إعلان فرنسا الانسحاب من مالي بشكل نهائي له تداعيات على باريس من الناحيتين السياسية والاقتصادية، وكذلك على منطقة الساحل في إفريقيا من الناحية الأمنية، فما تلك التداعيات؟ وما سر اختيار ماكرون للتوقيت؟
فقد ذكرت فرنسا وشركاؤها الأوروبيون الخميس 17 فبراير/شباط أنهم قرروا البدء في الانسحاب العسكري المنسق من مالي، وجاء في البيان "بسبب مواجهة العديد من العقبات من قبل السلطات الانتقالية في مالي، فإن كندا والدول الأوروبية التي تعمل جنباً إلى جنب مع عملية برخان ومع مهمة تاكوبا، ترى أن الظروف السياسية والتشغيلية والقانونية لم تعد مواتية لمواصلة مشاركتها العسكرية بشكل فعال لمحاربة الإرهاب في مالي".
وصدر البيان عن دول تعمل مع قوة برخان الفرنسية لمكافحة الإرهاب ومهمة تاكوبا، التي تضم نحو 14 دولة أوروبية. وأضاف البيان أن الدول "قررت البدء في الانسحاب المنسق لمواردها العسكرية المخصصة لهذه العمليات من أراضي مالي"، بحسب رويترز.
انقلابات مالي وموقف ماكرون والزحف الروسي
مالي هي إحدى المستعمرات الفرنسية السابقة في إفريقيا، وتتمتع باريس بنفوذ هائل في البلد الإفريقي الغني بموارده المتنوعة؛ لكن ذلك النفوذ الاستعماري الفرنسي تحول إلى عداء شعبي متصاعد، لتشهد مالي انقلابين عسكريين في أقل من عام، الأول كان لصالح باريس والثاني ضدها.
ففي أغسطس/آب 2020، أطاح العسكريون بالرئيس إبراهيم أبوبكر كيتا، وتم تنصيب مجلس انتقالي يدير البلاد، وصولاً إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية كانت مقررة العام الجاري 2022، وفي ذلك الوقت تريَّث ماكرون قبل أن يعبر عن موقف باريس من الانقلاب.
لكن في صيف 2021، قام الكولونيل آسيمي غويتا- كان يشغل منصب نائب الرئيس الانتقالي- باعتقال الرئيس باه نداو ورئيس الوزراء مختار وان، فلم يتأخر ماكرون دقيقة واحدة وأعلن على الفور إدانته "وبأكبر قدر من الحزم" ما وصفه بأنه "انقلاب داخل الانقلاب"، وطالب بالإفراج الفوري عن نداو ومختار وان و"باستئناف المسار الطبيعي للعملية الانتقالية فوراً".
لكن مرت الأيام والأسابيع والشهور ولم يتحقق لماكرون ما أراد، بل تواصل التدهور في العلاقات بين باريس وباماكو، ووصلت إلى حد التلاسن وتبادل الإهانات، ثم طرد السلطات في مالي للسفير الفرنسي لديها، وهو تصرف حاد لم يكن أحد يتصور إمكانية حدوثه بالنظر إلى التاريخ الاستعماري والنفوذ الضخم لفرنسا.
وبالطبع لم تكن القصة محصورة بين فرنسا ومالي فقط، فالطرف الثالث كان له دور كبير حتى وإن لم يكن حاضراً بشكل رسمي، والمقصود هنا هو روسيا، التي تسعى منذ سنوات لأن تحل محل فرنسا في الساحل الإفريقي. وكان الإعلان عن تعاقد قادة الانقلاب في مالي مع مجموعة فاغنر الروسية لتحل محل الجيش الفرنسي في توفير التدريب للجيش المالي بمثابة الضربة القاصمة لتواجد فرنسا في مالي.
على أية حال وبعد شهور طويلة من إعلان ماكرون، أو بالأحرى تلويحه، بسحب القوات الفرنسية نهائياً من مالي، تحقق ذلك فعلياً واتخذ قصر الإليزيه القرار، بالتشاور مع الشركاء الغربيين، لكن قصة التشاور أو التنسيق تلك تظل محل تساؤلات.
ما سر توقيت الانسحاب الفرنسي من مالي؟
في البداية، يبدو أن أغلب المراقبين والمحللين يربطون بين جميع قرارات وتحركات ماكرون وبين الانتخابات الرئاسية الفرنسية في أبريل/نيسان المقبل، ولا يختلف الأمر بالنسبة لقرار الانسحاب من مالي في هذا التوقيت.
والأنظار حالياً باتت مركزة على عملية برخان على وجه الخصوص، كونها فرنسية بحتة وانطلقت منذ 1 أغسطس/آب 2014، والآن بعد ما يقرب من 8 سنوات ها هي فرنسا تعلن انتهاءها دون أن تحقق أغلب أهدافها.
ويرجع التدخل الفرنسي في مالي إلى عام 2013 عندما قرر الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند إرسال قوات برية لمطاردة الجماعات الجهادية من ملاذها في شمال مالي لتنطلق آنذاك أولى مراحل عملية "سيرفال"، قبل أن تنطلق عملية برخان والتي ضمت في البداية 4000 جندي موزعين على دول منطقة الساحل الخمس وهي مالي وموريتانيا والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو، واستقبلت وقتها بترحيب وهتافات السكان المحليين، بحسب تقرير لموقع إذاعة مونت كارلو الدولية.
والآن ومع إعلان ماكرون إنهاء ومغادرة القوات الأوروبية في "تاكوبا"، القوات الخاصة التي أطلقتها باريس في عام 2020 لتقاسم العبء الأمني والعسكري مع برخان الفرنسية، لا تزال الجماعات الجهادية تحتفظ بقوتها في منطقة الساحل وتهدد البلدان، وخاصة خليج غينيا.
وسعى ماكرون أن يكون الإعلان عن الانسحاب من مالي مشتركاً مع "الحلفاء"؛ إذ تشكل هذه الجبهة الموحدة ضرورة سياسية للإليزيه، خصوصا مع تنامي المشاعر المعادية لفرنسا في منطقة الساحل، وتجنب المقارنة مع الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان في أغسطس/آب الماضي.
وفي خضم الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي وقبل شهرين من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، التي سيترشح فيها إيمانويل ماكرون مرة أخرى بلا شك، يشكل الانسحاب القسري من مالي، حيث قتل 48 جندياً فرنسياً، خطوة مؤلمة للغاية وتوصف بالفشل الذريع، وهو الوصف الذي استفز ماكرون كثيراً ورفضه بشكل متوتر.
إذ قال رداً على أسئلة الصحفيين الخميس إنه "يرفض بشكل كامل" فكرة "الفشل الفرنسي في مالي"، مضيفاً: "ما الذي كان سيحدث في 2013 في صورة عدم اتخاذ فرنسا قرار التدخل؟ من المؤكد أن الدولة المالية كانت ستنهار. حقق عسكريونا عدة نجاحات" بينها التخلص من أمير تنظيم "القاعدة في المغرب الإسلامي" في يونيو/حزيران 2020.
ويكشف هذا الإصرار من جانب ماكرون على أن بلاده حققت نجاحات كبيرة في منطقة الساحل وأنها لم تفشل في مالي، بحسب محللين ووسائل إعلام فرنسية، عن سر توقيت الإعلان عن الخطوة بينما يستعد ماكرون لإعلان ترشحه رسمياً في الانتخابات الرئاسية الفرنسية.
إذ سيكون على ماكرون أن يقدم كشف حساب عن فترته الرئاسية الأولى، وبالتالي فإنه سيضع إنهاء الوجود العسكري الفرنسي في مالي ومنطقة الساحل كأحد إنجازاته؛ لذلك أراد ماكرون الاستفادة من رئاسة فرنسا للاتحاد الأوروبي ودعوة القادة الأفارقة إلى قمة بروكسيل ليكون إخراج القرار بصورة شراكة جماعية بين أوروبا وإفريقيا بقيادة فرنسية.
خسائر فرنسا سياسياً واقتصادياً
لكن حقيقة الأمر مختلفة كثيراً عن الشكل الذي أراد ماكرون أن يرسّخه في أذهان الناخبين الفرنسيين قبل التوجه إلى صناديق الاقتراع في أبريل/نيسان المقبل. فقرار الانسحاب من مالي لا علاقة له بإنجاز المهمة من عدمها، علماً بأن المهمة لم تنجز من الأساس.
فطرد السفير الفرنسي من العاصمة المالية باماكو كان خطوة غير مسبوقة، ففرنسا لم تغادر مستعمراتها السابقة في إفريقيا إلا بعد أن وضعت شروطاً جعلت ذلك الاستقلال شكلياً، فوفقاً لاتفاق الاستقلال الذي منح 14 دولة (بينها مالي) استقلالها عام 1958، بات لباريس الحق الشرعي في الحصول على أي مواد خام تُكتشف هناك، واحتكار الأنشطة الأمنية والتدريب العسكري.
وبالتالي فإن الانسحاب وبتلك الطريقة يمثل خسارة لباريس من الصعب إنكارها، خصوصاً أن تنافس القوى العظمى على القارة السمراء مرتبط بشكل جوهري بالحصول على موارد وخيرات إفريقيا في المقام الأول، ومن ثم فإن روسيا أصبحت الآن المتحكم الأبرز في شؤون ذلك البلد الذي كان، عندما تولى ماكرون، مسرحاً للنفوذ الفرنسي المطلق.
أما من الناحية الاقتصادية، فإن مالي تمتلك مخزوناً ضخماً من الثروات الطبيعية والمعادن؛ مثل الذهب واليورانيوم والفوسفات والبوكسيت وغيرها، مما يجعل المستعمرة الفرنسية القديمة من أهم دول القارة السمراء إنتاجاً ومخزوناً من تلك الثروات الطبيعية، والتي كانت باريس تضع يدها عليها بشكل لا ينازعها فيه أحد، أما الآن فقد خسرت فرنسا الثروات الطبيعية بطبيعة الحال. ولا شك أن ماكرون لن يكون قادراً على إخفاء تلك الخسارة الاقتصادية ولا حتى السياسية، في مواجهة منتقديه المتربصين به في موسم الانتخابات.
ومن الناحية السياسية، يبدو أن محاولة ماكرون تصوير قرار الانسحاب بأنه منسق مع الشركاء وأن هناك إجماعاً عليه قد يمر دون تشكيك هو الآخر؛ إذ قالت مصادر بالجيش البريطاني لصحيفة "التايمز" إن القوات البريطانية المنتشرة في مهمة حفظ سلام في منطقة الساحل ستكون أكثر عرضة للهجمات الجهادية نتيجة للانسحاب الفرنسي.
ما تأثير الانسحاب على إفريقيا أمنياً؟
إذا كانت للانسحاب الفرنسي من مالي تداعيات سياسية واقتصادية بالنسبة لباريس، فلهذا الانسحاب تداعيات أمنية قد تكون خطيرة على الدول الإفريقية في منطقة الساحل والدول المجاورة لها، وهو دليل آخر على مدى عمق الفشل الفرنسي في تلك المهمة المستمرة منذ نحو 9 سنوات.
فعلى الرغم من الوجود الفرنسي في مالي إلا أنّ تنظيمي الدولة الإسلامية (داعش) والقاعدة قد سيطرا على مساحات شاسعة من وسط مالي وعلى طول الحدود مع النيجر وبوركينا فاسو، وأصبح الآن تهديدهما للعاصمة باماكو أكبر مما كان عليه عام 2013.
وتجعل هذه التطورات من إقامة محادثات مباشرة بين الجهاديين المسلحين في مالي وبين السلطات في البلاد احتمالاً كبيراً، بحسب تحليل لموقع فرانس 24. وتختلف وجهات النظر حول هذا السؤال حسب اختلاف الأطراف المعنية، فبينما ترى باماكو أن الحوار مع الجهاديين شيء ممكن، تؤكد فرنسا أن هذه الخطوة تشكل خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه.
وكان ماكرون قد قال في يونيو/حزيران الماضي متحدثاً عن قوة "برخان": "لا يمكن لنا أن ننفذ عمليات عسكرية مشتركة مع نظام (يقصد النظام العسكري الذي استولى على الحكم في مالي) في وقت يريد هذا النظام فتح حوار مع جماعات جهادية تقتل أطفالنا".
لكن الآن ومع إنهاء التواجد العسكري الفرنسي في مالي، قد يصبح الطريق ممهداً نحو فتح صفحة جديدة تتمثل في محادثات مباشرة بين السلطات الانتقالية والجهاديين. وقال وسيم نصر، المتخصص في الحركات الجهادية بفرانس 24: "هناك تقاطع للمصالح بين الطغمة العسكرية في مالي والجهاديين والروس. فكلهم يريدون انسحاب الفرنسيين من مالي"، مضيفاً: "ثمة مؤشرات تبين أن الجهات الثلاث أجرت اتصالات فيما بينها لفرض خيار التفاوض مع الجهاديين".
وفكرة التفاوض مع الجهاديين ليست بالجديدة. فكل السلطات التي حكمت مالي منذ بداية حقبة الرئيس إبراهيم أبو بكر كايتا كانت تدعو إلى تنفيذ التوصيات التي تم الاتفاق عليها خلال المؤتمر الوطني للمصالحة الذي عقد في 2017 ثم من قبل ندوة الحوار العام الشامل في 2019. وتنص هذه التوصية على فتح الحوار مع المسؤولين الجهاديين أمادو كوفا وإياد غالي. ويقود الأول كتيبة "مسينا"، بينما يترأس الثاني "الجماعة الداعمة للإسلام والمسلمين" والتي تملك علاقة مع "القاعدة".