررت بريطانيا والاتحاد الأوروبي حظر شركات الطيران الروسية من التحليق في أجوائها، إذ أعلنت بريطانيا حظر شركة إيروفلوت للطيران الروسية، وقررت منع هبوط رحلات الشركة في مطارات بريطانيا، وتوالت تلك القرارات حتى أصبح وصول الدبلوماسيين الروس أو وزير الخارجية سيرغي لافروف إلى مقر الأمم المتحدة، سواء في جنيف أو نيويورك، مسألة صعبة وربما مستحيلة.
الحصار أو العقوبات لم تتوقف عند حدود الاقتصاد والرياضة، بل وصلت إلى السينما، إذ قالت ثلاثة استوديوهات رئيسية هي سوني وديزني ووارنر براذرز إنها ستوقف عرض الأفلام القادمة في روسيا مؤقتاً، بحسب رويترز.
هل تتمكن روسيا من التعايش مع تلك العقوبات؟
تبدو عزلة روسيا شبه تامة على جميع المستويات، اقتصادياً وسياسياً ورياضياً وحتى ثقافياً، ولا يزال الهجوم الروسي على أوكرانيا في يومه السادس، دون وجود أي مؤشرات على أن تراجع الرئيس الروسي وانسحابه احتمال وارد، ولو بنسبة ضئيلة.
وفيما يتعلق بمدى قدرة روسيا على التعايش مع تلك العقوبات الكاسحة يوجد انقسام واضح في الآراء بين فريقين: الأول يرى أن موسكو يمكنها بالفعل التعايش مع العقوبات هذه كما فعلت عام 2014، بينما يرى الفريق الثاني أن الأمور مختلفة بشكل جذري هذه المرة.
الفريق الأول يبني وجهة نظره على عدد من الحقائق، أبرزها أن العقوبات لن تؤثر على الاقتصاد والمواطنين الروس فقط، بل سيمتد تأثيرها للاقتصاد الأوروبي أيضاً. وكان شار ميشيل، رئيس المجلس الأوروبي قد قال أمام البرلمان الأوروبي، الثلاثاء 1 مارس/آذار: "تداعيات العقوبات ستؤثر بشكل كبير على روسيا، لقد حشدنا جهودنا لمنع استخدام احتياطات البنك المركزي الروسي. العقوبات ستؤثر علينا أيضاً، وعلينا أن نكون مستعدين لذلك"، بحسب وكالة سبوتنيك.
أما العنصر الثاني في وجهة النظر تلك فيتعلق بحقيقة تعرُّض روسيا لعقوبات أمريكية وغربية على مدى العقدين الماضيين، سواء بسبب الحرب في الشيشان أو حرب جورجيا 2008، وصولاً إلى عام 2014 عندما ضمت موسكو شبه جزيرة القرم الأوكرانية، وكانت تلك العقوبات شبيهة إلى حد بعيد بالعقوبات الحالية، وإن كانت أقل حدة من جانب الأوروبيين.
أما النقطة الثالثة فتتعلق بفكرة فشل العقوبات الأمريكية أو الدولية بشكل عام في تغيير سلوك الأنظمة التي تُفرض عليها، مهما كانت قسوة العقوبات أو مداها الزمني، ويستشهد أصحاب هذا الرأي بإيران وكوريا الشمالية، وحتى روسيا نفسها خلال السنوات الماضية. وهناك أيضاً الفارق الكبير بين روسيا وإيران من ناحية القدرات الاقتصادية والإمكانيات العسكرية والسياسية، فروسيا عضو دائم في مجلس الأمن الدولي في نهاية المطاف.
أما أصحاب الرأي الذي يشكك في قدرة روسيا على التعايش مع العقوبات الغربية هذه المرة، فيرون أن الإرادة الدولية هذه المرة تبدو متحدة بصورة لم تحدث من قبل، وانعكس هذا في مدى شمولية العقوبات لجميع المجالات، وهذا واضح تماماً في التأثير الفوري لتلك العقوبات حتى الآن.
إذ أدت العقوبات الغربية إلى تراجع الروبل لما يقرب من 30% قبل تدخل البنك المركزي الروسي لإنقاذ العملة من أدنى مستوياتها، وهناك توقعات بأن العقوبات التي فُرضت على البنك المركزي نفسه والشركات الكبيرة والنخبة الحاكمة والمسؤولين، بمن فيهم بوتين نفسه، ومنع بعض البنوك الروسية من استخدام نظام سويفت الدولي للمدفوعات، ستظهر آثارها السلبية أكثر خلال الأيام والأسابيع القليلة المقبلة.
وانسحبت شركات عالمية كبرى من روسيا بالفعل، ومن المتوقع زيادة عدد الشركات المنسحبة، وتوجيه ضربات أخرى لاقتصاد البلاد، والثلاثاء قالت شركات شل وبي بي وإكوينور النرويجية إنها ستخرج من مواقعها في روسيا.
كما قامت البنوك العالمية البارزة وشركات الطيران وشركات صناعة السيارات بوقف الشحنات وإنهاء الشراكات مع روسيا، مع تفكير المزيد من الشركات في اتخاذ إجراءات مماثلة.
كما قالت كندا إنها ستحظر واردات النفط الخام الروسي، وقال السيناتور الجمهوري الأمريكي ليندسي غراهام، إنه لا بد أن تستهدف إدارة الرئيس جو بايدن قطاع الطاقة الروسي بفرض عقوبات. ويمثل النفط والغاز أكبر مصدرين لدخل روسيا من الصادرات. وقال غراهام للصحفيين "إننا إن لم نستخدم قطاع الطاقة كسلاح نتقاعس عن إصابة بوتين في أكثر القطاعات إيلاماً له".
الخلاصة هنا هي أنه من السابق لأوانه تقديم إجابة حاسمة بشأن مدى قدرة روسيا على التعايش مع العقوبات الغربية هذه المرة، رغم حدة وعمق وشمولية تلك العقوبات، فروسيا 2022 أقوى وأكثر استعداداً لتحمل العقوبات من روسيا 2014، بحسب المحللين الروس، بينما وحدة الغرب في التصدي لروسيا هي أيضاً غير مسبوقة.