في الوقت الذي تحاول فيه القوى الغربية تجنب الغزو الروسي لأوكرانيا، يمكن أن يصبح خط غاز "نورد ستريم 2"، وهو مشروع البنية التحتية للطاقة الذي تم الترويج له منذ فترة طويلة والذي تسبب بالفعل في إحداث شرخ بين ألمانيا والولايات المتحدة، ورقة مساومة رئيسية، إذ يعتبر الخط شرياناً حيوياً لمبيعات الغاز الروسي نحو أوروبا.
فما هو هذا الخط وما قصته؟ وما البدائل التي تبحث عنها واشنطن وحلفاؤها للغاز الروسي في حال اندلاع الحرب وغزو روسيا لجارتها أوكرانيا؟
ما هو خط غاز نورد ستريم 2؟
يمتد خط أنابيب الغاز الطبيعي الروسي "نورد ستريم 2" الذي تبلغ قيمته 11 مليار دولار عبر بحر البلطيق، وهو مملوك لشركة غاز بروم الروسية العملاقة للطاقة، من غرب سيبيريا إلى ألمانيا، وهو مسار جديد لإمداد الغاز الروسي نحو أوروبا، لدعم خط "نورد ستريم1" الأصلي المستخدم بالفعل.
وعلى مسافة 1200 كيلومتر من فيبورغ في روسيا، عبر بحر البلطيق، إلى لوبمين في ألمانيا، يمتد الخط الروسي متجاوزاً أوكرانيا وبولندا، ليكون رابطاً مباشراً بين موسكو المنتجة للغاز والمستهلكين الأوروبيين.
وسيُساهم "نورد ستريم 2" في مضاعفة السعة الإجمالية لخط نورد ستريم 1، لتصل لنحو 110 مليارات متر مكعب في السنة.
وتقول وثيقة رسمية من إعداد خدمة أبحاث الكونغرس الأمريكي إن نصف تكلفة تشييد هذا الخط، كانت بتمويل من خمس شركات أوروبية هي "إنجي" الفرنسية، و"أو.إم.في" من النمسا، و"شل" المملوكة لكل من هولندا والمملكة المتحدة، بالإضافة إلى "يونيبر" و"ووترشال" من ألمانيا.
عُلّق العمل في خط الأنابيب هذا مبدئياً في ديسمبر 2019، بعد إقرار عقوبات أمريكية ضد روسيا مسّت خط الأنابيب، بسبب احتلال شبه جزيرة القرم، لكن البناء استؤنف في ديسمبر 2020. ورداً على ذلك، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على 23 من الكيانات والسفن الروسية.
ما أهمية خط "نورد ستريم 2" لدى ألمانيا؟
بالنسبة لألمانيا، يمكن لخط الأنابيب الروسي أن يمد 26 مليون منزل ألماني بالتدفئة بسعر مناسب، وتم الانتهاء من بنائه في سبتمبر/أيلول 2021. ومع ذلك، لم يصدر المنظمون الألمان بعد الإذن القانوني النهائي الذي تحتاجه شركة غاز بروم لبدء عملياتها.
وبينما أكدت ألمانيا أن "نورد ستريم 2 مشروع تجاري فقط"، إلا أن الخط له أيضاً عواقب جيواستراتيجية، حيث يتجاوز أوكرانيا ويحتمل أن يحرمها من حوالي ملياري دولار كرسوم عبور تدفعها روسيا حالياً لإرسال الغاز عبر أراضيها.
وتواجه ألمانيا معضلة منذ محاولتها الابتعاد عن الوقود الأحفوري، فقد قررت برلين التخلي عن الطاقة النووية، لكن مصادر الطاقة المتجددة في ألمانيا لن تولد سوى القليل جداً من الكهرباء في المستقبل المنظور، ولذلك بدت البنية التحتية لنقل الغاز، والتي غالباً ما تستثني دول العبور، التي تعاني من مشاكل مثل بولندا وأوكرانيا، مثالية لبعض الوقت، أمام صُناع القرار في ألمانيا.
وتجد ألمانيا نفسها في مأزق خاصة وسط ضغوط ومطالب من الولايات المتحدة لاستخدام خط الغاز "نورد ستريم 2" كورقة ضغط لردع روسيا عن أي توغل يستهدف أوكرانيا، فضلاً عن مخاوف من أن يؤدي الاعتماد على هذا الخط إلى الإضرار بقطاع الطاقة في الاتحاد الأوروبي.
الخلاف الأمريكي الألماني.. لماذا تعارض واشنطن "نورد ستريم 2″؟
تعتبر الولايات المتحدة خط الأنابيب الروسي أداة جيوسياسية لروسيا لتقويض الطاقة والأمن القومي، ما زاد من نفوذ موسكو على أوروبا، حيث ارتفعت أسعار الغاز.
وتعرضت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لانتقادات من مشرعين من الحزب الجمهوري، "لأنها لم تفعل ما يكفي لوقف المشروع"، وانتقدت إدارة الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، الخط، منذ إطلاق خط نورد ستريم1، الذي افتتح في عام 2011.
وتأكدت مخاوف الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض، منذ ذلك الحين، إذ أصبحت أوروبا تعتمد على نحو 43% من وارداتها من الغاز الروسي، وفق الأرقام التي قدمها تقرير سابق لمجلة "ذي إيكونوميست" البريطانية.
وفي عام 2015، أعدت المفوضية الأوروبية بياناً تضمن اعتراضات على الخط، وكان من أبرزها انتهاكات شركة غاز بروم التي تضخ الغاز لأوروبا عبر خط نورد ستريم الأصلي، لقواعد المنافسة، والتي قوضت سوق الغاز في الاتحاد الأوروبي، بسبب الاحتكار، وفقاً للبيان.
لكن الخط أصبح "مهماً بشكل خاص في الوقت الحالي"، إذ تشهد أوروبا انخفاضاً في إنتاج الغاز المحلي وزيادة في الطلب على الغاز المستورد، وفق الموقع الرسمي لشركة غاز بروم الروسية.
وفي 13 يناير 2022، فشل مجلس الشيوخ الأمريكي في تمرير مشروع قانون برعاية السيناتور الجمهوري تيد كروز لفرض عقوبات على مشروع نورد ستريم 2.
ومارست إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن ضغوطاً على أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين ضد مشروع القانون، خوفاً من تأثيره على العلاقات الأمريكية الألمانية واحتمال أن يزيد من استعداء روسيا وسط الأزمة الأوكرانية.
وفي مايو/أيار 2021، تنازل بايدن عن العقوبات المفروضة على الشركة المملوكة لروسيا ومقرها سويسرا والتي تدير مشروع خط الأنابيب، نورد ستريم 2 إيه جي، كجزء من اتفاقية مع ألمانيا.
ومع ذلك، لم يكن لموقف الولايات المتحدة التأثير المطلوب في ألمانيا، وزادت روسيا من الضغط، حيث قالت وكالة أنباء تاس الحكومية إن العقوبات على خط الأنابيب ستؤدي إلى تراجع إمدادات الطاقة ونمو أسعار الغاز في أوروبا.
ويعزى نقص إمدادات الغاز في أوروبا على نطاق واسع مؤخراً إلى ندرة تدفقات الغاز من روسيا، وقد أصاب بشكل خاص العمال ذوي الدخل المنخفض في ألمانيا، والذين يعتمد عليهم حزب المستشار الألماني أولاف شولتز في التصويت.
"نورد ستريم 2" في قلب الأزمة مع تصاعد احتمالات الغزو الروسي لأوكرانيا
عارضت أوكرانيا وبولندا خط الأنابيب الذي ترك واشنطن في موقف صعب مع بعض حلفائها الأوروبيين، كما تسبب المشروع في صراع سياسي داخل الحكومة الائتلافية الجديدة في ألمانيا وترك الغرب منقسماً في استجابته للوضع.
ويوم الثلاثاء 18 يناير/كانون الثاني 2022، قدم المستشار الألماني شولتز، الذي كان قد رفض سابقاً الإفصاح علناً عن إمكانية وقف خط الأنابيب إذا هاجمت روسيا أوكرانيا، أقوى مؤشر له على أن هذا لا يزال ممكناً.
وقال شولتز في مؤتمر صحفي مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ: "من الواضح أنه ستكون هناك تكلفة عالية وأن كل هذا سيتعين مناقشته إذا كان هناك تدخل عسكري ضد أوكرانيا".
والآن، أصبح مشروع نورد ستريم 2 واحداً من أقوى الأدوات المتبقية للغرب للتأثير على صنع القرار الروسي عندما يتعلق الأمر باحتمال غزو عسكري روسي لأوكرانيا.
وكانت ألمانيا تقاوم الضغوطات المستمرة من الولايات المتحدة، لأنها تحتاج تماماً إلى إمدادات غاز موثوقة من روسيا، وعلى الرغم من أنها الآن واحدة من أكبر مصدري الغاز الطبيعي المسال في العالم، لا يمكن للولايات المتحدة أن تحل محل روسيا في هذا الدور كمورد رئيسي، كما يقول الخبراء، وذلك بالرغم من زعم روسيا أن واشنطن "أرادت وقف المشروع حتى تتمكن من شحن مزيد من الغاز الطبيعي المسال الخاص بها إلى أوروبا".
وأدى تجاوز أوكرانيا إلى انخفاض حاد في نفوذ البلاد مع روسيا وخفض دخلها. ومع ذلك، تعتمد أوروبا وألمانيا على الغاز الروسي، حيث يكشف هذا الصراع الحالي عن نقاط الضعف، ما يعني أن نورد ستريم 2 أصبح رادعاً للحرب في أوكرانيا وخياراً للعقاب في حالة نشوبها.
واشنطن تبحث عن بديل للغاز الروسي.. فهل تجده في الشرق الأوسط؟
في خضم ذلك تحاول الإدارة الأمريكية مستغلة احتمالات الغزو الروسي لأوكرانيا، أن تكبح الخط الروسي الذي تعتبر أنه سيعزز النفوذ الاقتصادي والسياسي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوروبا، وهو ما يعني تهديداً للمصالح الأمريكية الاستراتيجية والعميقة بالقارة الأوروبية.
وبالتالي، تسعى الإدارة الأمريكية للبحث عن بديل للغاز الروسي ولو كان مؤقتاً في ظل تصاعد احتمالات دخول روسيا لأوكرانيا وانقطاع الغاز عن أوروبا التي تعاني بالأساس من أزمة بسبب ارتفاع أسعاره، وقد يكون ذلك البديل لدى الشرق الأوسط الغني بالغاز.
إذ قال البيت الأبيض يوم الثلاثاء، 25 يناير 2022، إن أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، سيجري محادثات مع الرئيس الأمريكي جو بايدن في البيت الأبيض يوم 31 يناير/كانون الثاني بشأن مجموعة من القضايا أبرزها أمن الطاقة العالمي، والمخاوف بشأن إمدادات الغاز إلى أوروبا.
وقال موقع Axios الأمريكي إنه علم من مصادره في البيت الأبيض أن بايدن سيناقش مع أمير قطر "خطط الطوارئ لتوفير الغاز الطبيعي لأوروبا في حالة الغزو الروسي لأوكرانيا".
وأضاف الموقع أن اعتماد أوروبا على روسيا للحصول على 40% من غازها الطبيعي يقوض محاولات بايدن لتنسيق العقوبات "الهائلة" التي سيتم فرضها من كلا جانبي المحيط الأطلسي إذا قامت روسيا بغزوها. ويريد البيت الأبيض من قطر المساعدة في ضمان قدرة الدول الأوروبية على فرض عقوبات صارمة دون المخاطرة بأزمة طاقة.
وأكد كبار المسؤولين في الإدارة يوم الثلاثاء لـ"آكسيوس"، أن الولايات المتحدة تجري محادثات مع دول وشركات في جميع أنحاء العالم -بما في ذلك قطر التي تمتلك ثالث أكبر احتياطيات في العالم- للتخفيف من صدمات الأسعار، من خلال زيادة الإنتاج مؤقتاً أو إعادة تخصيص الإمدادات.
وقال مصدر رفيع مطلع على تفاصيل زيارة الأمير تميم لواشنطن، إن المناقشات بشأن توفير قطر للغاز الطبيعي المسال هي مناقشات أولية، لكن من المتوقع أن يتم تقديم الاقتراح في الاجتماع بين بايدن والشيخ تميم بن حمد آل ثاني.
في الوقت نفسه، تطمح إسرائيل لنقل كميات الغاز الطبيعي الضخمة المكتشفة لديها إلى أوروبا. وبعدما وجهت واشنطن ضربة لمشروع خط غاز "إيست ميد" بين اليونان وإسرائيل بالانسحاب منه كداعم رئيسي الأسبوع الماضي، أكدت تركيا أنها مهتمة بنقل الغاز الإسرائيلي عبر أراضيها.
وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في حديث للصحفيين، الثلاثاء 18 يناير/كانون الثاني، إن بلاده مهتمة "باستئناف المحادثات مع إسرائيل بشأن نقل الغاز الطبيعي الإسرائيلي إلى أوروبا عبر تركيا"، مضيفاً: "إذا نُقل الغاز إلى أوروبا، فلن يتم ذلك إلا من خلال تركيا".
ونقلت وكالة الأناضول عن أردوغان قوله إن الولايات المتحدة "أجرت تحليلات تكلفة لمشروع خط أنابيب "إيست ميد" الذي يهدف إلى تصدير الغاز الطبيعي من إسرائيل مباشرة إلى أوروبا، وقررت سحب دعمها لأن المشروع سيكون مكلفاً للغاية"، مشيرة إلى أن المشروع "لن يكون ذا جدوى اقتصادية بدون تركيا".
وذكر أردوغان أن إسرائيل وتركيا أجرتا عدة محادثات لنقل الغاز الإسرائيلي عبر تركيا، مشيراً إلى أن الجانب الإسرائيلي على مستوى الرئيس ورئيس الوزراء يبعثون رسائل في هذا الشأن إلى تركيا، وأن أنقرة لا تزال حريصة على العمل مع إسرائيل حول ذلك.