أظهرت الأزمة الأوكرانية بشكل كبير، أن الاتحاد الأوروبي ليس كتلة واحدة وأنه يمثل كتلتين أو أكثر: واحدة هي أوروبا الشرقية القلقة من التنمر الروسي ولديها رغبة في التصدي له، والثانية غربية على استعداد للمساومة مع موسكو.
وتجددت مؤخراً الخلافات بين بولندا وألمانيا حول الحرب الأوكرانية، بعد أن رفضت بولندا عرضاً ألمانياً لتزويدها بصواريخ باتريوت، وطالبت بتوجيه هذه الأنظمة لأوكرانيا التي تواجه هجمات صاروخية روسية قاسية.
وحتى بعد أن تراجعت بولندا عن موقفها، وقبلت على مضض الصواريخ التي عرضتها ألمانيا، فقد ألمحت وارسو إلى أن برلين لا تدعم كييف بشكل مؤثر، وعادت مجدداً للإشارة للعلاقة الوثيقة بين ألمانيا وروسيا قبل إندلاع الحرب الأوكرانية.
تظهر هذه الأزمة، وقبلها خلافات أوروبية متعددة حول كيفية معاقبة روسيا، ونوعية الأسلحة التي يجب تقديمها لأوكرانيا، أن هناك أكثر من أوروبا وليست أوروبا واحدة، فهناك أوروبا الشرقية التي تعتبر حرب أوكرانيا معركتها الذاتية، وتريد هزيمة قاسية لروسيا يعقبها حصار أبدي لها.
وأوروبا الشمالية (السويد والنرويج وفنلندا) التي تتخذ موقفاً مشابهاً ولكن أكثر عقلانية، بينما منطقة جنوب شرق أوروبا مهتمة بالأزمة بشدة، ولكنها منقسمة وأغلب دولها ليست متحمسة للتصعيد ضد روسيا أو القطيعة الدائمة معها، وهو توجه يشبه موقف ألمانيا، بينما تبدو فرنسا راغبة في السلام مع روسيا بشدة بطريقة تغضب الأوكرانيين وقلقة من صعود النفوذ الأمريكي بالاتحاد الأوروبي أكثر من قلقها من الهجوم الروسي على أوكرانيا، أما دول جنوب غرب أوروبا، فتبدو معنية بآثار الأزمة الاقتصادية أكثر من أي شئ آخر.
وبينما تفضل الأدبيات الأوروبية تجاهل مصطلح أوروبا الشرقية باعتباره مسمى مرتبط بكتلة دول حلف وارسو المنحل والفترة السوفيتية المكروهة، لصالح استخدام مصطلح أوروبا الوسطى الذي يضم ألمانيا والنمسا إلى جانب دول كتلة أوروبا الشرقية السابقة، لكن تطورات الأزمة الأوكرانيا أظهرت فعلاً أن أوروبا مازالت تنقسم إلى كتلتين إحداهما أوروبا الشرقية والثانية أوروبا الغربية.
عندما بدأت روسيا تحشد قواتها استعداداً لغزة أوكرانيا سارعت دول البلطيق الصغيرة والضعيفة بإرسال، السلاح إلى أوكرانيا؛ في محاولة لدعمها في مواجهة احتمالات الاجتياح الروسي، بينما رفضت ألمانيا في ذلك الوقت تقديم أسلحة لأوكرانيا بحجة أن سياستها تقوم على عدم إرسال سلاح إلى مناطق توتر، متجاهلةً أن أوكرانيا ليست مجرد جبهة توتر؛ بل ساحة دفاع أمامية عن أوروبا، تهدد فيها دولة عظمى مدججة بالسلاح بلداً مجاوراً ضعيفاً وشبه ممزَّق، وأرضه محتلة.
ألمانيا وفرنسا تتعاملان مع الأزمة الأوكرانية بهدوء يصل للبرود أحياناً
وكان الأغرب استمرار غموض موقف ألمانيا حتى قبيل فترة قليلة من بدء الغزو الروسي من خط غاز السيل الشمالي 2 الذي شيَّدته موسكو بالتعاون مع برلين؛ لكي يتفادي المرور بالأراضي الأوكرانية والبولندية والبيلاروسية كخطوط الأنابيب العاملة حالياً، وهو الأمر الذي لم يوقف فقط الإيرادات التي تحصلها كييف، بل جعلها أكثر عرضةً لأي عدوان روسي، لأنَّ وقف ضخ الغاز عبر الخطوط المارة بالأراضي الأوكرانية، ينزع من كييف آخر أوراق الضغط القليلة المتبقية لديها أمام العملاق الروسي، عبر التلويح بوقف حصول موسكو على الدولارات مقابل سريان الغاز لأوروبا.
والحال كذلك بالنسبة لفرنسا، التي فاجأ رئيسها إيمانويل ماكرون، الأوروبيين قبيل أيام من غزو روسيا لأوكرلانيا، بدعوته إلى الحوار مع موسكو بعيداً عن الحوار الأمريكي-الروسي القائم، ودون التلويح حتى بأي أوراق ضغط على موسكو التي توسعت طلباتها من اشتراط عدم ضم أوكرانيا للناتو، إلى طلب انسحاب بعض دول أوروبا الشرقية من عضوية الحلف.
تماماً كما صدم قائد البحرية الألمانية قبيل الغزو الروسي، أوكرانيا والغرب بامتداحه روسيا وبوتين ودعوته إلى التحالف معه ضد الصين باعتباره مسيحياً، والأغرب دعوته إلى نسيان احتلال لروسيا شبه جزيرة القرم باعتباره أمراً واقعاً، قبل أن يستقيل بسبب الانتقادات الحادة التي وجهت له في ذلك الوقت.
وقبل الغزو الروسي لم تكن دول أوروبا الغربية معنيَّة كثيراً بالأزمة الأوكرانية ولا مخاوف الشطر الشرقي للاتحاد الأوروبي من الجموح الروسي، لدرجة أن البورصات الغربية لم تكد تتأثر باحتمال اجتياح روسي لأوكرانيا، وهو اجتياح كان يمكن أن يتوسع أو يمس الجناح الشرقي للناتو والاتحاد الأوروبي ممثلاً في دول البلطيق، فيما وصفه الرئيس الأمريكي جو بايدن، بأنه أكبر عمل عسكري في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
وإلى اليوم مازال حجم الدعم العسكري الذي تقدمه ألمانيا إلى أوكرانيا ضئيلاً مقارنة قوتها الاقتصادية، الأمر يصبح أسوأ بالنسبة لفرنسا التي يفترض أنها تمتلك أقوى جيش أوروبي، ولكن مساعداتها لكييف ضئيلة، حتى أنه يعتقد أنه دولة متوسطة مثل بولندا تتفوق عليها.
في مقابل هذا الموقف من ألمانيا وفرنسا، يبدو موقف بريطانيا الخارجة لتوّها من الاتحاد الأوروبي، الأكثر حزماً من الدول الأوروبية، كما تبدو السويد وفنلندا- الجارتان الإسكندافيتين لروسيا- أكثر قوة.
بينما أوروبا الشرقية تتوجس خيفة من الدب الروسي
أما أكثر الدول الأوروبية قلقاً من روسيا وحماساً لدعم كييف، فهي جمهوريات البلطيق الثلاث لاتفيا وإستونيا ولتوانيا، وبصورة أقلَّ رومانيا والتشيك والسلوفاك، بينما تغرد المجر خارج السرب وتعتبر الاقرب لروسيا.
أما بولندا فتعتبر أقوى الدول الأوروبية حماساً في دعمها لأوكرانيا بالقول والفعل معاً، وتسعى وارسو لتعزيز قوة جيشها بشكل قد يجعلها قوة أوروبية إقليمية، وبطريقة قد تجعل بولندا الجبهة الرئيسية الأمامية للناتو في مواجهة روسيا، لدرجة أن هناك تلميحات بأنها تريد اقتناء أسلحة نووية.
بينما تبدو بلغاريا أقل صرامة في موقفها من روسيا حيث يربط بين البلدين صلات إثنية ودينية وتاريخ كانت فيه صوفيا تعتمد على موسكو في محاولتها للاستقلال عن الدولة العثمانية، أما صربيا فقد تكون سعيدة بالتنمر الروسي الذي تزامن مع قيام صرب البوسنة المدعومين من بلغراد، بالتنمر بدورهم على المسلمين والكروات في بلادهم والتمرد على الوصاية الأوروبية والدولية على البوسنة الرامية إلى تبديد شبح النزاع العرقي، ولكن يبدو أن تعثر الجيش الروسي في أوكرانيا والحصار الغربي الصارم قد دفعهم للتهدئة.
فلماذا تبدو أوروبا منقسمة إلى كتلين أو ثلاث تجاه العدوانية الروسية في أوكرانيا.
الأمر لا يقتصر على تكتيكات بوتين الناجحة في تقسيم الغرب، ولا المصالح الاقتصادية الكبيرة التي كانت تربط بلداً مثل ألمانيا بروسيا، حيث كانت تستورد من موسكو الطاقة والعقول الروسية الماهرة في العلوم والرياضيات وتصدر لها المنتجات الألمانية الصناعية ذات الكفاءة.
ولكن التاريخ والجغرافيا يلعبان دوراً أساسياً في تحديد مواقف الدول الأوروبية تجاه الطموحات الروسية.
السويد وبولندا والدولة العثمانية هم الخصوم التاريخيون لموسكو
منذ نهاية العصور الوسطى وبداية العصر الحديث الذي يستهله المؤرخون الأوروبيون بالفتح العثماني للقسطنطينية، أصبحت هناك عدة قوى رئيسية في شرق أوروبا مختلفة عن الوضع الحالي تماماً.
كانت بولندا دولة كبرى عبر اتحادها مع لتوانيا، والسويد قوة عسكرية وبحرية لها نفوذ في شمال أوروبا الشرقية، والدولة العثمانية كانت تتوسع في القوقاز والبلقان وأوكرانيا وجنوب بولندا.
رغم الحروب بين العثمانيين والبولنديين، فإنه سرعان ما بدأت بولندا والسويد وتركيا تنتبه إلى الخطر الروسي، وكانت روسيا في مستهل العصور الحديثة دولة عملاقة السكان والمساحة ولكنها دولة متخلفة ومعزولة، وغير متقدمة عسكرياً ولا حضارياً، ولكن جغرافيتها تحميها، وتمكنت من إضعاف أو ابتلاع الخانات التتارية الواقعة إلى الشرق منها، ثم استولت على خانية القرم الحليفة للدول العثمانية، وهكذا توسعت موسكو على حساب أوكرانيا التي كانت خاضعة للعثمانيين والبولنديين، وخانية القرم، إضافة إلى دويلات الفرسان القوزاق الأوكرانيين المحليين.
وهكذا كانت روسيا الخطر على هذه الأمم: تركيا، والتتار والبولنديين والسويد، وبلدان البلطيق، واستولت على أراضٍ كثيرة منهم، من بينها فنلندا التي كانت دوقية تابعة للسويد.
في المقابل، لم تكن هناك حدود مباشرة بين بروسيا أكبر الدويلات الألمانية المفتَّتة في ذلك الوقت، أو الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي كان يحكمها آل الهابسبورغ، والتي يوجد مقرها في فيينا وتقود شكلياً الدويلات الألمانية، بينما كانت تسيطر على التشيك والسلوفاك وأجزاء من المجر.
ألمانيا وروسيا والنمسا تقاسمت بولندا قبل قرنين
بعد ذلك تقاسمت كل من روسيا وبروسيا وإمبراطورية الهابسبورغ، في القرن الثامن عشر، بولندا (الكومنولث البولندي الليتواني) التي كانت دولة أوروبية كبرى في يوم من الأيام، احتلت في ذورة قوتها موسكو نفسها.
ورغم بعض القلق من قِبل "بروسيا " أكبر الدويلات الألمانية وإمبراطورية الهابسبورغ، من صعود روسيا العملاقة بوجهها شبه الآسيوي، فإن الواقع أنه حتى القرن العشرين كانت الصراعات بين ألمانيا والنمسا وبين روسيا محدودة، بل العكس كان حكام روسيا دوماً على انغلاقهم، معجبين بالثقافة الألمانية ويتطلعون إليها لتطوير بلادهم، مثل مؤسس روسيا الحديثة بطرس الأكبر.
بل إن أعظم أباطرة روسيا- وهي الإمبراطورة كاثرين- ذات أصول ألمانية، وهي التي وسَّعت الإمبراطورية الروسية لذورة مساحتها، وكانت تشجع المهاجرين الألمان على الاستيطان في أراضي روسيا الشاسعة، وكانت تسعى لأن تكون موسكو وريثة الإمبراطورية البيزنطية الأرثوذكسية اليونانية الثقافة باستخدام أدوات الحضارة الألمانية.
في المقابل، كان أعداء روسيا الأساسيين: السويد التي تمنع عنها الوصول لبحر البلطيق، وبولندا التي تسيطر على أراضي أوكرانيا الخصبة، والدولة العثمانية التي تحكم القسطنطينية معقل الأرثوذكسية السابق ومفتاح مضيقي الدردنيل والبوسفور الذين يصلان روسيا بمياه المتوسط الدفيئة.
وفي سبيل عدائها مع العثمانيين دعمت موسكو دوماً ثورات الشعوب الأرثوذكسية الخاضعة للحكم العثماني مثل رومانيا، وبلغاريا وصربيا، وغيرها من دول البلقان، وأغلب هذه الدول نشأت عبر ثورات ضد الحكم العثماني، تغلَّب عليها العثمانيون، ولكن سرعان ما كانت تتقدم الجيوش الروسية لتحارب الإمبراطورية العثمانية التي كانت أحوالها تتدهور، فتتدخل الدول الأوروبية الكبرى لمنع انهيار الدولة العثمانية أمام الدب الروسي، وفي الوقت ذاته فإن هذه الدول كانت تؤيد استقلال شعوب البلقان المسيحية عن الدولة العثمانية الإسلامية، فتضطر الأخيرة إلى السماح لهذه الشعوب بحكم ذاتي سرعان ما يتحول إلى دول مستقلة، وبذلك يتحقق للغرب استقلال المنطقة دون خضوعها للسيطرة الروسية.
خلق هذا الواقع الجغرافي والديناميكية التاريخية مواقف مختلفة من روسيا في أوروبا، هناك حلقة من الدول التي ترى في روسيا الخطر الأكبر، وهي دول البطليق الثلاث، وبولندا وأوكرانيا، إضافة إلى فنلندا والسويد، بينما دول جنوب شرقي أوروبا مثل بلغاريا وصربيا واليونان وبصورة أقلَّ رومانيا، ترى في روسيا حليفاً ضد العثمانيين.
في المقابل، كانت ألمانيا والنمسا تريان في روسيا منافساً، وكانت ألمانيا- خاصة بعد وحدتها عام 1870- ترى في تركيا حليفاً، بينما النمسا كانت تراها منافساً حتى لو تحالفتا في الحرب العالمية الأولى تحت المظلة الألمانية.
ولكن النمسا، التي هي أحد معاقل اليمين المحافظ والمتطرف حالياً في أوروبا، يركز ساستها الآن على المنافسة مع تركيا، وكانوا حتى الغزو الروسي لأوكرانيا يتجاهلون الخطر الروسي تماماً، ومازال موقف النمسا من روسيا ضعيفاً.
والواقع أن كثيراً من ساستها، كانوا معجبين ببوتين أحياناً، حتى حتى إن بعض مسؤوليها طالبوا بإنهاء العقوبات الأوروبية على الاتحاد الروسي التي فرضت بعد ضم القرم عام 2014، بل وصل الأمر إلى أن وزيرة الخارجية النمساوية السابقة، كارين كنايسل، رقصت في عرسها مع بوتين، في وقت كانت بلادها تترأس الاتحاد الأوروبي، مما أثار انتقادات حادة لها آنذاك.
ما السر في التغاضي الألماني عن الخطر الروسي؟
ولكن الغريب ليس موقف النمسا المسكونة بالهواجس التاريخية من الأتراك الذين حاصروا عاصمتها فيينا مرتين، بل موقف ألمانيا التي خاضت حربين دمويتين مع روسيا هما الحرب العالمية الأولى والثانية، وفي الأخيرة، وقعت بين البلدين أكبر معارك عرفها التاريخ.
ويمكن تفسير ذلك- إضافة إلى العوامل الاقتصادية السابق ذكرها- بعوامل أخرى، منها أن اليمين المحافظ والمتطرف في ألمانيا كان مُعجباً ببوتين باعتباره زعيماً مسيحياً أبيض، في وقت تتركز فيها المشاعر السلبية لهذا اليمين (بطيفيه المحافظ والمتطرف) تجاه المسلمين لاسيما الأتراك، حيث يغضب اليمين الألماني من اعتزاز المهاجرين منهم بهويتهم داخل ألمانيا وسياسات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الاستقلالية، وهو موقف مشابه لليمين الفرنسي وتوجهات الرئيس ماكرون الذي كان يفضّل التقليل من الخطر الروسي الواضح على أوروبا وتحويل دفة العداء تجاه الإسلام أو الإسلام السياسي وتركيا، التي هي في النهاية دولة تتطلع إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي، ولكن تريد معاملتها بنديَّة وليس كتابع خاضع للوصاية.
وإضافة إلى ذلك فإن أحزاب اليسار والخضر والليبراليين في ألمانيا كانت تبدو متمسكة، بطريقة راديكالية، بفكرة سلمية السياسة الألمانية حتى إنهم لم يخجلوا من التحدث عن إرسالهم معونات طبية إلى أوكرانيا قبيل الغزو الروسي لأوكرانيا مباشرة، حينما كان بوتين يحشد عشرات الآلاف من الجنود على حدودها.
كما أن اليسار والليبراليين في ألمانيا خلقا حالة من العداء المفتعل ضد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان؛ لرفضه الوصاية الأوروبية على بلاده وسياسته المحافظة اجتماعياً، في ظل الليبرالية المتطرفة التي تتصاعد في ألمانيا والتي لم تعد تتسامح مع أية أفكار رافضة للتحرر في قضايا مثل الشذوذ وغيرها، والنتيجة أن هذا اليسار قد لا يكون معجباً ببوتين كاليمين الألماني، ولكن الأغرب أنه يساوي بين أردوغان، الرئيس الذي قد يكون قوياً ولكنه في النهاية رئيس منتخب فقد حزبه، وهو في ذروة قوته، العاصمة أنقرة وأكبر مدن بلاده إسطنبول، وبوتين الذي يفاخر بالعداء للديمقراطية والسخرية منها.
كما أن ألمانيا لا تشعر بخطر داهم من روسيا، فهي تتعامل مع دول شرق أوروبا مثل أوكرانيا وبولندا ودول البلطيق كمنطقة عازلة تفصلها عن الدب الروسي، إضافة إلى أن تكلفة مزيد من الانخراط في التوتر مع روسيا تعني زيادة الميزانية الدفاعية لألمانيا، وهو ما قد يهدد الرخاء الاقتصادي الاستثنائي الذي تتمتع به البلاد حالياً.
وتظهر محاولة بعض الألمان في افتعال أزمات بعيدة عن الخطر الحقيقي الذي تتعرض له أوروبا وبلادهم وهو روسيا، في اختلاق مشكلة الشعارات المتعاطفة مع المثلية في مونديال قطر، رغم أنهم لم يحاولوا أن يفعلوا ذلك في مونديال روسيا في 2018، والذي أقيم بعد أربع سنوات فقط من ضم روسيا للقرم.
وتأتي أزمة مونديال قطر، في وقت لجأت فيه برلين للدوحة لشراء الغاز المسال بدلاً من الغاز الروسي.
سياسات أوروبا الغربية دفعت تركيا نحو موسكو
نتيجة هذه السياسات التي قادتها ألمانيا وفرنسا وبصورة أقلَّ النمسا وهولندا، فإن الاتحاد الأوروبي كان رد فعله ضعيفاً تجاه ضم روسيا للقرم عام 2014.
في المقابل زادت الشُّقة بين الاتحاد الأوروبي والناتو من جهة وتركيا من جهة أخرى، خاصة بعد تخلي الناتو عن دعم أنقرة عندما أرسلت روسيا قواتها إلى سوريا وتوغلت طائراتها في الأجواء التركية؛ بل سحبت الدول الرئيسية في الناتو أنظمة باتريوت التي كانت تحمي الأجواء التركية، ووصلت العلاقات بين أنقرة وموسكو إلى ذورة التوتر عندما أسقطت تركيا طائرة روسية اخترقت أجواءها في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، بينما كان الناتو والدول الأوروبية يتعاملون مع الأمر باعتبارهم أطرافاً محايدة.
لم يجعل ما سبق تركيا تتقارب مع روسيا فقط، ليقتسم البلدان النفوذ في ساحات مثل القوقاز وسوريا وليبيا، ولكن أيضاً فوَّتت أوروبا فرصة كبيرة على نفسها لتقوية تركيا باعتبارها منافساً تاريخياً لموسكو، منافساً لديه أسبابه للتصدي للنفوذ الروسي ويمتلك جيشاً قوياً وأيديولوجيا قومية ودينية منافسة لنموذج موسكو، والأهم أنه يمتلك مفاتيح البحر الأسود الذي يمثل أهمية حيوية لموسكو.
دول شرق أوروبا ترى في أنقرة حليفاً طبيعياً
في مقابل هذا التجاهل الأوروبي الغربي للخطر الروسي، وافتعال أزمات أبعدت تركيا، تتعامل دول شرق أوروبا- لاسيما بولندا ودول البطليق- مع الخطط الروسية بقلق شديد، وتسعى بولندا لتقوية قوتها العسكرية، وهي تبحث شراء أسطول من الدبابات الكورية الجنوبية من طراز الفهد الأسود "Black Panther" المتطورة؛ تحسباً لأي غزو روسي لأراضيها السهلية الواسعة.
كما كانت إستونيا ولاتفيا وليتوانيا من أوائل الدولة التي أرسلت أسلحة لدعم أوكرانيا، رغم الضعف الشديد لجيوش هذه البلدان.
يظهر الاختلاف بين دول أوروبا الشرقية والغربية جلياً في الموقف من تركيا، فبينما كانت تتعامل القوى السياسية والإعلامية مع أنقرة أحياناً باعتبارها خصماً، وخاصة قبل أزمة أوكرانيا، فإن دول أوروبا الشرقية تعتبرها حليفاً مرجحاً، وشددت أوكرانيا مراراً على دور تركيا في دعمها؛ بل إنها لم تخجل من الإشارة إلى العلاقة والمسؤولية التركية تجاه تتار القرم المسلمين لأن خانيتهم كانت تابعة للدولة العثمانية.
وهناك تعاون بين البلدين في مجالات عسكرية يصل إلى درجة شراكة استراتيجية، شملت بحث التعاون في مجالات تصنيع صواريخ كروز والسفن الحربية ومحركات الطائرات، وصدرت تركيا طائرات مسيّرة إلى كييف، علماً بأنها تعتمد على محركات أوكرانية لتسيير كثير منها، كما أن هناك حديثاً عن تصنيع مزمع من قِبل أوكرانيا للطائرات التركية المسيرة.
وعلى المنوال نفسه سارت بولندا، وتعاقدت على شراء طائرات مسيَّرة تركية، لتصبح أول عميل من الناتو لها، وتفكر لاتفيا في الاقتداء ببولندا.
ويعتقد الخبير الجيوسياسي البولندي ويتولد ريبيتوفيتش، أن "اللوبي التركي" في بولندا، الذي له تأثير قوي على الحكومة، قرر ضرورة إبرام تحالف بولندي تركي.
ولكن يعتقد بعض المراقبين أن العامل الروسي يستخدم فقط من أنقرة كغطاء، لأن تركيا تنتهج سياستها الخارجية الخاصة، ومع أن تركيا تنافس روسيا في كثير من الأحيان، فإنها لن تدخل في صراع مع روسيا من أجل أوروبا، خاصةً أنها سبق أن جربت النذالة الأوروبية خلال التوتر الروسي-التركي بشأن سوريا، كما أن لديها علاقات اقتصادية قوية مع موسكو.
ما يمكن لتركيا تقديمه لدول أوروبا الشرقية، هو صادرات الأسلحة التركية، وأنقرة تعتبر نفسها في هذا الصدد، تاجر سلاح محترفاً، وأن صادراتها العسكرية لا تعني بالضرورة أي عداء مع موسكو.
وفي الأغلب لن تكون صادرات الأسلحة التركية مقابل أموال فقط، بل قد تحتاج أنقرة إلى مقابل من صادرات تكنولوجية من هذه البلدان مثلما تفعل مع أوكرانيا.
ولكن أكثر ما يمكن أن تقدمه أنقرة لدول أوروبا الشرقية في صراعها مع روسيا، هو دور الوساطة التي عرضتها أنقرة بالفعل على أوكرانيا وروسيا، وهي وساطة قد تكون فعالة بالنظر إلى خبرة تركيا في التفاهم والتنسيق مع موسكو في ظروف قد تكون أسوأ من الأزمة الأوكرانية.
فهي تفاهمات كانت تتم وجيشا البلدين يقفان على خطوط النار المتبادلة مثلما حدث في إدلب عام 2020، حينما توصل بوتين وأردوغان إلى تفاهم صعب، بينما كان الجيش التركي يحارب جيش النظام السوري المدعوم من الجيش الروسي بشكل مباشر، حتى أن الطائرات الروسية كانت تحلق في سماء المعركة.
أوروبا الشرقية تحتاج إلى استراتيجية ذاتية
لكن أهم ما تحتاجه دول أوروبا الشرقية هو صياغة استراتيجيات وطنية وإقليمية أمنية، تراعي احتياجاتها الواقعية وتعتمد على الذات بشكل كبير، ولا تعول كثيراً على الاتحاد الأوروبي، الذي يبدو أن قادته في باريس وبرلين وبروكسل مشغلون بأسعار الطاقة والأسهم أكثر من احتمال اجتياح روسي قد يستهدف أجزاء من أوروبا الشرقية قد لا تقتصر على أوكرانيا.
وعلى دول أوروبا الشرقية أن تعترف بأن الاتحاد الأوروبي يتعامل معها كأعضاء من الدرجة الثانية، ومن ثم فإن مخاوفها الأمنية ليست أولوية، كما أن حماسة إدارة بايدن للتصدي للغزو الروسي لأوكرانيا قد لا تستمر، لأن هذه الإدارة جاءت بملف له الأولوية وهو الخطر الصيني، كما أن الاتجاهات الانعزالية للشعب الأمريكي قد تفت في حماسة واشنطن في الاستمرار في جهودها للتصدي للخطر الروسي.
وإذا كانت ألمانيا التي تقبع على بُعد بضع مئات من الأميال من روسيا، لا يبدو أنها تأبه كثيراً للخطر الروسي، فهل مطلوب من الأمريكيين الذي يوجدون على بُعد عشرات الآلاف من الكيلومترات من روسيا ومحميّون بمحيطين وترسانة تقليدية ونووية جبارة، أن يكونوا أوروبيين أكثر من الأوروبيين أنفسهم.