يمثل التضخم كابوساً سياسياً للرؤساء والحكومات وأزمة للأغنياء لنقص في سلع ترفيهية، لكنه قد يعني الموت جوعاً للفقراء حول العالم، فما قصة هذا "المصطلح الاقتصادي" الذي لا ينجو من تداعياته أحد؟
ورصد تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية تداعيات تلك الظاهرة الاقتصادية بعنوان "ارتفاع التضخُّم العالمي.. ضربةٌ لمستويات المعيشة حول العالم"، تناول ما تأثيرها المباشر على مواطني بعض الدول من أمريكا حتى باكستان.
أما ما تعنيه كلمة أو مصطلح التضخم فهو أمر غير متفق عليه بشكل كامل بين خبراء الاقتصاد، إذ إن له عدة مفاهيم أشهرها وأكثرها شيوعاً هو الارتفاع الضخم في الأسعار، لكنه أيضاً قد يعني الارتفاع في الدخل والارتفاع في الأرباح والارتفاع في تكلفة الإنتاج، لكن عندما نقول "التضخم" فقط يفهم منه ارتفاع كبير في أسعار السلع بشكل عام.
وللتضخم أو ارتفاع الأسعار أسباب متنوعة منها زيادة الطلب على سلعة ما بشكل كبير عن المعروض منها، أو ارتفاع مفاجئ في تكاليف إنتاج تلك السلعة بسبب عوامل طبيعية كالبراكين أو الزلازل أو العواصف أصابت مركز الإنتاج أو طرق توصيل المواد الخام أو غيرها، أو لأسباب بشرية كالحروب والأزمات السياسية والصراعات، أو أزمات صحية ضخمة لا يوجد إجماع على مصدرها، سواء كان طبيعياً أو نتيجة لتدخل بشري كما هو الحال في جائحة كورونا.
وعلى مدى العامين الماضيين يبدو أن جميع أسباب التضخم قد تجمعت بصورة غير مسبوقة منذ عقود، ففيروس كورونا تحول إلى أسوأ كارثة صحية تضرب البشرية منذ أكثر من قرن، والصراعات حول العالم لا تتوقف، بل تزداد اشتعالاً، من تايوان إلى كوريا بشطريها إلى أوكرانيا والشرق الأوسط، وبالطبع الولايات المتحدة طرف أصيل في جميع تلك الصراعات.
التضخم في أمريكا
عاد التضخُّم من جديد بعدما كان كامناً في الظلِّ لعقودٍ من الزمن، لا تزال تقلُّبات الأسعار تشكِّل خوفاً حقيقياً للعديد من الأمريكيين، ولا سيما أولئك الذين عانوا من التضخُّم الكبير في عهد جيمي كارتر.
ما كان ذكرى مؤلمة، ولكن بعيدة، أصبح الآن حقيقةً جديدة وعالمية. أعلن مكتب إحصاءات العمل، الخميس 10 فبراير/شباط، أن مؤشِّر أسعار المستهلك ارتفع على أساسٍ سنوي بنسبة 7.5% في يناير/كانون الثاني، وهو مستوى لم يشهده منذ الثمانينيات. وبريطانيا ليست بعيدة عن الركب، حيث ارتفعت الأسعار بنسبة 5.4% في نهاية العام الماضي. وفي منطقة اليورو -الدول التسعة عشر التي تستخدم اليورو- بلغ 5.1% في يناير/كانون الثاني، وهو أعلى مستوى منذ أن برزت الأرقام القياسية في عام 1997.
ورصد مراسلو الصحيفة البريطانية كيفية تأثير التضخُّم على مستويات المعيشة في بلدانٍ مختلفةٍ من العالم، منها الولايات المتحدة. فعلى مدى سنوات تمكن سكان نيويورك الذين يبحثون عن طعام رخيص من الاعتماد على شريحة بيتزا بقيمة دولار واحد.
لكن ذلك لن يدوم لوقتٍ طويل مع ارتفاع التضخُّم، حتى شريحة البيتزا الرخيصة تتعرَّض لضغوطٍ وتفرض الكثير من متاجر البيتزا الشهيرة في المدينة زياداتٍ في الأسعار لمكافحة ارتفاع تكاليف كلِّ شيءٍ، بدءاً من صلصة الطماطم والبيبروني والعمالة وحتى صناديق البيتزا المصنوعة من الورق المُقوَّى.
وبلغ معدَّل التضخُّم في الولايات المتحدة أسرع وتيرة له منذ عام 1982 في يناير/كانون الثاني، ما دفع الأسعار للأعلى بمعدَّلٍ سنوي 7.5%، وهو الشهر الثالث على التوالي الذي تجاوز فيه التضخُّم المعدل السنوي البالغ 6%.
تستمر مشكلات سلسلة التوريد إلى جانب الطلب المتزايد في تضخيم أسعار الوقود والإيجار والغذاء والضروريات الأخرى. وبلغ متوسط سعر السيارة المستعملة في الولايات المتحدة 28,205 دولار في نهاية ديسمبر/كانون الأول، وهي المرة الأولى التي يتجاوز فيها متوسط سعر السيارة المستعملة 28 ألف دولار.
أثَّر ارتفاع الأسعار على الجميع، لكن التضخُّم أصاب الأمريكيين الفقراء أكثر من غيرهم. ينفق الخمس الأقل دخلاً من الأمريكيين بالفعل 83% من دخلهم على الإسكان، وفقاً لمسح إنفاق المستهلك التابع لوزارة العمل، ولا يمكنهم تحمُّل الزيادات في الإيجارات، ناهيكم عن الوقود والغذاء والضروريات الأخرى.
ويستعد بنك الاحتياطي الفيدرالي الآن لرفع أسعار الفائدة على أمل ترويض الأسعار المرتفعة، ولكن مع ارتفاع التضخم في جميع أنحاء العالم يبقى أن نرى متى سينجح البنك المركزي، أو ما إذا كان سينجح.
وربما يكون أبرز دليل على تلك الحالة من التوتر التي تعيشها إدارة بايدن بسبب التضخم هو ذلك الرد غير اللائق الذي استخدمه الرئيس منفعلاً لإجابة سؤال من أحد الصحفيين بشأن مدى تأثير التضخم سلباً على شعبية بايدن وفرص حزبه في انتخابات الكونغرس المقبلة.
وكان مراسل شبكة فوكس نيوز في البيت الأبيض قد سأل بايدن عما إذا كان التضخم يشكل عبئاً سياسياً قبل الانتخابات النصفية، وردّ الرئيس الديمقراطي الذي لم يكن على الأرجح يعلم أن ميكروفونه لا يزال مفتوحاً، بتهكم: "إنه ميزة عظيمة، المزيد من التضخم"، قبل أن يُسمع وهو يتمتم: "يا له من غبي ابن… (لفظ غير لائق)".
كما نشرت شبكة CNN مؤخراً تقريراً عنوانه "الأمر يزداد سوءاً كل مرة.. التضخم مشكلة ضخمة للديمقراطيين"، رصد كيف أن التدني المسبوق في شعبية بايدن سببه الأساسي هو التضخم وارتفاع الأسعار، وليس فقط الملفات السياسية سواء الخارجية أو الداخلية.
فواتير الغاز والكهرباء في أوروبا
كان الإيطاليون يشعرون بالآثار غير المباشرة للتضخم في فواتير المرافق، حيث ارتفعت تكاليف الغاز والكهرباء بأكثر من 50% هذا الشتاء. في المقابل، أدت تكاليف الطاقة المرتفعة إلى زيادة تكلفة تشغيل المصانع ونقل البضائع، وبالتالي يشعر الإيطاليون بارتفاع الأسعار في مجالات أخرى، مثل المواد الغذائية والسلع المُصنَّعة.
أظهرت البيانات الأولية من وكالة الإحصاء الإيطالية، في وقتٍ سابق من هذا الشهر أن التضخم ارتفع بنسبة 3.9% خلال عام 2021، ووصل إلى 4.2% في ديسمبر/كانون الأول، وهو أعلى ارتفاع منذ أكثر من عقد. ويتوقَّع بنك إيطاليا أن يبلغ التضخُّم 2.8% هذا العام، على الرغم من أن الشركات تتوقَّع ارتفاع الأسعار عند 3.2%.
لم تنتج إيطاليا الطاقة النووية لأكثر من ثلاثة عقود وتعتمد بشكلٍ كبير على واردات الطاقة. وقال مارسيلو ميسوري، أستاذ الاقتصاد بجامعة لويس في روما، للغارديان: "نحن نعتمد اعتماداً كبيراً على الطاقة المستوردة، ومن ثم فإن إيطاليا من وجهة النظر هذه أضعف من الدول الأخرى".
وأضاف: "على المدى القصير سيكون هناك تأثير كبير على فواتير المرافق". بينما توقَّعَ أن تؤثِّر خطة التحوُّل الخضراء والرقمية في أوروبا على الأسعار بشكلٍ أكبر. وقال: "أنا أؤيد المرحلتين الانتقاليَّتين ولكن في أوروبا نحن لا نقدِّر التأثير المحتمل على المدى المتوسط".
التضخم أصاب باكستان في مقتل
أجبرت موجة التضخُّم العالمية باكستان على الركوع على ركبتيها. ارتفع المعدَّل إلى 3% في يناير/كانون الثاني، تماماً كما انخفضت قيمة العملة الوطنية، الروبية، بسرعة.
ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 17%، تاركة الأسر ذات الدخل المنخفض والمتوسط، التي تنفق بالفعل نصف دخلها على الغذاء، تكافح من أجل التكيُّف.
وسجَّلَت الدولة مؤخراً ارتفاعاً بنسبة 5% في أسعار البطاطس، وارتفاعاً بنسبة 4.5% في أسعار الدجاج، و2.5% في تكلفة الموز. وارتفع سعر زيت الطهي بنسبة 27% في السنوات الثلاث الماضية، وأصبح السكر الآن أكثر تكلفة من الوقود. في يناير/كانون الثاني، ولأول مرة في تاريخ باكستان، وصل سعر البنزين إلى 150 روبية للتر، بزيادة قدرها 40%.
أدَّت قرارات السياسة المحلية إلى تفاقم الضغوط العالمية. وافقت الحكومة على تدابير لخفض التكاليف مع صندوق النقد الدولي من أجل تأمين خطة إنقاذ بقيمة 6 مليارات دولار، والتي تشمل ضرائب على البنزين، وتعريفة طاقة أعلى وضرائب أعلى، في حين أن تكلفة الكهرباء في باكستان هي بالفعل ضعف تكلفة جارتيها الهند وبنغلاديش.
ووسط حالة من الاستياء والغضب الجماهيري من تكاليف المعيشة التي لا يمكن تحمُّلها الآن، قال رئيس الوزراء عمران خان مؤخراً إن تأثير التضخم "يقض مضجعي"، لكنه أصرَّ على أنه "ظاهرةٌ عالمية". ويجري الآن التخطيط لمسيرةٍ احتجاجية ضد التضخُّم من قِبَلِ المعارضة السياسية.
يمنيون يواجهون الموت جوعاً
أما في اليمن، الذي يعيش بالفعل أسوأ كارثة إنسانية في العالم في العصر الحديث، بسبب الحرب المستمرة منذ سبع سنوات، فقد قال برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، الأحد 13 فبراير/شباط، إن ارتفاع الأسعار دفع مزيداً من اليمنيين إلى الفقر المدقع.
وأوضح البرنامج في حسابه على تويتر: "أدى انخفاض قيمة العملة وارتفاع أسعار المواد الغذائية إلى دفع الكثيرين في اليمن إلى الفقر المدقع"، وأضاف: "نتيجة لذلك يتزايد الجوع، ما يجعل الكثيرين يعتمدون على المساعدات الغذائية.. يجب أن يستمر هذا الدعم، شريان الحياة"، دون تفاصيل، بحسب تقرير للأناضول.
وتراجعت العملة اليمنية (الريال) من 215 ريالاً للدولار مطلع العام 2015 إلى نحو 1200 ريال للدولار في 2022. وفي 2021 وحده ارتفعت الأسعار بنسبة 100%، ما أدى إلى زيادة الجوع، وفق برنامج الأغذية العالمي.
وكان مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، قد حذّر الأسبوع الماضي من أن "نقص التمويل يهدد بقطع الدعم المنقذ للحياة لملايين الناس في اليمن". وأضاف في بيان مقتضب أنه "قريباً سيضطر 11 مليون شخص إلى الاعتماد على حصص غذائية مخفضة، قد يفقد 4.6 مليون شخص إمكانية الوصول إلى المياه النظيفة".
ويشهد اليمن منذ نحو 7 سنوات حرباً مستمرة بين القوات الموالية للحكومة المدعومة بتحالف عسكري عربي تقوده السعودية والإمارات، والحوثيين المدعومين من إيران، المسيطرين على عدة محافظات بينها العاصمة صنعاء، منذ سبتمبر/أيلول 2014.