هناك جانب يتم تجاهله تماماً في الأزمة الأوكرانية، هو محنة الأقلية الروسية في أوكرانيا، وكذلك وضع اللغة الروسية في البلاد والمتحدثين بها، الذين هم ضحية محاولات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استغلالها، وكذلك ضحية التمييز من قبل القوميين الأوكرانيين، والتجاهل الفاضح من الغرب.
وفي معرض تبريره للغزو الروسي، كثيراً ما لجأ بوتين إلى إثارة مسألة الأقلية الروسية في أوكرانيا والمشكلات التي يتعرض لها الناطقون بالروسية، متحدثاً أحياناً عن تعرضهم لإبادة جماعية.
ويجب التفرقة بين الأقلية الروسية في أوكرانيا (المواطنين المنحدرين من أصول روسية قد تعود لمئات السنين) وبين المتحدثين باللغة الروسية الذي هو مصطلح قد يكون فضفاضاً بالنظر إلى أن كثيراً من الأوكرانيين ثنائيو اللغة.
ويعد استخدام اللغة الروسية في أوكرانيا وحالتها موضوعاً للنزاعات السياسية، وأصبحت اللغة الأوكرانية مؤخراً هي لغة الدولة الوحيدة في البلاد، ومع ذلك فإن اللغة الروسية هي لغة مستخدمة على نطاق واسع في أوكرانيا في الثقافة الشعبية وفي الاتصالات غير الرسمية والتجارية.
كم تبلغ نسبة الأقلية الروسية في أوكرانيا؟
هناك ما يقرب من ثمانية ملايين من أصل روسي يعيشون في أوكرانيا، وفقاً لتعداد عام 2001، معظمهم في الجنوب والشرق، حيث تشير تقديرات إلى أن الروس يمثلون نحو 17% من سكان البلاد قبل أزمة 2014، وتزعم موسكو أن من واجبها حماية هؤلاء الأشخاص كذريعة لأفعالها في أوكرانيا.
ولكن اللغة الروسية أكثر انتشاراً في أوكرانيا من الروس، إذ يُعتقد أنه في عام 2001 كان نحو 30% من السكان يتكلمون الروسية كلغة أولى، كما كانت اللغة الروسية هي اللغة المهيمنة فعلياً خلال العهد السوفييتي رغم أن الأوكرانية هي اللغة الرسمية بجانب الروسية في ذلك العهد، علماً بأن الأرقام الخاصة بالمتحدثين بالروسية كلغة أم بالنظر إلى ميل كثير من القوميين إلى القول في الاستفتاءات إنهم يتحدثون بالأوكرانية بينما هم يتحدثون بالروسية أو اللغتين.
ويُعتقد أن اللغة الأوكرانية في صعود، خاصة بعد أزمة 2014 بالمناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة المركزية، خاصة في ضوء القرارات ضد اللغة الروسية التي اتخذتها كييف والتي قوبلت بانتقادات حادة من موسكو.
وثاني أكبر مدن البلاد سكاناً خاركيف يتحدث نصف سكانها بالروسية، فيما ثالث أكبر مدن أوديسا يتحدث نحو ثلثي سكانها باللغة الروسية.
بصفة عامة، فإن الروسية ضعيفة الوجود في غرب البلاد، ولها وجود قوي في وسط البلاد، إلى جانب الأوكرانية، حيث يجيد كثير من السكان الحديث باللغتين (قد تكون الأوكرانية أقوى في الوسط)، وفي المناطق الريفية بالوسط هناك لغة وسط بين الأوكرانية والروسية ولكن تصنف كلهجة أوكرانية.
أما مناطق الجنوب والشرق، والشمال الشرقي، فتعد معاقل اللغة الروسية حيث تسود في المدن، بينما تتواجد الأوكرانية في الريف بشكل أساسي.
اللغة الروسية ضحية عدوانية بوتين واللهفة على الغرب
يمكن القول إن الأقلية الروسية في أوكرانيا واللغة الروسية في البلاد هي ضحية لسياسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وكذلك لسياسات كثير من القوميين الأوكرانيين التي كانت معاقلهم في الغرب المتحدث بالأوكرانية ثم امتدت للوسط، وهؤلاء يريدون قطع أي صلة للأوكرانيين باللغة الروسية وليس روسيا فقط.
وكان أحد أسباب تفجر أزمة عام 2014، التي انتهت بضم روسيا للقرم ودعمها لانفصال إقليم الدونباس الناطق بالروسية، أنه في 23 فبراير/شباط 2014، تبنّى البرلمان مشروع قانون لإلغاء قانون 2012، الذي أعطى اللغة الروسية صفة رسمية، لم يتم سن مشروع القانون، ومع ذلك، أثار الاقتراح ردود فعل سلبية في المناطق الناطقة بالروسية في أوكرانيا، وركزت وسائل الإعلام الروسية على هذا المقترح، قائلة إن السكان من أصل روسي في خطر داهم.
في 11 مارس/آذار 2014، وسط الاضطرابات المؤيدة لروسيا في أوكرانيا، قام المجلس الوطني الأوكراني للبث التلفزيوني والإذاعي بإغلاق بث القنوات التلفزيونية الروسية.
ومنذ 19 أغسطس/آب 2014، حظرت أوكرانيا 14 قناة تلفزيونية روسية "لحماية مساحتها الإعلامية من العدوان من روسيا، التي تتعمد التحريض على الكراهية والخلاف بين المواطنين الأوكرانيين".
في أوائل يونيو/حزيران 2015، تم حظر 162 فيلماً ومسلسلاً تلفزيونياً روسياً في أوكرانيا لأنها شوهدت تحتوي على ترويج و/ أو إثارة و/ أو دعاية للتدخل العسكري الروسي في 2014-2015 في أوكرانيا، كما تم حظر جميع الأفلام التي تعرض ممثلين "غير مرغوب فيهم" روساً أو داعمين لروسيا.
كيف توغلت اللغة الروسية والروس في البلاد لهذا الحد؟
لقرون، خضعت أوكرانيا لهجرات روسية والأهم تأثير اللغة الروسية الذي كان قسرياً في كثير من الأحيان، وتزامن مع اضطهاد ومنع للغة الأوكرانية (اضطهاد بدأه البولنديون وواصله القياصرة، وتقلب موقف السوفييت منه).
وبينما كان اضطهاد الأوكرانية وتوطين الروس سبباً لترسخ الروسية في البلاد في العهد القيصري فإن المجاعة التي أدت إلى موت الملايين من الأوكرانيين جراء محاولة إقامة مزارع جماعية قسراً في عهد الزعيم الشيوعي جوزيف ستالين أدت إلى تعزيز الوجود الروسي لأن الأوكرانيين كانوا أكثر تأثراً بها من الروس، كما جلب ستالين ملايين الفلاحين الروس بدلاً من الضحايا الأوكرانيين في ظل محاولة عميقة لترويس أوكرانيا.
ولكن في عهد الزعيم السوفييتي نيكيتا خورشوف حصلت الأوكرانية والقومية على رد اعتبار، لم يوقف سريان تأثير الروسية في أوصال البلاد خاصة المدن.
ويرى المعارضون للغة الروسية عملية تعزيز الأوكرانية وتقييد الروسية في إطار كفاح أوكرانيا الطويل من أجل إقامة دولة مستقلة بعد أن تعرضت اللغة الأوكرانية للاضطهاد والتهميش طوال الحقبة القيصرية والسوفييتية.
وعلى الرغم من ترقية اللغة الأوكرانية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، استمرت اللغة الأوكرانية في لعب الدور الثاني للغة الروسية في معظم أنحاء البلاد.
وعكس الجدل الوطني حول قضية اللغة الانقسامات المستمرة داخل المجتمع الأوكراني حول المواقف تجاه الدور المهيمن الذي لعبته روسيا في ماضي البلاد.
المفارقة أن ثنائية اللغة واقع يومي في أوكرانيا، حيث يتم التحدث باللغة الروسية والأوكرانية بشكل شائع ومفهوم على نطاق واسع في جميع أنحاء البلاد. وتظل اللغة الروسية في الصدارة في معظم المدن الأوكرانية، بينما تميل الأوكرانية إلى الهيمنة في المناطق الريفية في أوكرانيا وعبر المناطق الغربية التي كانت خاضعة لإمبراطورية هابسبورغ السابقة (الإمبراطورية النمساوية المجرية)، لكن السيولة اللغوية للبلد تجعل من الممكن سماع كلتا اللغتين المنطوقتين في محادثة واحدة.
لماذا فشل بوتين في استغلال الناطقين باللغة الروسية لصالحه؟
كثيراً ما استغلت الأحزاب السياسية الموالية للكرملين في روسيا وأوكرانيا قضية وضع اللغة الروسية سياسياً.
فمنذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تم تشجيع الأوكرانيين الناطقين بالروسية على التفكير في أنفسهم كأقلية متميزة ومضطهدة. وصلت هذه الرسائل إلى ذروتها خلال ضم الكرملين لشبه جزيرة القرم عام 2014 وحملة "الربيع الروسي" اللاحقة في جميع أنحاء جنوب وشرق أوكرانيا (احتجاجات في المناطق الشرقية والجنوبية ضد إقالة الرئيس الموالي لروسيا فيكتور يانكوفيتش). وظلت في قلب الحرب الروسية الهجينة المستمرة ضد أوكرانيا منذ ذلك الحين التي استغلت مسألة الدفاع عن السكان الناطقين بالروسية في أوكرانيا، حيث استشهدت بها مرارًا وتكراراً وسائل إعلام الكرملين وفلاديمير بوتين نفسه.
ولكن يبدو أن محاولة بوتين فصل مناطق شرق أوكرانيا وجنوبها خلال أزمة عام 2014، عن كييف، قد أدت إلى نتيجة عكسية.
ففي بداية الأزمة، احتج سكان المناطق الناطقة بالروسية في الشرق والجنوب على إسقاط المعارضة الموالية للغرب للرئيس الحليف لروسيا فيكتور يانوكوفيتش عام 2014، والذي كان قد اُنتخب من قبل هذه المناطق.
ولكن رفض أغلب السكان والمسؤولين المحليين محاولة بعض أنصار موسكو لفصل هذه المناطق عن البلاد، والتدخل الروسي في أقاليمهم.
ولقد أدى الدور البارز الذي لعبه الأوكرانيون الناطقون بالروسية في التصدي لمحاولة الغزو والتدخل الروسية عام 2014 في بعض المناطق ذات الغالبية الناطقة بالروسية إلى الكثير من تغيير مفاهيم اللغة والهوية في أوكرانيا اليوم، مما أدى إلى ظهور هوية وطنية مدنية تتجاوز الحدود الضيقة للغة والعرق.
ورأى الكثيرون في انتخاب فولوديمير زيلينسكي سادس رئيس لأوكرانيا في عام 2019 تأكيداً إضافياً للسياسات اللغوية المتطورة في البلاد، باعتباره يهودياً يتحدث اللغة الروسية.
ولكن قبل الغزو الروسي الأخير، ظلت قضية وضع اللغة الروسية تثير ردود فعل متطرفة داخل المجتمع الأوكراني.
قانون يعطي ميزات للإنجليزية والتركية أفضل من الروسية
ولكن يتجاهل الغرب تماماً أن القوانين التمييزية ضد اللغة الروسية هي بمثابة انتهاك لحقوق الإنسان، ويتم التركيز عليها فقط باعتبارها نموذجاً لكفاح أوكرانيا ضد الهيمنة الروسية.
وسبق أن أعربت منظمة هيومان رايتش واتش الأمريكية المعنية بحقوق الإنسان عن قلقها عن قلقها من القانون الخاص باللغة في أوكرانيا الذي صدر في عام 2013، وأثره على الأقلية الناطقة باللغة الروسية، وقالت إن قضية اللغة مسيسة للغاية، لا سيما في ضوء العمل العسكري الروسي المستمر ضد أوكرانيا (ذلك قبل الغزو الأخير).
وينص قانون لغة الدولة على استخدام الأوكرانية في معظم جوانب الحياة العامة، واعتمد القانون ووقعه الرئيس السابق بيترو بوروشنكو في عام 2019، أثناء مغادرته منصبه، مع العديد من البنود المقرر أن تدخل حيز التنفيذ في السنوات اللاحقة.
وصف بعض المسؤولين القانون بأنه ضروري للأمن القومي لأوكرانيا، وتشير استطلاعات الرأي العام خلال فترة تشريعه إلى أن 60% على الأقل من الأوكرانيين يؤيدون بعض أحكام القانون.
وهناك بند مثير للجدل في القانون في المادة 25 من القانون. يتطلب من وسائل الإعلام المطبوعة المسجلة في أوكرانيا أن تنشر باللغة الأوكرانية، ويجب أن تكون المنشورات باللغات الأخرى مصحوبة أيضاً بنسخة أوكرانية مكافئة في المحتوى والحجم وطريقة الطباعة. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تحتوي أماكن التوزيع مثل أكشاك الصحف على نصف محتواها على الأقل باللغة الأوكرانية.
ويعطي القانون ميزات منها استثناء من البند السابق، للغات بعض الأقليات (لغة التتار وهي إحدى اللغات التركية)، والإنجليزية، ولغات الاتحاد الأوروبي الرسمية، ولكن ليس للروسية، وتبرر السلطات الأوكرانية ذلك بالإشارة إلى الطموحات الأوروبية للبلاد و"قرن قمع اللغة الأوكرانية لصالح اللغة الروسية".
وقالت أعلى هيئة استشارية في مجلس أوروبا بشأن المسائل الدستورية، إن العديد من مواد القانون، بما في ذلك المادة 25 "فشلت في تحقيق توازن عادل" بين تعزيز اللغة الأوكرانية وحماية الحقوق اللغوية للأقليات.
وذكرت أن "الاضطهاد التاريخي للغة الأوكرانية، قد يحتاج إلى اعتماد تدابير إيجابية تهدف إلى تعزيز الأوكرانية، ولكن هذا لا يمكن أن يبرر حرمان اللغة الروسية والمتحدثين بها من الحماية الممنوحة للغات أخرى".
وقالت منظمة هيومان رايتش واتش إن هناك مخاوف بشأن ما إذا كانت الضمانات الخاصة بلغات الأقليات كافية.
ونشر أقرب حليف شخصي لبوتين في أوكرانيا، زعيم المعارضة فيكتور ميدفيدشوك، في ذلك الوقت مقال رأي يدعو إلى وضع حد لـ"الأكرنة القسرية" و"الهستيريا المعادية لروسيا" بينما جادل بأن حقوقاً أكبر للأوكرانيين الناطقين بالروسية يمكن أن تلعب دوراً حاسماً في استعادة ولاء السكان الناطقين بالروسية إلى حد كبير في شرق أوكرانيا المحتل من قبل الكرملين.
وضع الأقلية الروسية في أوكرانيا بعد الغزو
ولكن في الوقت الحالي إن نجت أوكرانيا من الغزو الروسي فإن وضع اللغة الروسية والناطقين بها سيكون من السابق، ولكن الأسوأ حالاً سيكون وضع الأقلية ذات الأصول الروسية في البلاد، والتي لا تربطها بموسكو مجرد لسان بل أصول وانتماء.
وترفض التقارير الغربية مزاعم بوتين عن اضطهاد ذوي الأصول الروسية (التي تصل لقوله إنهم يتعرضون لإبادة جماعية).
وتؤكد تقارير إعلامية غربية أن أعداداً كبيرة من أبناء العرقية الروسية هم مواطنون موالون بشدة لأوكرانيا.
ويرتبط عدد كبير من الأوكرانيين بالروس وروسيا، من خلال الزيجات المختلطة والعمل والعلاقات المهنية والصداقات طويلة الأمد، وحتى وقت قريب، كان لدى الغالبية العظمى من الأوكرانيين صورة إيجابية عن روسيا، لكن عدداً متزايداً لديه موقف نقدي أو متشكك تجاه روسيا، ومن المؤكد أن الصراع الحالي سيجعل الأمور أسوأ بالنسبة للأقلية الروسية.
لم ترد تقارير حتى الآن عن انحياز الروس العرقيين في أوكرانيا لقوات الغزو الروسي، رغم أن الكرملين كان يراهن عليهم لتكرار تجربة الدونباس والقرم، ولكنهم بالتأكيد قد تكون الأقلية الروسية في أوكرانيا تحت المراقبة من قبل السلطات وحتى المواطنين وبالأخص القوميين.
وإذا خضعت مناطق من أوكرانيا لاحتلال دائم فإن رهان بوتين سيكون عليهم خاصة بعد وضوح أن الرهان على الأوكرانيين العرقيين الناطقين بالروسية لن ينجح.
لو لم يتعاون الروس الأوكرانيون مع سلطات الاحتلال الروسية فإنهم سينظر لهم كخونة للأمة الروسية من قبل الدولة الروسية والروس القوميين، ولو تعاون بعضهم مع موسكو فسينظر لهم الأوكرانيين لا سيما القوميين كخونة أوكرانيا.
كان ذوو الأصول الروسية والأوكرانيون الناطقون بالروسية جسراً بين الثقافتين الروسية والأوكرانية ثم حولهم بوتين والقوميون الأوكرانيون المعارضون لروسيا إلى أداة سياسية واليوم بعد وصول الأزمة لحرب واسعة فإن محنتهم قد بلغت مستوى غير مسبوق.