يصادف هذا الشهر مرور 30 عاماً على تأسيس "جمهورية صرب البوسنة" (صربسكا)، حين أعلن صرب البوسنة دولتهم في البوسنة والهرسك، وأعقب ذلك تطهير عرقي وإبادة جماعية. وقضت المحكمة الدستورية البوسنية عام 2015 بعدم دستورية الاحتفال بذكرى تأسيس صربسكا في 9 يناير/كانون الثاني 1992.
لكن خلال الاحتفالات في مختلف أنحاء صربسكا، حيث ارتُكِبَ عنف مؤدٍّ إلى الإبادة الجماعية ضد غير الصرب خلال الفترة بين 1992 و1995، جرى تمجيد مجرمي الحرب، في حين جرى استهداف العائدين إلى القرى التي طُرِدَ منها غير الصرب، وتضمَّنت الاحتفالات مسيرة من جانب الشرطة المسلحة في أرجاء مدينة بانيا لوكا.
وطوال الأشهر الماضية، يتحرك الساسة الصرب للانسحاب من المؤسسات الرئيسية بالبوسنة، ما أدخل البلاد في أزمة، وأثار مخاوف من نشوب صراع جديد، وأعاد الذكريات القديمة التي كانت قد دُفِنَت عميقاً بعد توقيع "اتفاقية دايتون" لعام 1995.
جرائم الصرب بمسلمي البوسنة.. فظائع وإنكار أمام مرأى ومسمع العالم
في صيف 1992، فيما كانت عمليات القتل والإخفاءات الجماعية لمسلمي البوسنة (البوشناق) تشتد في مدينة فيشغراد، مسقط رأس إهليمانا ميميسيفيتش، المؤرخة القانونية والباحثة في شؤون الإبادة الجماعية في سراييفو، انفصلت ميميسيفتش هي ووالدتها عن والدها وشقيقها البالغ 17 عاماً وشقيقتها ذات الـ13 عاماً، الذين كانوا من بين المجموعات التي استُهدِفَت أولاً. وقد فرّوا من فيشغراد، بينما توجهت ميميسيفيتش ووالدتها إلى قرية أهل والدتها. كان ذلك وقتاً ساده الخوف واليأس العميقان.
تقول إهليمانا ميميسيفيتش، في مقالة لها بموقع Middle East Eye البريطاني، إنهم سرعان ما أدركوا أنَّهم أيضاً يتعيَّن أن يفرّوا. أخفى جدها ممتلكات العائلة الثمينة على أمل استعادتها عند عودتهم، لكنَّهم لم يعودوا أيضاً، ولم ترَ جدها مجدداً قط.
وصلت الإبادة الجماعية إلى ذروتها في يوليو/تموز 1995 بمذبحة سربرنيتسا. وكان جدها، وكثيرون غيره من قريته، بين أكثر من 8 آلاف رجل وصبي قُتِلوا. واكتُشِفَ جزء من بقايا رفاته في مقبرة جماعية قرب مدينة زفورنيتش عام 2009، واستُخرِجَت إحدى عظام ذراعه المفقودة في عام 2020 من مقبرة جماعية أخرى.
شبح الحرب يخيم على مسلمي البوسنة بسبب تحريض ساسة الصرب
تقول ميميسيفيتش، التي تعمل أيضاً أستاذة مساعدة بقسم التاريخ القانوني والقانون المقارن بكلية الحقوق جامعة سراييفو، إنَّ الشعور بأنَّ السلام كان أمراً مؤقتاً فقط لم يفارقها تماماً. ومع أنَّ بعضاً من أسوأ الفظائع قد ارتُكِبَت في مسقط رأسها –الاغتصابات والتعذيب والقتل الجماعي، وضمن ذلك إحراق أكثر من 120 مدنياً حتى الموت، معظمهم من النساء والأطفال، في يونيو/حزيران 1992- يستمر سكان فيشغراد ومسؤولوها الحكوميون من الصرب في إنكار أنَّ هذه الجرائم قد وقعت قط.
وتشير ميميسيفيتش إلى أنَّ هذه الجرائم يتم إنكارها بصورة ممنهجة، ومع ذلك يجري الاحتفال بها. وتقول إنَّ بعض الجناة ما يزالون يعملون في الحكومة وقوة الشرطة. وتضيف أنَّ أعضاء من "حركة رافان غورا"، وهي منظمة تشتنيكية صربية قومية، احتشدت في فيشغراد في مارس/آذار 2019 وهتفت: "سيكون هنالك جحيم، وسيتحول نهر درينا إلى دماء. سيأتي التشيتنيكيون من الجبال الصربية"، في دعوة واضحة إلى التطهير العرقي والإبادة الجماعية.
وتشير ميميسيفيتش إلى أنَّ الأزمة السياسية في البوسنة والهرسك خلال الأشهر الأخيرة، والتي وصفها تقرير قُدِّمَ إلى الأمم المتحدة العام الماضي بأنَّها أكبر "تهديد وجودي في فترة ما بعد الحرب"، أعادت إيقاظ الصدمة التي أصابتها بسبب الحرب، وأكَّدت خطر إمكانية اشتعال كل ذلك مجدداً قريباً.
وتصاعدت الأزمة السياسية حين أعلن "مكتب الممثل السامي"، الذي يشرف على تطبيق اتفاقية السلام التي أنهت حرب البوسنة، في يوليو/تموز الماضي، تجريم إنكار الإبادة الجماعية في البوسنة والهرسك. ورفض ميلوراد دوديك، العضو الصربي في الرئاسة الثلاثية بالبوسنة، بعدها هذا الإعلان، قائلاً إنَّ القانون لن يُقبَل أبداً وإنَّ جمهورية صربسكا "ستبدأ في عملية التفكك".
وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، تحركت الجمعية الوطنية لجمهورية صربسكا من أجل الانسحاب من المؤسسات القضائية والأمنية والدفاعية البوسنية. وهدد دوديك أيضاً بطرد قوات الجيش البوسني من صربسكا. وحذَّر الممثل السامي للبوسنة، في تقرير للأمم المتحدة، من أنَّ تصرفات دوديك "تُعَد بمثابة انفصال دون إعلانه"، وفي حال لم يتدخل المجتمع الدولي سريعاً، "فإنَّ أفق حدوث مزيد من الانقسام والصراع سيكون واقعاً جداً".
الخطاب المعادي للمسلمين يتصاعد في البوسنة
قال دوديك إنَّ الغرب إذا ما حاول التدخل عسكرياً، فإنَّ لديه "أصدقاء" سيساعدون القضية الصربية. وقد حضر الاحتفالات التي جرت في 9 يناير/كانون الثاني في صربسكا مسؤولون كبار من صربيا والسفير الروسي ونائب السفير الصيني وسياسيون من اليمين المتشدد من أوروبا الشرقية.
ووفقاً لتقرير صدر مؤخراً عن "شبكة البلقان للتقارير الاستقصائية"، تُنظِّم مؤسسات مدعومة من الحكومة الروسية فعاليات لترويج تقارير تنكر مذبحة سربرنيتسا عام 1995، "في ظل سعي موسكو لاستغلال الانقسامات في البوسنة والهرسك وزيادة نفوذها بين الصرب بالبلاد".
وفي غضون ذلك، يدعم رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان -المعروف بسياساته المناهضة للهجرة وادعاءاته بأنَّ المسلمين يُشكِّلون تهديداً لقيم أوروبا المسيحية- دوديك بقوة. وقد تعهَّد بأنَّ المجر ستعرقل أي تحرك من الاتحاد الأوروبي لفرض عقوبات على دوديك بسبب خططه الانفصالية، وقدَّمت الحكومة المجرية 100 مليون يورو (114 مليون دولار) من المساعدات المالية لجمهورية صربسكا من أجل "تعزيز الاستقرار في المنطقة.
وقال دوديك في قمة بالعاصمة المجرية بودابست، سبتمبر/أيلول الماضي: "نحن مسيحيون. هذه خبرتي، وخبرتي تجعلني أقول إنَّ المسلمين لا يتخلّون عن قيمهم… إنَّني أدعو فقط للدفاع عن أوروبا، كامل أوروبا، وليس الاتحاد الأوروبي فقط".
قد ينتهي المطاف بمسلمي البوسنة في مقابر جماعية مجدداً
تقول ميميسيفيتش إنَّ القوميين الصرب في الثمانينيات والتسعينيات قد استخدموا الخطاب نفسه المعادي للمسلمين بهدف تبرير حملات الإبادة الجماعية ضد مسلمي البوسنة. فقال رادوفان كاراديتش، زعيم صرب البوسنة السابق، إنَّ المسلمين "لديهم مخططات مظلمة، ويتمنون أن يجعلوا من البوسنة نقطة انطلاق للاختراق الإسلامي في أوروبا". وأضاف أنَّ الغرب "سيكون ممتناً لنا يوماً ما، لأنَّنا قررنا الدفاع عن القيم والثقافة المسيحية".
واختتمت ميميسيفيتش بالقول إنَّ تصرفات دوديك والتهديدات الانفصالية العلنية تمثل اختباراً للمجتمع الدولي. وقالت إنَّ فكرة وجود جيش "يقتصر على الصرب" فقط تعيدها إلى عام 1992، حين نُزِعَ سلاح مسلمي البوسنة وباتوا عالقين تحت رحمة قوات الصرب، التي تحركت وفق أوامر بالتطهير العرقي للمنطقة. وإذا ما أتت مقترحات دوديك ثمارها، فقد ينتهي المطاف بمسلمي البوسنة في مقابر جماعية مجدداً.