أثار تصاعد التوتُّرات على الحدود بين روسيا وأوكرانيا مخاوف من أن أزمة إمدادات الغاز في أوروبا يمكن أن تصبح أكثر خطورة. وقد تجاوزت أسعار سوق الغاز بالفعل ارتفاعاتٍ قياسية وتهدِّد بإرهاق الأسر الأوروبية بأزمة تكاليف المعيشة.
تُعَدُّ روسيا أكبر مورّد للغاز في أوروبا، حيث يتدفق ثُلُث هذا الغاز عبر خطوط أنابيب الغاز الأوكرانية إلى دول عبر القارة. كانت تدفُّقات الغاز الروسي أقل بمقدار الربع عن المعتاد خلال العام الماضي، لكن القادة الأوروبيين يخشون الآن من أن الغزو الروسي لأوكرانيا قد يؤدِّي إلى كارثة طاقة إذا قُطِعَت صادرات الغاز.
وقال مسؤولو البيت الأبيض هذا الأسبوع إن إدارة بايدن تستعد لوضع اللمسات الأخيرة على صفقةٍ "لضمان أن تكون أوروبا قادرةً على اجتياز الشتاء والربيع" من خلال التوسط بين الدول الرئيسية المُنتِجة للغاز لإرسال الغاز الطبيعي المُسال بواسطة الناقلات إلى أوروبا، لكن هذه الخطة ليست بدون تحديات.
1- من أين يمكن أن تأتي إمدادات الغاز الطارئة إلى أوروبا إذ قطعت روسيا صادراتها عنها؟
يقول تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية، إن ليبيا قد تكون أيضاً قادرةً على المساعدة في ضوء إنتاجها القوي من الغاز وقربها من أوروبا. لكن من المرجَّح أن يتركَّز الحديث على قطر، أحد أكبر مُنتِجي الغاز في العالم وثاني أكبر مُصدِّر للغاز الطبيعي المُسال بعد أستراليا. تُعَدُّ قطر حليفاً غربياً قوياً في الشرق الأوسط، وقد زوَّدَت المملكة المتحدة ودولاً أوروبية أخرى بالغاز الطبيعي المُسال لسنوات.
وفي مقالٍ نَشَرَه موقع Middle East Eye البريطاني، كَتَبَ أندريس كريغ، الأستاذ المساعد في قسم دراسات الدفاع في كلية كينجز في لندن، إن قطر، على عكس روسيا، لم تستخدم الطاقة في سياسات القوة الصارمة، بل استثمرت في عقودٍ موثوقة طويلة الأجل، ما يوفِّر إمكانية التنبؤ والاستدامة بعيداً عن تقلُّبات أسعار السوق.
وفي لفتةٍ إنسانية، زودت الدوحة اليابان بأربعة ملايين طن إضافية من الغاز الطبيعي المُسال في أعقاب كارثة تسونامي التي دمرت العديد من المفاعلات النووية في عام 2011. وفي أواخر عام 2021، أعادت قطر توجيه أربع ناقلات للغاز الطبيعي المُسال إلى بريطانيا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لتخفيف تأثيرات أزمة الطاقة الناجمة عن التعافي الاقتصادي العالمي بعد اندلاع جائحة كوفيد-19.
وأضاف أندريس كريغ، إنه بالنسبة لقطر، تعتبر الطاقة وسيلةً للقوة الناعمة. وهي تتناسب بشكل جيد مع قوتها الناعمة الحالية كحَكَمٍ إقليمي ووسيط سلام. وباعتبارها دولةً صغيرةً في بيئةٍ غير مستقرة، تحاول قطر خلق ترابط يوفِّر لها الأمن في نهاية المطاف. وبالتالي، على عكس روسيا، فهي غير مهتمة باستغلال التبعيات من جانبٍ واحد في سياسات القوة الصارمة.
وقال إنه على العكس من ذلك، لا تقوم قطر بتسييس إمداداتها من الطاقة. خلال الحصار المفروض على الدوحة من قِبَلِ السعودية والإمارات وجيرانٍ آخرين بين عامي 2017 و2021، ظلَّت قطر ملتزمةً بالحفاظ على خط أنابيب دولفين قيد التشغيل، وتزويد أبوظبي ودبي بإمدادات الغاز الحيوية.
يمكن للولايات المتحدة نفسها أن تلعب دوراً مباشراً في تعزيز إمدادات الغاز في أوروبا أيضاً. غادرت شحناتٌ قياسية من الغاز الطبيعي المُسال الولايات المتحدة مُتَّجِهةً إلى الموانئ الأوروبية خلال الشهر الماضي، ولدى الولايات المتحدة حافزٌ قويٌّ طويل الأجل لتشجيع أوروبا على التخلِّي عن اعتمادها على روسيا -ومشروع خط أنابيب نورد ستريم 2- لصالح احتياطيات الغاز الصخري الخاصة بها.
2- ما كمية الغاز في حالات الطوارئ التي تحتاجها أوروبا؟
ترسل روسيا ما يقدَّر بنحو 230 مليون متر مكعب من الغاز إلى أوروبا كلَّ يوم، يسافر حوالي ثُلُثها غرباً عبر أوكرانيا. لكن خبراء السوق منقسمون حول ما إذا كان من المرجَّح أن تعطِّل روسيا جميع صادرات الغاز إلى أوروبا، أو تلك التي تعتمد فقط على أنابيب الغاز الأوكرانية. ويشكِّك آخرون فيما إذا كان الكرملين سيشدِّد الخناق على الإطلاق على صنابير الغاز الروسية.
3- هل يوجد غاز احتياطي كافٍ لسدِّ الفجوة؟
وفقاً للمُحلِّل شي نان من شركة Rystad Energy لأبحاث الطاقة، فإن أزمة إمدادات الغاز العالمية التي ظهرت مع بدء الاقتصادات في الانتعاش في أعقاب ركود كوفيد-19 تعني أن هناك القليل فقط من الغاز الطبيعي.
وقالت الولايات المتحدة إن محادثاتها "واسعة حقاً، مع الكثير من الشركات والبلدان في جميع أنحاء العالم"، بحيث لا تحتاج إلى "مطالبة أيِّ شركة أو دولة بمفردها بزيادة الصادرات بكمياتٍ كبيرة، ولكن بكمياتٍ أصغر من مصادر متعدِّدة".
تنتج قطر حالياً 77 مليون طن سنوياً من الغاز الطبيعي المُسال، لكنها تعاقدت بحوالي 97 مليون طن سنوياً مع المشترين في آسيا وأوروبا والكويت وشركات الطاقة الكبرى التي يمكنها اختيار مكان إرسال كل شحنة. وخصَّصَت الولايات المتحدة 80 مليون طن من إنتاج الغاز الطبيعي المُسال للمشترين في آسيا وأوروبا.
وذكر المقال المنشور على موقع Middle East Eye أن الدوحة قالت إنها تستهدف الوصول إلى 126 مليون طن سنوياً في السنوات الخمس المقبلة. وهذا من شأنه أن يترك حوالي 75 مليون طن سنوياً من الغاز الطبيعي المُسال بدون عقود لتُباع لعملاءٍ جدد أو حاليين، ما يعزز قوة رافعة الطاقة في قطر.
لوضع هذا في السياق فإن 75 مليون طن تعادل ما يقرب من 100 مليار متر مكعب من الغاز، وهو أمرٌ مثيرٌ للإعجاب عند الأخذ في الاعتبار أن قدرة الغاز الطبيعي المُسال الجماعية في أوروبا تقع في حدود 240 مليار متر مكعب سنوياً.
4- كيف يمكن أن تصل إمدادات الغاز الطارئ إلى أوروبا؟
تتم إمدادات الغاز في العالم عبر طريقتين:
الأولى: خطوط الأنابيب، كما هو الحال مع تغذية روسيا دول الاتحاد الأوروبي عبر خطي نورد ستريم.
وتعتبر خطوط الأنابيب من أهم الطرق لنقل الغاز والبترول من أماكن الإنتاج إلى محطات التكرير وأيضاً لمحطات المعالجة وذلك لعدة أسباب، على رأسها أنها تعد الأكثر أمنا وأقل في التكلفة، كما أنه يصعب سرقتها، حيث تكون تلك الأنابيب مجهزة بالصمامات، والمضخات، وأجهزة التحكم.
الثانية: الغاز الطبيعي المسال (LNG)، وهو الذي يتم نقله بواسطة ناقلات متخصصة ثم يُعاد تحويلها إلى غاز في محطات متخصصة.
والغاز المسال هو غاز طبيعي تم تحويله من حالته الغازية -التي يوجد عليها في الطبيعة- إلى الحالة السائلة، عن طريق تبريده إلى 162 درجة مئوية تحت الصفر. ويكون على شكل سائل عديم اللون والرائحة، ولهذا تضاف إليه كميات من مركب كيميائي (يشبه الكبريت في رائحته) قبل الشروع في توزيعه، من أجل إعطائه رائحة مميزة كعنصر أمان يسمح بالتعرف على وجوده في الهواء إذا وقع أي تسرب.
ويقول تقرير لصحيفة The Times البريطانية، إن قطر تعد من أبرز الدول المصدرة للغاز الطبيعي المسال لأنه ليس لديها خطوط أنابيب غاز رئيسية. وتعد الدولة الخليجية الصغيرة بالفعل مورداً مهماً لبريطانيا، فهي تلبي ما يقل قليلاً عن عُشر احتياجات البلاد.
ولكن في حين أن معظم الغاز البريطاني يأتي من بحر الشمال والنرويج، فإن حوالي ثلث الغاز الأوروبي وأكثر من نصف الغاز الألماني يأتي من روسيا، حيث تعتبر ألمانيا أكبر مستهلك للغاز في أوروبا.
5- ما المشاكل التي قد تواجه أوروبا في اعتمادها على غاز قطر المسال؟
تقول صحيفة The Times، إنه مع الارتفاع الصاروخي للأسعار مع عودة الإنتاج الصناعي بعد فيروس كورونا إلى طبيعته في جميع أنحاء العالم، بدأت أوروبا بالفعل في استيراد المزيد من الغاز الطبيعي المسال. كانت بريطانيا في مقدمة المشترين، فقد بدأت مفاوضات مع قطر لزيادة المعروض في أكتوبر/تشرين الأول.
لكن حتى لو كانت مساعدة قطر وشيكة، تبقى مشكلتان. الأولى هي أن الأوروبيين اعتادوا على الحصول على الغاز عبر خطوط الأنابيب، ومع اعتمادهم التاريخي على الفحم غير العصري الآن لتوليد الطاقة، فإن دولاً مثل ألمانيا لم تستثمر في محطات الغاز الطبيعي المسال.
فيما تعمل بقية المحطات الأوروبية، التي لم تكن مستغلة بشكل كافٍ، بأقصى سرعتها بالفعل، حتى قبل اندلاع أزمة بشأن أوكرانيا.
ويقول مايكل ستوبارد، المحلل لدى شركة الاستشارات IHS Markit: "يقدم الغاز الطبيعي المسال بالفعل مساهمة كبيرة لاستبدال التدفقات الروسية المتراجعة، ومع ذلك، فإن الغاز الطبيعي المسال غير قادر على تغطية جميع الواردات الروسية".
أما المشكلة الثانية، فهي مسألة مقدار الغاز الذي يتم ضخه بالفعل من الأرض. وتعتمد قطر على حقل غاز الشمال أو "حقل فارس الجنوبي" هو حقل غاز طبيعي يقع في الخليج العربي، تتقاسمه كل من قطر وإيران، وهو أكبر حقل غاز بالعالم حيث يضم 50.97 ترليون متر مكعب من الغاز، لكن التسليم لا يزال يتطلب استثمارات دولية في الحفر والناقلات والمحطات، كما تقول صحيفة "التايمز".
ويقول روبن ميلز، الرئيس التنفيذي لشركة Qamar Energy، وهي شركة استشارية مقرها الخليج: "جميع مصانع الغاز الطبيعي المسال على مستوى العالم تعمل بأكبر قدر ممكن من السعة، لذلك هناك القليل جداً من الطاقة الاحتياطية".
6- كيف يمكن أن تستفيد دول غنية بالغاز مثل قطر من الأزمة الحالية؟
لهذا السبب تقول قطر إنها إذا أرادت تقديم المزيد من الغاز إلى أوروبا، فإنها بحاجة إلى مساعدة في إقناع الدول الآسيوية، أكبر عملائها، بالموافقة على تحويل إمداداتها. ومن بين هؤلاء اليابان وكوريا الجنوبية، الحلفاء الغربيون الذين قد يسعدهم تقديم المساعدة، وكذلك الصين، التي من المحتمل أن تفعل ذلك، ولكن فقط بثمن كبير.
على مدار سنوات، كانت الدول الأوروبية تشتري إمداداتها من السوق "الفورية"، مستفيدة من انخفاض الأسعار، لكن الآن الظروف قد اختلفت، والموردون لديهم الميزة.
وقعت الدول الآسيوية في الغالب عقوداً طويلة الأجل -20 أو 25 عاماً- بدلاً من استخدام السوق الفورية مثل الغرب، ما يعني أنها دفعت مؤخراً أسعاراً أعلى، وهذا ما سيتعين على أوروبا الآن دفعه لتحويل مسار ناقلات الغاز المسال من الشرق إلى الغرب.
لطالما أرادت قطر من أوروبا توقيع عقود طويلة الأجل معها أيضاً، وتعتقد الدوحة أن الأزمة الأوكرانية أثبتت الحاجة إلى ذلك. وقال مصدر غربي رفيع المستوى لصحيفة "التايمز": "قطر تبحث عن عقود طويلة الأجل لمواجهة العواصف الطبيعية أو السياسية، مضيفاً أن الاعتماد المستمر على العقود قصيرة الأجل لن يكون مستداماً لأمن الغاز الطبيعي المسال في أوروبا على المدى الطويل".
وتخطط قطر بالفعل لزيادة السعة في حقل الشمال بأكثر من النصف بحلول عام 2027، وهي ترى الآن فرصة لتأمين العملاء لدفع ثمنها. بالطبع سيكون لذلك تأثير آخر. فكلما زاد ضمان الاتحاد الأوروبي لشراء الغاز القطري، قلت الحاجة من روسيا. ويعتقد البعض أن هذا سيكون بمثابة خطر على ازدهار روسيا على المدى الطويل لدرجة أن بوتين نفسه لا يريد تحمله.