"احتفل آلاف الماليين بطرد السفير الفرنسي في العاصمة باماكو" في مؤشر واضح على تزايد العداء لفرنسا في إفريقيا، حيث أصبح العديد من الأفارقة ينظرون إلى الفرنسيين على أنهم دخلاء إن لم يكونوا أشخاصاً غير مرغوب فيهم في العديد من البلدان التي كانوا يسيطرون عليها ذات يوم.
وأصبح الطلاق الفرنسي من مالي قاعدة أكثر منه استثناء. إذ بدأت الهيمنة الدبلوماسية الفرنسية في إفريقيا، التي يزيد عمرها على قرن من الزمان، تنتهي شيئاً فشيئاً، ومعها، ينتهي ادعاء فرنسا بأنها فاعل رئيسي على المسرح العالمي، حسبما ورد في تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية.
وتزايد إحباط باريس من باماكو باستمرار. انتشرت القوات الفرنسية في الدولة الواقعة في غرب إفريقيا في يناير/كانون الثاني 2013 لمحاربة تمرّد الطوارق الذي استغله تنظيم تابع للقاعدة للسيطرة على أراضي في شمال البلاد.
ورغم أنَّ مالي كانت ذات يوم واحدة من أكثر دول إفريقيا ديمقراطية، فقد تحولت إلى مستنقع من الحكم السيئ والتمرد، الذي يغذي كل منهما الآخر. وفي الآونة الأخيرة، تعاقد المجلس العسكري في مالي مع مجموعة فاغنر شبه العسكرية الروسية، المعروفة بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان ونهب الموارد المحلية. وفي هذه الأثناء، تستعد القوات الفرنسية للخروج من البلاد.
العداء لفرنسا في إفريقيا يمتد لدول أخرى، والتاريخ هو السبب
ولكن تدهور النفوذ الفرنسي امتد إلى دول إفريقية أخرى، لنأخذ على سبيل المثال جمهورية إفريقيا الوسطى: قبل عام، هدَّد المتمردون في المستعمرة الفرنسية السابقة الغنية بالموارد بنهب العاصمة بانغي. ووقفت الأمم المتحدة، التي لديها قوة حفظ سلام قوية في البلاد، جانباً، وكذلك فعلت فرنسا. وفي النهاية، كانت رواندا، التي يبلغ عدد سكانها خُمس سكان فرنسا وجيشها أقل من عُشر حجم الجيش الفرنسي، هي من هبت للمساعدة وأوقفت تقدم المتمردين، ودفعتهم إلى المناطق النائية. ومن وجهة نظر السكان المحليين، ضاعف هذا التقاعس الفرنسي من شعورهم بالخيانة عقب دعم الرئيس الراحل فاليري جيسكار ديستان للديكتاتورية المحلية مقابل إمداد الخزائن الفرنسية بألماس إفريقيا الوسطى.
على الرغم من أنَّ جيلاً من صانعي السياسة الفرنسيين اعتقدوا أنَّ بإمكانهم نهب مواطني جمهورية إفريقيا الوسطى ثم الإفلات بفعلتهم، فقد تعلموا أنَّ سكان إفريقيا الوسطى لديهم ذاكرة قوية.
فرنسا تواطأت في مذابح رواندا
ثم هناك رواندا نفسها. بينما كانت رواندا في الأصل مستعمرة بلجيكية، عاملتها فرنسا على أنها ملكها بعد استقلال البلاد عام 1962. ومع ذلك، كانت السياسة الفرنسية، ملتوية. إذ تُظهِر وثائق أرشيفية فرنسية، رُفِعت عنها السرية، وتقييم للمصادر المتاحة حديثاً، بما لا يدع مجالاً للشك تواطؤاً فرنسياً مباشراً في الإبادة الجماعية ضد التوتسي عام 1994. وماذا كانت دوافع فرنسا؟ عدم الثقة بالروانديين الذين يسعون إلى علاقات أقوى مع العالم الناطق باللغة الإنجليزية وكذلك استعداد الرئيس جوفينال هابياريمانا -الذين خطط مقاتلو الهوتو تحت إمرته للإبادة الجماعية ضد التوتسي– لإخضاع المصالح الرواندية وحقوق الإنسان للطلبات الفرنسية. وصار من الواضح الآن أنه لولا شكوك الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، لما كانت هناك إبادة جماعية في رواندا.
وفي الوقت الحالي، قال الرئيس إيمانويل ماكرون إنَّ القوات المنسحبة من مالي ستعيد انتشارها في أماكن أخرى في منطقة الساحل. لكن من غير الواضح إلى متى سيكون مرحباً بها. أسقط مقتل الرئيس التشادي إدريس ديبي أثناء قتاله للمسلحين الإرهابيين حليفاً فرنسياً قوياً. ومع ذلك، فإنَّ دعم ماكرون ووزارة الخارجية لنجل ديبي قد يأتي بنتائج عكسية على حساب النفوذ الفرنسي في المستقبل. وتراقب بوركينا فاسو والنيجر ودول الساحل الأخرى جيرانها بعناية، ولن تتردد هذه الدول في طرد فرنسا وهي في طريقها إلى السقوط، خاصة إذا وجدت البدائل.
والصين تزيحها من أهم مناطق نفوذها
إضافة إلى ذلك، كان لعدم رغبة فرنسا في الاعتراف بالمنافسة الإقليمية تأثير عكسي أيضاً. جيبوتي، على سبيل المثال، كانت ذات يوم الدعامة الاستراتيجية لفرنسا.
وحتى ما قبل عقد من الزمان، كانت جيبوتي موطناً للواء الديمي الثالث عشر من الفيلق الأجنبي. وانتقلت بعد ذلك إلى الإمارات العربية المتحدة ثم عادت إلى فرنسا.
وفي هذه الأثناء، أصبحت الصين النفوذ المهيمن في المستعمرة الفرنسية السابقة. وإضافة إلى الصين، تستخدم روسيا مرتزقة فاغنر لنشر النفوذ في إفريقيا.
تركيا تطارد فرنسا في معقل نفوذها بإفريقيا
من جانبها، تستخدم تركيا الخطاب المناهض للفرنسيين والاستعمار لتنمية علاقتها مع المستعمرات الفرنسية السابقة في جميع أنحاء إفريقيا.
في جولة هي الأولى إفريقيا في عام 2022، زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كلاً من الكونغو الديمقراطية (زائير سابقاً) والسنغال، ضمن مناطق النفوذ الفرنسي، الذي يشهد تراجعاً ملحوظاً، آخره قرار الانسحاب العسكري من مالي.
الجولة التي بدأها الرئيس أردوغان، من الكونغو الديمقراطية (وسط إفريقيا) في 20 فبراير/شباط 2022، كان من المقرر أن يختمها في 23 من ذات الشهر من غينيا بيساو، إلا أنه أجلّ زيارتها واكتفى بلقاء رئيسها عمر سيسكو إمبالو.
واختصر أردوغان رؤيته الاستراتيجية للقارة السمراء، بالقول: "الألفية الثالثة ستكون عصر إفريقيا"، وهذا ما يفسر تكثيفه جولاته الإفريقية، أكثر من أي زعيم آخر.
فمضاعفة التبادل التجاري مع الدول الإفريقية، يمثل قاطرة الشراكة الاستراتيجية التي تتبناها تركيا، وأشار إليها الرئيس أردوغان، خلال تواجده في السنغال، عندما تحدث عن "ارتفاع إجمالي تجارتنا مع القارة الإفريقية من 5.4 مليار دولار في عام 2003 إلى 34.5 مليار دولار بحلول نهاية عام 2021".
وإذا استثنينا الدول العربية في شمال القارة السمراء، فإن حجم التجارة مع بلدان إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، بلغ -بحسب أردوغان- "11.7 مليار دولار في عام 2021، بعد أن كان 1.3 مليار دولار في عام 2003".
ويشكل استمرار انعقاد منتدى الأعمال ومؤتمر القمة التركية-الإفريقية الأهمية الاستراتيجية التي يوليها الرئيس أردوغان في توسيع آفاق هذه الشراكة إلى أبعد مدى.
اللافت أن الرئيس التركي يركّز زياراته في الفترة الأخيرة على مناطق النفوذ الفرنسي المتداعي في غرب إفريقيا، ففي آخر جولتين له للقارة السمراء، زار 5 دول ناطقة بالفرنسية من إجمالي 6، بما فيها الكونغو الديمقراطية، التي خضعت للاستعمار البلجيكي، لكنها ضمن ما يسمى "فرنسا-إفريقيا".
وبعد أن تركز تعاون تركيا مع إفريقيا في قطاع المقاولات والمبادلات التجارية، توسع هذا التعاون إلى ميادين أكثر استراتيجية على غرار الاستثمارات والتعاون العسكري.
كما فرض وباء كورونا "دبلوماسية التلقيح"؛ إذ تعد تركيا من أبرز الدول التي قدمت لقاحات ومستلزمات طبية إلى الدول الإفريقية، خاصة تلك التي تعاني من هشاشة منظومتها الصحية.
ما الموقف الأمريكي مما يحدث في القارة؟
إنَّ نزيف النفوذ الفرنسي واضح الآن، لكنه بدأ بالفعل منذ سنوات.
وبالنسبة لواشنطن، هناك سؤالان مطروحان: الأول هو سبب تجاهل فرنسا لعلامات التحذير، وما إذا كان يمكن أن يحدث شيء مشابه لنفوذ الولايات المتحدة. رغم أنَّ الولايات المتحدة ليس لديها إرث استعماري في إفريقيا، لكن لديها تاريخ في دعم الحرب الباردة وانتهاكات حقوق الإنسان خلال الحرب العالمية على الإرهاب، التي ربما تكون واشنطن قد نسيتها، لكن السكان المحليين في مختلف البلدان لم ينسوها. أما السؤال الثاني فهو ثمن الرضا عن النفس. إذ ما كان ينبغي لفرنسا أن تسمح للصين بالتنافس عليها في جيبوتي، ولا ينبغي لها أن تسمح لتركيا بتنمية نفوذها في العديد من البلدان الفرنكوفونية أكثر من فرنسا نفسها.
ثم يبرز سؤال آخر لصانعي السياسة الأمريكيين، وهو ما إذا كانوا يقبلون أن تملأ الصين وإيران وتركيا فجوة القيادة التي خلّفتها فرنسا في إفريقيا. على الرغم من أنَّ البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية قد ينفون علناً شيئاً بهذا المعنى، لكن يبدو أنَّ كليهما غير مستعدين لفعل أي شيء لتجنب نتيجة مماثلة.