"روسيا قد تغزو أوكرانيا خلال أسبوعين"، "بوتين يريد تنصيب حكومة موالية له في كييف"، هذان نموذجان لمعلومات استخباراتية سربتها إدارة جو بايدن وأثارت غضب خبراء الاستخبارات، فما السبب؟
الأزمة الأوكرانية الحالية بدأت بالأساس عندما قالت تقارير استخباراتية أمريكية إن روسيا حشدت عشرات الآلاف من قواتها العسكرية على الحدود مع أوكرانيا استعداداً للغزو، وحددت تلك التقارير التوقيت المحتمل لذلك الغزو.
وعلى الرغم من أن روسيا تصر منذ اللحظة الأولى لانتشار تلك التقارير، على أنها لا تنوي مهاجمة أوكرانيا، فإن التقارير الاستخباراتية الغربية عموماً، والأمريكية خصوصاً، لا تتوقف ولا يكاد يمر يوم دون "تسريب" تقارير استخباراتية جديدة عن تلك الأزمة.
تسريب فريق "بايدن" تقارير الاستخبارات
والتسريب في هذه الحالة يتم بشتى الطرق، وبصورة مكثفة أصابت خبراء الجاسوسية ومتخصصي الاستخبارات بالقلق الشديد، لأن كبار المسؤولين في إدارة الرئيس جو بايدن ربما يخاطرون بفقدان أجهزة الاستخبارات الأمريكية مصداقيتها، بحسب تقرير لمجلة Politico عنوانه "مجتمع الجواسيس قلق من تسريب فريق بايدن معلومات حول روسيا".
وربما يكون أكثر ما يميز تلك الأزمة، التي يعتبرها بايدن هي الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية، هو ذلك التدفق الكبير للمعلومات بشأن روسيا وتفاصيل حشودها العسكرية ومؤامراتها الهادفة إلى زعزعة استقرار أوكرانيا، بحسب وصف تلك التقارير الاستخباراتية الأمريكية.
وكانت وزارة الخارجية البريطانية قد أصدرت بيانات رسمية زعمت فيها أن فلاديمير بوتين يريد غزو أوكرانيا والإطاحة بحكومة الرئيس فولوديمير زيلينسكي وتنصيب حكومة موالية للكرملين برئاسة أشخاص وصفتهم بأنهم موالون لبوتين وذكرتهم بالاسم.
بيان الخارجية البريطانية حدد النائب الأوكراني السابق يفين موراييف كمرشح محتمل لتلك الحكومة الموالية لبوتين، لكن موراييف نفسه نفى تلك التقارير في تصريحات صحفية بريطانية وقال إنه "ممنوع من دخول روسيا".
وشمل بيان الخارجية البريطانية أيضاً أسماء كل من سيرغي أربوزوف (النائب الأول لرئيس وزراء أوكرانيا من 2012 إلى 2014، ثم الرئيس المؤقت للوزراء)، وأندريه كلوييف (الذي ترأس الإدارة الرئاسية للرئيس السابق يانوكوفيتش)، وفولوديمير سيفكوفيتش (نائب أمين مجلس الأمن القومي والدفاع الأوكراني سابقاً)، وميكولا أزاروف (رئيس وزراء أوكرانيا من 2010 إلى 2014).
الخارجية البريطانية قالت في بيانها، إن "بعضهم على اتصال مع عملاء الاستخبارات الروسية المنخرطين حالياً في التخطيط لهجوم على أوكرانيا". لكن الخارجية الروسية وصفت بيان نظيرتها البريطانية بأنه "هراء"، ولاحقاً قالت تقارير إعلامية روسية إن مصدر البيان البريطاني هو الاستخبارات الأمريكية وليس المخابرات البريطانية.
ومساء الأحد 23 يناير/كانون الثاني الماضي، بدا كأن الغزو الروسي قد بات مسألة ساعات وليس أيام، عندما سمحت وزارة الخارجية الأمريكية لموظفي الحكومة الأمريكية في كييف بالمغادرة الطوعية، وقالت إن على الأمريكيين (الموجودين بأوكرانيا) التفكير في المغادرة على الفور.
ما الهدف من تلك الاستراتيجية بشأن روسيا؟
هناك من يرى أن تسريب المعلومات بتلك الصورة يعتبر استراتيجية جيدةً هدفها وضع ضغوط على الرئيس الروسي، لكن بعض الخبراء المخضرمين في عالم الاستخبارات يخشون أن إدارة بايدن تبالغ في تنفيذ تلك الاستراتيجية، وقد يؤدي الأمر إلى نتائج عكسية.
ويقول المسؤولون الأمريكيون دفاعاً عن تلك الاستراتيجية، إن تلك "التسريبات" يتم التأكد منها وتنقيحها بشكل دقيق قبل الإعلان عنها، كما أنها لا تمثل سوى قدر ضئيل من المعلومات التي تجمعها المخابرات الأمريكية والغربية بينما يواصل بوتين حشد قواته على الحدود الأوكرانية.
أما الأهداف التي يسعى فريق بايدن إلى تحقيقها، فهي تضم الكشف المبكر عن "الأكاذيب الروسية" ومن ثم إحباطها قبل أن يستغلها الروس كذرائع لغزو أوكرانيا، إضافة إلى توحيد جبهة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين في مواجهة "ألاعيب بوتين"، بحسب تحليل المجلة الأمريكية.
وقال وزير الخارجية أنتوني بلينكن، للصحفيين، الإثنين 7 فبراير/شباط: "إننا نعتقد أن أفضل علاج للتضليل هو المعلومات". ويعني ذلك أن تسريب المعلومات بشأن أزمة أوكرانيا قد أصبح سلاحاً معتمداً لدى إدارة بايدن، في وقت تستخدم فيه الدول سلاح المعلومات لتحقيق أهدافها الجيوسياسية.
وعبّر مايكل هيدن، المدير السابق للمخابرات المركزية ووكالة الأمن القومي، عن اعتقاده أن ذلك الأسلوب هو الأفضل في هذا التوقيت، مضيفاً لمجلة بوليتيكو: "الأمور مختلفة تماماً الآن، فعصر المعلومات مهم جداً". وقال رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، السيناتور مارك وورنر، إن "الكشف عن المعلومات الاستخباراتية قد أعطى الروس تحذيراً عادلاً، وهو ما جعلهم يتراجعون حتى الآن".
هل يعني هذا أن الاستراتيجية ناجحة مع روسيا؟
لكن على الجانب الآخر يرى البعض أن تلك الاستراتيجية قد تكون لها تداعيات كارثية على المدى الطويل، تتعلق بمصداقية أجهزة الاستخبارات الأمريكية، خصوصاً أن بعض المعلومات التي يقوم مسؤولو إدارة بايدن بتسريبها، قد لا يتم اختيارها بعناية أو قد يتضح لاحقاً أنها غير صحيحة ولو بسبب قيام روسيا بتغييرها، على سبيل المثال.
"ما يقلقني هو مصداقية مخابراتنا على المدى الطويل، في ضوء هذا السيل من تسريب المعلومات على مدار الساعة (بشأن أزمة أوكرانيا)"، بحسب ما قاله ضابط مخابرات سابق متخصص في الشؤون الروسية لمجلة Politico، مضيفاً: "لو اتضح أن تلك المعلومات خطأ أو حتى بعضها ليس دقيقاً، فإن هذا سيؤثر في مدى ثقة حلفائنا، والخطر أنه سيؤثر في مدى ثقة الرأي العام بمخابراتنا".
كما يتساءل بعض الخبراء بشأن مدى تأثير الفشل السابق بأوكرانيا عام 2014، أو في أفغانستان، على اتباع إدارة بايدن تلك الاستراتيجية في الكشف عن المعلومات بتلك الصورة المكثفة وغير المسبوقة.
وكانت أوكرانيا قد واجهت أزمة مشابهة للأزمة الحالية عام 2014، انتهت بغزو روسي لإقليم شبه جزيرة القرم وضمها، وهو ما اضطر إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، إلى التعامل مع تداعيات ذلك الغزو بدلاً من السعي لإحباطه قبل أن يحدث، وبالتالي لا يريد بايدن، الذي كان نائباً لأوباما، أن يجد نفسه يواجه الموقف نفسه.
أما أفغانستان فهي تمثل الفشل الأبرز للاستخبارات الأمريكية وللجيش بصفة عامة، حيث قامت الولايات المتحدة بغزو البلاد عام 2001 وأطاحت بحركة طالبان، وبعد عقدين من الحرب انسحبت الولايات المتحدة وعادت طالبان إلى حكم البلاد قبل حتى أن يكتمل الانسحاب الأمريكي.
ومثّل الانسحاب الفوضوي من أفغانستان الكارثة الأضخم لإدارة بايدن وتراجعت شعبية الرئيس بصورة غير مسبوقة، وعاد شبح سلفه ترامب يطارده في عام انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، وبالتالي فإن أزمة أوكرانيا هذا العام تمثل تحدياً ضخماً لبايدن وإدارته.
وكان بايدن قد وصف الانسحاب من أفغانستان بأنه انتصار، مركّزاً على أنه أوفى بوعده، وأنهى حرب أفغانستان المستمرة منذ 20 عاماً، ووصف عمليات إجلاء أمريكيين وأفغان بأنها "نجاح استثنائي"، مشيراً إلى 120 ألف شخص تم إجلاؤهم من أفغانستان، "وهو أمر لم يحدث من قبل في التاريخ".
لكن ما بين الغزو والانسحاب سالت أنهار من دماء العسكريين والمدنيين من الجانبين، ونزح الملايين من بيوتهم المدمرة، وأُهدرت مليارات الدولارات، لتأتي لحظة النهاية الحزينة للأمريكيين، والسعيدة لعدوهم (حركة طالبان)، بحسب وصف صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، لتسدل الستار على أطول الحروب الأمريكية وأكثرها مرارة وفشلاً.
ويرى كثير من المراقبين أن إدارة بايدن لا تريد أن تكرر ذلك الخطأ في أزمة أوكرانيا الحالية، لذلك اتخذت قرار "تسريب" التقارير الاستخباراتية أولاً بأول وبطرق متنوعة. فمرة يكون المصدر هو الرئيس نفسه أو وزير الخارجية أو كبار المسؤولين، وأحياناً يتم تسريب المعلومات لوسائل إعلام يتم اختيارها، أو يتم اختيار شخصيات عامة في المجال العسكري والأمني والسياسي وإطلاعها على تقارير سرية؛ ليقوموا بدورهم في توصيلها للرأي العام.
لكن المنتقدين لتلك الأساليب في التعامل مع التقارير السرية للاستخبارات يخشون أن تأتي بنتائج عكسية، فمن ناحية قد يسعى الروس للتمويه وتكثيف الحشود العسكرية على الحدود بصورة توحي بأن الحرب على وشك أن تبدأ، ثم لا يحدث شيء. وفي ذلك الوقت يكون بايدن قد سرّب معلومات بأن الحرب بدأت وبالتالي تفقد واشنطن مصداقيتها لدى الحلفاء ويفقد الرأي العام الثقة بالاستخبارات.