أحدث الانسحاب الفرنسي من مالي دوياً كبيراً في منطقة الساحل وغرب إفريقيا برمته وسط مخاوف من أن يؤدي إلى تفاقم الإرهاب، في حين يرى البعض أن هذا الانسحاب قد يشكل فرصة لمحاولة اعتماد دول المنطقة على نفسها.
وجاء الانسحاب الفرنسي من مالي محصلة لخلافات طويلة مع النظام العسكري في البلاد، وصلت إلى حد مطالبة مالي برحيل السفير الفرنسي؛ مما يعكس المشاعر الشعبية المعادية للفرنسيين في البلاد، حسبما ورد بتقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
الانسحاب الفرنسي من مالي يُنهي وجوداً طويلاً بدأ بعد استقلال البلاد
على الرغم من استمرار وجود فرنسا في مالي منذ استقلال البلاد في عام 1958، فإنَّ النشر المكثف للموارد العسكرية الفرنسية في عملية سيرفال 2013 مثّل بداية ديناميكية جديدة. ورحب الماليون بالعملية باعتبارها تحرراً من استعباد الجماعات المتطرفة، وكانت العملية قصيرة وحاسمة؛ مما دفع الماليين إلى اعتقاد أنَّ فرنسا ساعدت في استعادة السلام والأمن بالبلاد.
ومن الضروري أيضاً أن نتذكر مع من كانت فرنسا تتفاوض في ذلك الوقت. في يناير/كانون الثاني 2013، كانت مالي في خضم أزمة سياسية: فقد عُيِّن ديونكوندا تراوري رئيساً مؤقتاً بعد انقلاب على أمادو توماني توري.
وكان المرشح الأوفر حظاً بالسباق الرئاسي في ذلك العام، إبراهيم بوبكر كيتا، يرتبط بعلاقات قوية بفرنسا، ويعتمد على انتصار عسكري فرنسي لاستعادة سيادة القانون وتمكينه من أن يصير الرئيس المنتخب شرعياً لمالي.
وبحلول سبتمبر/أيلول 2013، كانت هذه صفقة رابحة؛ فقد حققت عملية سيرفال أهدافها الرئيسية، وتولى إبراهيم بوبكر كيتا أعلى منصب في مالي؛ وهو منصب لم يكن ليطمح إلى الوصول إليه قط لولا دعم الجيش الفرنسي.
باختصار، كانت الفترة من عام 2013 إلى 2018 فترة هدوء نسبي في مالي.
رجل مالي القوي الجديد يقلب الطاولة على فرنسا
ثم جاء انقلاب 18 أغسطس/آب 2020، وغيَّر هذه الديناميكية تماماً. إذ استولى أسيمي غويتا على السلطة من إبراهيم أبو بكر كيتا وشكَّل "المجلس الوطني لإنقاذ الشعب". وفي نتاج كلاسيكي للأكاديميات العسكرية في مالي، أظهر غويتا موقفاً أقل تفضيلاً، بل عدائياً، تجاه الوجود العسكري الفرنسي في مالي.
ويجدر النظر إلى أن الأزمة الحالية بمالي تأتي في سياق الأزمات السياسية والأمنية العميقة التي تهز عدداً من دول الساحل.
عزّز غويتا مكانته الجديدة باعتباره "الرجل القوي لمالي" عندما استحوذ على السلطة لاحقاً من الرئيس الانتقالي باه نداو بعد انقلاب ثانٍ في عام 2021.
في غضون ذلك، ومع انتقال فرنسا من عملية سيرفال إلى عملية برخان، بدأ جزء من سكان مالي ينظرون إلى فرنسا على أنها قوة محتلة، وليس قوة مُحرِّرة. وكان هذا مفهوماً؛ بالنظر إلى أهداف مهمة برخان الأوسع نطاقاً، لكن الأكثر غموضاً أيضاً؛ وهي ضمان أمن منطقة غرب الساحل بالتعاون مع القوات المشتركة لمجموعة دول الساحل الخمس، التي تنسق التعاون الإقليمي في سياسات التنمية والمسائل الأمنية بغرب لإفريقيا.
وبالتالي، فإنَّ صورة فرنسا المشوهة في مالي تنبع مباشرة من فشلها في تحقيق انتصارات سياسية في غرب الساحل؛ بسبب الطبيعة غير المتناسبة لأهدافها، بكل بساطة.
إضافة إلى ذلك، ربما يشير إعلان الانسحاب الجزئي للقوات الفرنسية العام الماضي، إلى أنَّ الوقت قد حان لمالي للنظر في تحالفات جديدة. ومن الطبيعي أن تتبادر إلى الذهن روابط باماكو مع مجموعة فاغنر الروسية. وندد بيان مشترك وقَّعته فرنسا ودول أخرى في ديسمبر/كانون الأول 2021، بنشر المرتزقة على الأراضي المالية.
وفقاً لفرنسا، لا تملك المجموعة شبه العسكرية أية سلطة للتدخل وتخاطر بتعريض الاستقرار طويل الأمد في مالي للخطر، وهو موقف أكدته المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس). وأشار البيان إلى أنَّ الاتحاد الأوروبي فرض إجراءات تقييدية على فاغنر، وسط تحقيقات في انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان.
لكن المسؤولين في مالي أصبحوا عازفين عن تلقي أية "دروس" من فرنسا.
فرنسا ما زال لها حضور عسكري واسع بالمنطقة
على الرغم من الانسحاب الفرنسي من مالي، فإنَّ باريس مع ذلك قوة عسكرية لا غنى عنها في منطقة الساحل، بسبب الافتقار إلى شركاء أفارقة أو دوليين آخرين موثوق بهم. وهي تسيطر على المرافق الأساسية، وضمنها القواعد الجوية والبرية في نيامي عاصمة النيجر ونجامينا عاصمة تشاد ومنطقة غاو بشمال شرقي مالي.
وبدون وضع هذه البنية التحتية تحت تصرفهم، من غير المرجح أن يشن مرتزقة فاغنر عمليات واسعة النطاق في مسرح الساحل.
ولا تزال القوات العسكرية الفرنسية تشارك بنشاط في العمليات المسلحة، وتقود عشرات المهام كل عام، وتحارب بانتظامٍ المقاتلين الذين يعتبرون إرهابيين. لكن لا يمكن توقع أن يُنهي التدخل الفرنسي وحده انعدام الأمن في مالي ومنطقة الساحل الأوسع.
الحل في مالي هو أولاً وقبل كل شيء، سياسي: سيستمر انعدام الأمن حتى إيجاد حل طويل الأمد لأزمة الحكومة الانتقالية. إنَّ الحرب أحادية الجانب ضد الإرهاب ليست هدفاً سياسياً قابلاً للتطبيق على المدى الطويل لقوة خارجية مثل فرنسا.
لماذا فشل الوجود الفرنسي بمالي في تحقيق أهدافه؟
إنَّ نجاح فرنسا في الحفاظ على الأمن بمنطقة الساحل ليس بالأمر الممكن على المدى الطويل. فقد كلّفت عملية برخان فرنسا مئات الملايين من اليوروهات، ومعدل تناوب القوات الفرنسية غير مستدام. وفي الوقت نفسه، فإن توفير الأمن من قِبل قوة أجنبية لبلدان الساحل يمكن أن يعيق التطور السياسي للمنطقة. ويعاني الجيش المالي من نقص التجهيز والتدريب، على الرغم من ضخ الملايين من قبل المجتمع الدولي.
غالباً ما تعاني الجيوش الإفريقية من القيود، بسبب مشكلات الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان ونقص الموظفين ونقص التمويل وما إلى ذلك. ويستند هذا التشاؤم جزئياً إلى ملاحظات موضوعية؛ فقد فشلت الدول الإفريقية مراراً وتكراراً، في كبح الانتهاكات التي ترتكبها قواتها العسكرية، ومن ضمنها النهب والاغتصاب والفدية.
ونتيجة لذلك، فإن الجيوش، التي تساهم في عدم الاستقرار السياسي والانقلابات، مرهوبة ومرفوضة في إفريقيا، لكنها أسهمت أيضاً بدور أساسي في تشكيل الأنظمة السياسية الإفريقية المعاصرة. وغالباً ما يؤدي هذا التناقض إلى الارتباك فيما يتعلق بدورهم بصفتهم قوة استقرار؛ مما يساهم في فكرة أنَّ الدول ذات السيادة في المنطقة غير قادرة على ضمان أمن أراضيها.
هل يشكل انسحاب باريس فرصة لاعتماد المنطقة على نفسها؟
في الواقع، يجب على المجتمع الدولي ألا يتحمل بعد الآن فاتورة التمويل طويل الأجل للجيوش في مالي أو دول الساحل الأخرى. يجب على الدول الإفريقية التوصل إلى حلول مبتكرة لتجميع الموارد العسكرية باهظة الثمن. قد يمنحهم ذلك فرصة لإعادة تشكيل، على سبيل المثال، مجموعة دول الساحل الخمس إلى قوة أمنية مستدامة إفريقية بحتة، قوة تتمتع بحرية تحديد أجندتها السياسية والعسكرية.
الانسحاب الفرنسي من مالي نافذة قيّمة لإعادة فحص الأدوات المتاحة للدول الإفريقية، بدءاً من تلك التي طورتها مجموعة "إيكواس"، حسب Middle East Eye.
ولم تؤدِّ العقوبات التي فرضتها منظمة إيكواس على مالي إلا إلى إثارة حفيظة الرجل القوي الجديد في مالي. ومع ذلك، فهذه علامة مشجعة من مؤسسة تتعرض للانتقاد بانتظام بسبب تقاعسها عن العمل؛ فقد صارت الإيكواس تمارس دورها بصفتها سلطة إقليمية.
يجب النظر إلى الأزمة المالية الحالية في سياق الأزمات السياسية والأمنية العميقة التي تهز عدداً من دول الساحل، والتي تشير إلى تحوُّل حقيقي في ديناميكيات القوة بالمنطقة. من بين سبعة انقلابات أو محاولات انقلاب في العام الماضي، فشل اثنان في غينيا بيساو والنيجر، ونجح خمسة في بوركينا فاسو وغينيا ومالي والسودان وتشاد، على الرغم من أنَّ هذا الأخير يميل أكثر إلى كونه انتقالاً عسكرياً.
التحدي الآن هو معرفة ما إذا كانت الأنظمة الانتقالية ستكون قادرة على تقديم آفاق ديمقراطية جديدة لمنطقة الساحل.