أثارت زيارة ماكرون لموسكو ولقاؤه ببوتين انتقادات في الغرب وتساؤلات عما إذا كان الرئيس الفرنسي منح نظيره الروسي ما يريده، في المقابل يبدو أن روسيا تنصلت سريعاً من الوعود التي قال ماكرون إنه نالها من بوتين، بعدم التصعيد في الأزمة الأوكرانية.
فور وصوله إلى كييف، قال ماكرون قبل لقائه مع رئيس أوكرانيا فلاديمير زيلينسكي: "لقد حصلت على تأكيد من بوتين بأنه لن يكون هناك تدهور أو تصعيد في الأزمة"، لكن روسيا نفت التقارير التي تفيد بأنه توصل إلى اتفاق مع بوتين بشأن تهدئة الأزمة، وقالت إن أي حديث عن تقديم روسيا ضمانات "ليس صحيحاً".
وأضاف المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، إنه "في الوضع الحالي، لا يمكن القول إن موسكو وباريس توصلتا إلى أي صفقات".
روسيا تشكك في حديث ماكرون فور وصوله كييف
وفقاً للرئيس الفرنسي، قال بوتين أيضاً إنه لن تكون هناك أي "قاعدة عسكرية" أو "انتشار" روسي في بيلاروسيا بشكل دائم، وذلك بعد أن أرسلت روسيا عدداً كبيراً من القوات للمشاركة في المناورات الحربية في هذا البلد الذي يجاور أوكرانيا.
ولكن المتحدث باسم الكرملين قال إنّ سحب القوات الروسية من بيلاروسيا بعد المناورات كان مقرراً من قبل.
وبلغة دبلوماسية، قال الرئيس الأوكراني إنه يرحب بأي خطوات ملموسة من بوتين لخفض التصعيد، ولكنه استدرك قائلاً إنه "لا يثق بالكلمات بشكل عام".
وقال زيلينسكي: "لدينا وجهة نظر مشتركة مع الرئيس ماكرون بشأن التهديدات والتحديات التي تواجه أمن أوكرانيا، وأوروبا بأسرها، والعالم بشكل عام".
وقال إن فرنسا تقدم 1.2 مليار يورو (1.3 مليار دولار) كمساعدات مالية لأوكرانيا، وتساعد في ترميم البنية التحتية بشرق البلاد الذي دمرته الحرب.
ما جرى خلال زيارة ماكرون لموسكو أحيط بالكتمان
وبعد لقائه مع ماكرون في موسكو، قال بوتين دون مزيد من التفاصيل، إن بعض مقترحات الرئيس الفرنسي يمكن أن تكون بمثابة أساس لتسوية الصراع الانفصالي، مضيفاً أنهما اتفقا على التحدث عبر الهاتف بعد زيارة ماكرون لكييف.
بعد زيارة ماكرون لموسكو انتقل إلى كييف، وبعد لقائه مع الرئيس الأوكراني، سافر إلى برلين، حيث أطلع الرئيس البولندي أندريه دودا والمستشار الألماني أولاف شولتز على تفاصيل الزيارة، واللذين قالا إن موقفهما موحد بهدف مشترك: "منع نشوب حرب في أوروبا".
يريد إحياء اتفاق مينسك الذي باتت أوكرانيا تراه ضاراً بمصالحها
وقال ماكرون بعد لقائه زيلينسكي إن اتفاقات مينسك هو الطريق الوحيد إلى حل سلمي للنزاع في دونباس.
في عام 2015، ساعدت فرنسا وألمانيا بالتوسط في اتفاق سلام عُرف باسم اتفاقيات مينسك، التي أنهت الأعمال العدائية واسعة النطاق لكنها فشلت في تحقيق تسوية سياسية للصراع. واتهم الكرملين مراراً كييف بتخريب الاتفاق، وقال مسؤولون أوكرانيون في الأسابيع الأخيرة، إن تنفيذه سيضر بأوكرانيا.
وقال ماكرون إن كلاً من بوتين وزيلينسكي أكد استعداده لتنفيذ اتفاقيات مينسك، وأنها "الطريق الوحيد الذي يسمح ببناء السلام… وإيجاد حل سياسي مستدام".
وقال ماكرون أيضاً، إن مستشاري الرئاسة لكل من فرنسا وألمانيا وروسيا وأوكرانيا سيجتمعون في برلين، الخميس، لمناقشة الخطوات المقبلة. وأضاف: "سوف يستغرق الأمر بعض الوقت للحصول على نتائج".
كان زيلينسكي صامتاً بشأن موقف أوكرانيا من تنفيذ اتفاقيات مينسك وما إذا كان قد أكد لماكرون أن كييف ملتزمة بالقيام بذلك أم لا، قائلاً فقط إن بلاده تنظر إلى اجتماع يوم الخميس بـ"إيجابية للغاية"، وأعرب عن أمله في عقد اجتماع لاحق للزعماء الأربعة.
ويقدم آليات أمنية جديدة لطمأنة الروس
واقترح ماكرون "آليات أمنية" جديدة للتعامل مع أزمة أوكرانيا، قائلاً الرئيس إن الحوار مع روسيا "هو السبيل الوحيد لضمان الأمن والاستقرار في أوروبا"، وإنه إذا كانت الآليات والمعاهدات الحالية غير كافية لحل الوضع الأمني، فقد اقترح وضع آليات ومعاهدات جديدة وتنفيذها.
أشار ماكرون على وجه التحديد، إلى أن فرنسا وروسيا "ليس لديهما الفهم نفسه" لمعنى الوثائق مثل وثيقة هلسنكي النهائية لعام 1975- والتي أسست ما سيصبح منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE)- خاصةً عندما تطرق إلى قضايا حقوق الإنسان وسلامة أراضي الدول.
وقال الرئيس الروسي إنه "من الممكن" المضي قدماً في عدد من المقترحات التي قدمها نظيره الفرنسي والتي قد تؤدي إلى تهدئة الوضع في أوكرانيا.
لم يكشف بوتين ولا ماكرون عن أي تفاصيل حول ما قد تتكون منه المقترحات، حيث قال بوتين إنه سيناقش الأمر مع ماكرون بعد أن أتيحت للرئيس الفرنسي فرصة للقاء رئيس أوكرانيا يوم الثلاثاء.
وحذّر بوتين من حرب نووية محتملة إذا انضمت أوكرانيا إلى الناتو.
المجد الشخصي والانتخابات يحركان ماكرون
مع تبني إدارة بايدن موقفاً متشدداً في الأزمة الأوكرانية، وخفوت دور ألمانيا، يبدو أن بوتين مصمم على فرض حل لما يعتبره مظالم أمنية لروسيا، بينما ماكرون، الذي وضع نفسه في قلب الدبلوماسية بأوروبا، فهو بالنسبة إلى موسكو، "محاور جيد"، كما وصفه بوتين نفسه، وفقاً لما نقله تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية عن مسؤول كبير في الرئاسة الفرنسية، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته.
بالنسبة لماكرون، فإن قيادة الجهود المبذولة لإنشاء بنية أمنية أوروبية جديدة تمثل فرصة له قبل شهرين فقط من الانتخابات الرئاسية الفرنسية.
ومنحت زيارة ماكرون لموسكو فرصة للرجل لتولي دور قيادي أكبر لأوروبا بأكملها ولمحاولة تطبيق رؤيته لأوروبا المتحالفة مع الولايات المتحدة، ولكنها أكثر استقلالية عنها، وكذلك محاولة تجنب أزمة ترفع أسعار الطاقة وتُغضب الناخبين المتذمرين أصلاً من تراجع قوتهم الشرائية بسبب التضخم.
ماكرون يزعم أنه يحاول إبعاد روسيا عن الصين
"هل نريد روسيا متحالفة تماماً مع الصين أم روسيا في مكان ما بين الصين وأوروبا؟"، قال برونو لومير، وزير الاقتصاد الفرنسي، المقرب جداً من ماكرون، يوم الجمعة الماضي، في الوقت الذي أعلنت فيه روسيا والصين عن شراكة لا حدود لها، في افتتاح أولمبياد بكين للألعاب الشتوية، والتي وجها فيها دعوة إلى حلف الناتو لـ"التخلي عن مقاربته الأيديولوجية للحرب الباردة".
بالنسبة لفرنسا، كان لقاء بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ عشية أولمبياد بكين الشتوي، دليلاً على التداعيات المشؤومة الأوسع نطاقاً للأزمة الأوكرانية.
ولكن طبعاً، ما يتجاهله ماكرون والدبلوماسيون الفرنسيون هو أن روسيا تمثل خطراً على أوروبا والغرب برمته أكبر من الصين بكثير في الوقت الحالي على الأقل.
فالصين تركز بالأساس على نموها الاقتصادي ولم تخض حرباً منذ صراعها مع فيتنام في السبعينيات والتي هزمت فيها، إلا إذا اعتبرنا معارك جنود الصين والهند بالعصي والأيدي العارية في جبال الهيملايا حرباً.
وبينما لم تستخدم الصين القوة العسكرية ضد تايوان التي تعتبرها بكين إقليماً منشقاً ولا تعترف بها الدول الغربية كدولة مستقلة، حتى الآن، فإن روسيا استخدمت القوة العسكرية مراراً وضمن ذلك في أزمات جورجيا والقرم وسوريا، وصولاً إلى ليبيا مؤخراً.
يقول مؤيدو تحرك الرئيس الفرنسي، إن له هدفاً مزدوجاً: وقف احتمال الحرب التي قد تحدث جراء الحشد الهائل للقوات الروسية على الحدود الأوكرانية، والذي تقول المصادر الغربية إنه تخطى المئة ألف.
والثاني هو تهدئة ما تعتبره روسيا مظالم متفاقمة أثارها توسع الناتو شرقاً في عامي 1999 و2004، وهدفه النهائي يتمثل في دمج روسيا في نظام أمني أوروبي جديد يوازن ميلها نحو الصين.
وبالطبع ما يتم تجاهله في هذا الطرح الفرنسي هو أن الحديث عن المخاوف الأمنية الروسية تحديداً أمر مبالغ فيه، فموسكو قوة نووية تستطيع محو العالم عدة مرات، وقواتها البرية أكبر بكثير من قوات دول الناتو الملاصقة والمجاورة لها، وهي تستطيع أن تجتاح الجناح الشرقي للناتو الذي يضم جمهوريات البلطيق وبولندا ورومانيا في أيام قليلة، دون أن تغني قوات الحلف المنتشرة في هذه الدول شيئاً، حيث تقدر ببضعة آلاف، وأكبر حشد ناتو وأكبر قوة عسكرية قريبة من روسيا هي ألمانيا، التي تبدو على صلة وثيقة بموسكو وتتعامل كأنه ليست لها علاقة بالأزمة، حتى إنها تمتنع عن إرسال السلاح لأوكرانيا.
تفاصيل مبادرة ماكرون: تحويل أوكرانيا لدولة فيدرالية تتمتع فيها روسيا بحق الفيتو
كشف المسؤولون الفرنسيون عن الخطوط العريضة لحوارات ماكرون في اجتماعاته مع بوتين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
النهج الأول هو استخدام صيغة نورماندي- مجموعة من فرنسا وألمانيا وأوكرانيا وروسيا- لتعزيز اتفاقية مينسك 2 لعام 2015، وهي وثيقة غامضة للغاية ضمنت وقف إطلاق النار في شرق أوكرانيا ولكن ثبت أنها غير قابلة للتطبيق إلى حد كبير، وعصية على التفسير، حسب تقرير The New York Times.
يمكن أن يؤدي تفسير اتفاقية مينسك إلى تلبية شرط بوتين بعدم انضمام أوكرانيا إلى الناتو، لأن الاتفاقية تعطي دوراً لمنطقة دونباس الانفصالية الموالية لموسكو في تحديد السياسات القومية لأوكرانيا، وهذا قد يعني أنها قد تمارس حق الفيتو على انضمام كييف إلى الناتو كما يريد بوتين.
تدعو اتفاقية مينسك 2 إلى "لا مركزية" أوكرانيا التي تمنح "وضعاً خاصاً" لمناطق الشرق المتحدثة بالروسية التي يسيطر عليها الآن الانفصاليون، مع "خصوصيات" يتم الاتفاق عليها "مع ممثلي هذه المناطق".
جادلت روسيا، في تفسيرها الخاص لهذه "الخصوصيات"، بضرورة أن تشمل منح الممثلين المنتخبين في هذه المناطق حق النقض على قرارات السياسة الخارجية الأوكرانية، وضمن ذلك العضوية في الناتو. وبهذه الطريقة، ستصبح أوكرانيا فعلياً جزءاً من دائرة نفوذ روسيا.
تجدر الإشارة إلى أن وزير الخارجية الأوكراني، ديمترو كوليبا، استبعد الأسبوع الماضي، منح وضع خاص لإقليم دونباس الموالي لروسيا.
لكن ماكرون قد يحاول على الأقل إلزام الحكومة الأوكرانية بمجموعة من الخطوات حول كيفية إجراء الانتخابات المحلية في دونباس وانسحاب القوات. لكنها قضية أحبطت الدبلوماسيين منذ 2015.
فرنسا تتطوع بمنح بوتين تنازلاً عن ضم أوكرانيا إلى الناتو
قال مسؤول كبير في الرئاسة الفرنسية، إن "نواة الصراع الغربي مع السيد بوتين تكمن في مسألة امتداد الناتو شرقاً وضم دول من الفضاء السوفييتي السابق إليه"، وأضاف أن "السيد بوتين قال للسيد ماكرون إنه يريد محادثات جوهرية تذهب إلى قلب الموضوع".
في الواقع، يبدو أن فرنسا تقول إن مطالب السيد بوتين، التي تشمل تراجع الناتو عن ضم بلدان أوروبا التي كانت يسيطر عليها السوفييت سابقاً ضمن الكتلة الشيوعية، لا يمكن أن ترضى أبداً ولكن الرؤية الفرنسية تنطوي على الاعتراف بأنَّ توسع الناتو الذي حتى عندما ضمِن الحرية لـ100 مليون من مواطني أوروبا الشرقية، خلق مظالم دائمة مع روسيا، حسب The New York Times.
والناتو سيكرر معها سيناريو مماطلة الاتحاد الأوروبي لتركيا
الناتو لن يلغي بيان بوخارست لعام 2008 والذي يعد أوكرانيا بأن ستصبح يوماً عضواً في الحلف. ولكن، كما توضح مماطلة الاتحاد الأوروبي في مسألة عضوية تركيا والتي استمرت 60 عاماً، هناك طرق لتحويل الترشح لعضوية منظمة ما إلى نمط من العلاقة المعلَّقة دون حسم.
قال المسؤول الكبير في الرئاسة الفرنسية: "أوكرانيا ليست عضواً في الناتو، وعلى حد علمي، لن تكون لفترة من الوقت"، حسبما نقلت عنه The New York Times.
وقال جاستن فايس، الرئيس السابق لتخطيط السياسة في وزارة الخارجية الفرنسية والذي يترأس الآن منتدى باريس للسلام: "يمكننا أن نتخذ خطوة تجاه بوتين، ونعترف بأنه ليس مخطئاً تماماً".
الرئيس الأوكراني بدا مؤخراً متفهماً لصعوبة انضمام بلاده إلى الناتو، إذ قال الشهر الماضي: "إذا لم يكن هناك انضمام لحلف الناتو، فعليه الإشارة إلى بعض الضمانات الأمنية الأخرى، ولم يكن واضحاً تماماً ما كان يدور في خلده".
وثبت أن "الضمانات الأمنية" التي قدمتها مذكرة بودابست لعام 1994، والتي تعهدت فيها روسيا باحترام حدود أوكرانيا الحالية وسيادتها، لا قيمة لها، حينما قضمت موسكو شبه جزيرة القرم الاستراتيجية من كييف وفصلت إقليمين باتا تحت حمايتها، وذلك بأن دفعت أمريكا وروسيا أوكرانيا للتخلي عن ترسانتها النووية التي كانت كفيلة بحمايتها، ولكنها تخلت عنها بفعل وعود من القوتين العظميين بضمانات لأمن كييف ذهبت هباءً منثوراً، وقد تكون وعود ماكرون الأخيرة على الطريق ذاته.
يقول السيد شابيرو إن ذلك يمكن أن يساعد في تحقيق الاستقرار، ويضيف أن عدم الاستقرار يوفر عنصر قوة لروسيا. ويشير إلى أن "الاستقرار مصدر قوتنا. إذا كنت تؤمن بتفوق النموذج الاقتصادي والسياسي الغربي، فإن الاستقرار مفيد لهذا النموذج، وتحديد مجالات النفوذ طريقة جيدة جداً لإثبات ذلك".
وقال المسؤول الفرنسي إن بوتين أتاح لماكرون فرصة لبناء نظام أمني أوروبي جديد، قال الرئيس إنه يسعى إلى تأسيسه مع التزامه تجاه الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.
لكن المنتقدين الفرنسيين لماكرون والمتشددين في حلف الناتو والقيادة الأوكرانية سينظرون بريبة، لأفكار الرئيس الفرنسي.
فبنظرته الخاصة لروسيا كدولة أوروبية، والكلام عن ضمانات أمنية جديدة، سيكون قد قرع أجراس الإنذار في الغرب.
تم إخفاء تفاصيل الساعات الخمس من المناقشات بين الزعيمين الفرنسي والروسي، ونقاط التقارب، عن العالم في المؤتمر الصحفي، لكن ذلك لم يمنع ماكرون من التلميح إلى تحولات يقترحها لرؤية الناتو الأمنية التي يرفضها بعض أعضاء الحلف.
الأخطر، هو اعتراف ماكرون بما يقول بوتين إنه مخاوف روسية، لأنها تضفي الشرعية على مطالب موسكو بهيكل أمني جديد في أوروبا قائم على المفهوم الروسي لـ"الأمن غير القابل للتجزئة"، حسبما ورد في تقرير لصحيفة the Guardian البريطانية.
أوكرانيا لن تكون حتى شريكة للناتو بل ساحة للنفوذ الروسي
بينما يلمح الرئيس الأوكراني إلى تقبله لفكرة ضمانات أمنية ودعم من الناتو بدلاً من العضوية الموعودة، فإن المسؤولين الفرنسيين فعلياً وعبر حديثهم عن اتفاقات مينسك يلمّحون إلى عملية اقتسام للنفوذ بين الغرب وروسيا، عملية سيتم فيها شرعنة التدخل الروسي في أوكرانيا.
إذ لم يقتصر حديثهم على اتفاقات مينسك، ولكن ماكرون تحدث عن "فنلندة" أوكرانيا، أي تحويلها لنموذج مماثل لفنلندا، التي كانت دولة محايدة رسمياً طوال الحرب الباردة، ولكن فعلياً كان لجارة هلسنكي العملاقة روسيا أو الاتحاد السوفييتي نفوذ كبير عليها، وصل أحياناً إلى إعادة إجراء الانتخابات الفنلندية إذا لم ترضِ نتائجها موسكو.
ورغم نفي ماكرون أنه تحدث للصحفيين عن فكرة "فنلندة" أوكرانيا، فإن المسؤولين الفرنسيين تحدثوا عن ذلك.
وخلال الحرب الباردة، صاغ علماء ألمانيا الغربية مصطلحاً ساخراً إلى حد ما، سمّوه "الفنلنديّزم" (Finlandisation) لوصف كيف عدّلت فنلندا الدولة الصغيرة الواقعة في شمال أوروبا سياساتها لتناسب الاتحاد السوفييتي مع الحفاظ على الحياد رسمياً والحفاظ على علاقات جيدة مع الغرب.
اختارت فنلندا، التي تشترك في حدودٍ طولها 830 ميلاً (1335 كيلومتراً)، مع روسيا، في عام 1947، ألا تصبح عضواً في الناتو، ووقّعت "معاهدة صداقة" مع روسيا تضمنت قيوداً على حجم الجيش الفنلندي، وقيوداً أخرى على سيادتها وهو ما يسمى بعقيدة Paasikivi التي سميت على اسم Juho Kusti Paasikivi، رئيسها في ذلك الوقت. ولكن المفارقة أن الرئيس الفنلندي الحالي، سولي نينيستو، رغم صداقته لبوتين، أعاد فتح القضية وبدأ حديث في البلاد عن الانضمام للناتو، بسبب القلق من الممارسات الروسية، خاصة مع أوكرانيا.
أوكرانيا لا يمكن أن تتحول إلى فنلندا.. لماذا؟
لكن هناك فرق جوهري بين أوكرانيا وفنلندا.
فنظراً إلى علاقة أوكرانيا العاصفة والمركّبة مع روسيا، والعنف في شرق البلاد، يبدو من غير المرجح أن تكون أوكرانيا على استعداد لأن تصبح فنلندا أخرى على الإطلاق. والبديل الأقل هو حق أوكرانيا في الانضمام إلى اتفاقية الدفاع التي تختارها.
ولكن يعني الطرح الفرنسي على أرض الواقع أن أوكرانيا لن تكون دولة محايدة بين الناتو وروسيا.
فتطبيق نموذج الحياد الفنلندي على أوكرانيا أمر تريده روسيا تماماً، لأن فنلندا دولة متماسكة إثنياً وسياسياً، شعبها موحد ضد الخطر الروسي، بينما أوكرانيا دولة مقسمة، حيث تشير تقديرات إلى أن الروس يمثلون نحو 17% من السكان (معظمهم في الجنوب والشرق)، وزعمت موسكو أن من واجبها حماية هؤلاء الأشخاص كذريعة لأفعالها في أوكرانيا.
واللغة الروسية أكثر انتشاراً في أوكرانيا من الروس، إذ يعتقد أنه في عام 2001 كان أكثر من 30% من السكان يتحدثون بالروسية، كلغة أولى، كما كانت اللغة الروسية هي اللغة المهيمنة فعلياً خلال العهد السوفييتي رغم أن الأوكرانية كانت اللغة الرسمية.
ويعطي هذا لروسيا نفوذاً محتملاً داخل أوكرانيا، خاصة لو طبقت كييف اتفاقات مينسك التي قد تعطي للجمهوريتين الانفصاليتين المواليتين لروسيا صلاحيات في الاعتراض على انضمام أوكرانيا إلى الناتو والاتحاد الأوروبي.
لأن "حزب الله الأوكراني" قد يحولها إلى لبنان أوروبا الشرقية
يمكن القول إن ماكرون يساعد بوتين في تحقيق أحلامه.
فحديث بوتين عن ضرورة حصول روسيا على ضمانات بعدم انضمام كييف للناتو معركة وهمية لتحقيق هدف آخر.
فرغم رفض الناتو وأوكرانيا تقديم هذه الضمانات، فإن الجميع يعلم أن أوكرانيا لن تنضم للناتو، ولكن الواقع أنّ تساوق ماكرون مع رغبة روسيا في إعادة تموضع أوكرانيا لن يؤدي إلى شكل من أشكال الحياد، بل عودة كييف إلى دائرة النفوذ الروسي.
وفي حال تمت إعادة إقليم الدونباس لأوكرانيا، مع منحه حكماً ذاتياً، وحق الفيتو على السياسات الخارجية والداخلية ومع وجود الميليشيات الموالية لموسكو بالإقليم دون ضمانات قوية لنزع سلاحها، ومع وجود الجيش الروسي الضخم على الحدود، سيصبح لبوتين نفوذ في أوكرانيا مماثل لنفوذ إيران في لبنان، وستصبح ميليشيات الدونباس بمثابة حزب الله أوكرانيا؛ تحكم مناطقها وتشارك في الحكم المركزي ولديها فيتو على السياسات الاساسية، والأهم لديها السلاح الذي تلجأ إليه إذا فشلت العملية السياسية، كما يفعل حزب الله في لبنان.
ومع وجود الأقليات الروسية والأوكرانيين المتحدثين بالروسية في البلاد، قد تشهد شوارع كييف 7 أيار (مايو) أوكرانياً.