لُقِّبت مديرة ديوان رئيس الجمهورية التونسي، نادية عكاشة، بـ"المرأة الحديدية" و"حاكمة قرطاج" الثانية و"خزينة أسرار الرئيس"، قبل أن تفاجئ الجميع مساء يوم أمس عند تقديم استقالتها من مهامها في قصر قرطاج، بعد سنتين من العمل إلى جانب الرئيس قيس سعيد، وذلك لـ"وجود اختلافات جوهرية في وجهات النظر المتعلقة بالمصلحة العليا للوطن"، بحسب ما جاء في تدوينة الاستقالة على صفحتها بموقع فيسبوك.
عكاشة وإن قدمت سبب استقالتها فإن صياغته جاءت عامّة وربما فضفاضة، ولم توضح حقيقة الأسباب بشكل جلي، ولم تبيّن ملابسات الاستقالة والظروف التي حفت بها، ومن المتسببون فيها والمسائل الحقيقية التي حصل حولها خلاف ودفعها للاستقالة في النهاية.
الغموض الذي حفّ باستقالة عكاشة دفع بالعديد من الملاحظين والسياسيين والناشطين إلى تأويل هذه الخطوة، بحسب ما هو متوفر من معطيات ومعلومات تخرج أو تسرب أحياناً من القصر، وأحياناً أخرى من الأجنحة والشقوق التي تقف وراء الرئيس وتدعمه.
وقد تعرضت مديرة ديوان الرئيس المستقيلة للكثير من الانتقادات، في الأشهر الستة الأخيرة، من قبل المعارضة البرلمانية والمستقلين على حد سواء، على اعتبار أنها من بين مهندسي ما يُعرف بـ"الانقلاب الدستوري" للرئيس، عبر تأويل الفصل 80 من الدستور لخدمة مخططهم والإطاحة بحكومة المشيشي وتجميد البرلمان.
ويرى مراقبون للشأن السياسي التونسي أن نادية عكاشة ساهمت في إضافة الغموض واللبس على نشاطات الرئيس قيس سعيد، وعطلت أية استراتيجية اتصال مع الرأي العام أو مكونات المجتمع المدني، وهو ما دفع رفيقة الرئيس في حملته التفسيرية وزميلته في المجال الأكاديمي، رشيدة النيفر، التي كانت مكلفة من قبل بالاتصال والإعلام في رئاسة الجمهورية، للاستقالة.
هذا وسبق أن وجّه زملاؤها بالفريق الرئاسي من مستشاري الرئيس السابقين انتقادات جديّة، متهمين إياها بأنها وراء استقالة عدة شخصيات في القصر بسبب تعاظم نفوذها وارتباطها بجهات أجنبية، حيث سبق أن نبّهت المستشارة السابقة رشيدة النيفر لوجود اختراق أجنبي لقصر قرطاج، في إحالة على الارتباطات المريبة لنادية عكاشة مع جهات خارجية، خصوصاً أن من بين مهامها استقبال الوفود الدبلوماسية الأجنبية وإجراء المباحثات والمفاوضات معهم.
ومن بين المآخذ الأخرى على مستشارة الرئيس المستقيلة شبكة النفوذ القوية التي صنعتها داخل القصر وحوله من أكاديميين أمثال أمين محفوظ، أستاذ القانون الدستوري المقرب من الرئيس، ومدونين وإعلاميين وناشطين في المجتمع المدني، حيث وظفتهم عكاشة في تبرير سياسيات الرئيس منذ بداية "الانقلاب" ومهاجمة خصومه من معارضة برلمانية أو سياسيين ونشطاء مستقلين، لتتحول مؤخراً قائمة أهدافها وتتركز خصوصاً على زميلها في منظومة الحكم ما بعد 25 يوليو/تموز، وخصمها اللدود داخل قصر قرطاج، وهو وزير الداخلية توفيق شرف الدين.
خلاف عميق يشق القصر
العديد من التقارير الإعلامية تؤكد أن حديث نادية عكاشة في نص استقالتها عن "وجود اختلافات جوهرية في تشخيص المصلحة العليا للوطن" ما هو إلا الشجرة التي تخفي غابة من الخلافات بين أجنحة الحكم داخل قصر قرطاج.
وإن كان الخلاف بين جناحي الحكم والنفوذ داخل قرطاج: شق توفيق شرف الدين وزير الداخلية الحالي من جهة، وشق نادية عكاشة من جهة أخرى باهتاً وغير طاف على السطح في البداية، إلا أن مسك شرف الدين بوزارة الداخلية للمرة الثانية وتمتعه بصلاحيات ونفوذ واسع مقارنة بتقلده الوزارة في حكومة رئيس الوزراء المقال هشام المشيشي جعله هو الآخر يبني شبكة علاقات قوية مع عائلة الرئيس (أخوه، وشقيقة زوجته…) ومجموعات نفوذ جهوية، خصوصاً أنه ينحدر من جهة الساحل، معقل السلطة والنفوذ السياسي تاريخياً، سواء مع الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة أو مع الرئيس المخلوع بن علي.
وترى مصادر متفرقة أن شبكة العلاقات السياسية والنفوذ الأمني والجهوي اللذين حظي بهما توفيق شرف الدين جعلاه ومن معه يفرضون رؤيتهما لمسارات الأحداث على الرئيس، أو أن الرئيس اقتنع بوجهة نظرهم أكثر من وجهة نظر مستشارته وكاتمة أسراره نادية عكاشة، وهو ما عمّم الخلاف بين الطرفين.
من جانبه، قال الناشط السياسي في حراك "تونسيون من أجل الديمقراطية"، عبد اللطيف المكي، أن هنالك لوبيات دفعت رئيسة الديوان الرئاسي نادية عكاشة إلى الاستقالة أمس الثلاثاء، وهذه اللوبيات تغلغلت في وزارة الداخلية و في الإعلام"، على حد قوله.
كما لفت المكي إلى قيام هذه اللوبيات بالتخفي وراء رئيس الجمهورية قيس سعيد، من أجل تنفيذ أجنداتها الخاصة، ومن بينها وضع خصومها في الإقامة الجبرية، وقال "هذه اللوبيات أرادت وضع رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي في الإقامة الجبرية، لكن رئيس الجمهورية اعترض على ذلك".
السفير الأمريكي السابق في تونس، جوردان غراي، علّق على استقالة عكاشة بالقول "هنالك تطورات مثيرة للانتباه تحصل في تونس"، ليضيف في تغريدة على تويتر أن "مصدراً سياسياً قال إن عكاشة لم تكن موافقة على دعم سعيّد لقرار وزير الداخلية لإجبار سته مسؤولين أمنيين رفيعي المستوى، من بينهم مدير سابق لجهاز الاستعلامات، للتقاعد الوجوبي".
من بين المسؤولين الأمنيين المعنيين بهذا القرار نجد كمال القيزاني، الذي أقيل من منصبه الحالي كسفير فوق العادة بالبحرين، وإحالته إلى التقاعد الوجوبي من منصبه كمسؤول أمني بوزارة الداخلية "رغم الرفض الشديد من نادية عكاشة"، بحسب ملاحظين.
قلق داخل المؤسسة العسكرية
يعتبر الجيش التونسي من أكثر الجيوش العربية مهنية وحياداً عندما يتعلق الأمر بالصراعات السياسية داخل البلاد، لكن عقيدته العسكرية تحتم عليه التدخل عندما تتجاوز الخلافات السياسية الخطوط الحمراء وتهدد استقرار الدولة وتواصلها.
ويرى متابعون أن الخلافات العميقة داخل قصر قرطاج التي انتهت باستقالة مديرة ديوان الرئيس نادية عكاشة، والقرارات التسلطيّة التي لا يتوقف الرئيس قيس سعيد عن إصدارها ومواصلة خرقه للدستور، لن يبقى العسكر متفرجاً أمامها، خصوصاً إثر الملاحظات الدولية الصادرة عن مفوضية حقوق الإنسان التي أعربت عن قلقها من "خنق" المعارضة في تونس، وقبلها مؤسسة فريدوم هاوس التي اعتبرت أن ما "أعلنه قيس سعيّد… يمثل تراجعاً صادماً عن البناء الديمقراطي في تونس". أكثر من ذلك، وضع صندوق النقد الدولي لشروط تعجيزية من أجل منح تونس قرضاً بـ3 مليارات دولار لسد عجز الميزانية ونفس الشيء بالنسبة للاتحاد الأوروبي الذي رفض تمكين تونس من القسط الثاني من القرض بقيمة 300 مليون يورو قبل القيام بالإصلاحات الديمقراطية وعودة البرلمان والمؤسسات الدستورية للعمل.
إلى ذلك، نشرت صحيفة "لا براس" La Presse (صحيفة تونسية فرنكوفونية مملوكة للدولة) مقالاً للجنرال المتقاعد، محمد المدب، تحدث فيه عن "حياد الجيش كشرط أساسي لنجاح التحول الديمقراطي".
وقال الجنرال المتقاعد "يبقى أنّ هذا الانضباط والطاعة (للجيش) يجب أن ينحصر فيما يتطابق مع القانون. فرفض الأمر المخالف للقانون ليس مستهجناً، بل على العكس من واجبنا تشجيعه".
وأوضح أنه "على الفاعلين السياسيين في السلطة أن يوفّروا الشروط الملائمة لبقاء الجيش ضمن أدواره، وفي المكان الذي يعود إليه قانونياً"، مضيفاً أنّ "على السلطة المدنية، في علاقاتها بالجيش، احترام القانون الملزم للجميع بدقّة حتّى لا تخاطر بحالات عصيان عسكري مؤسفة".
تداعيات الاستقالة
ما بعد الاستقالة عكاشة لن يكون كما كان قبلها، إذ من المتوقع أن تحدث تغييرات في منظومة حكم سعيد، حيث ترجّح مصادر مختلفة تداعيات لهذه الاستقالة من الوزن الثقيل، من بينها تغييرات قريبة قد تشهدها حقائب مهمة في الديوان الرئاسي والحكومة، من المرجح أن يكون أغلبهم من شبكة العلاقات التي نسجتها عكاشة عندما كانت في القصر.
غير أن التغييرات في المناصب الإدارية والمناصب لا يعني بالضرورة تغييراً أو انفتاحاً في سياسة الرئيس قيس سعيد، بل إن الأمور يمكن أن تتجه نحو تشدد أكثر في سياسات الرئيس، خصوصاً في علاقته بالمعارضة، وقد رأينا كيف قمع وزير الداخلية توفيق شرف الدين الاحتجاجات الأخيرة التي خرجت في 14 يناير/كانون الثاني بمناسبة ذكرى الثورة.
وترجح مصادر أن يتولى أستاذُ القانون الدستوري أمين محفوظ خلافةَ عكاشة، خصوصاً أنه يعد من أبرز الداعمين لإجراءات الرئيس سعيد.
ويعتبر محفوظ من الشخصيات التي تحظى بثقة قيس سعيّد، إذ جرت العادة أن يستقبله بالقصر لمناقشة ما اعتبره الرئيس حلولاً قانونية للخروج من الأزمة التي تعيشها البلاد.
ما بعد الاستقالة لن تكون مرحلة هادئة أو باردة بالنسبة لعكاشة بسبب عدد القضايا التي تلاحقها أمام العدالة، ولم يصدر في شأنها أحكام بعد. كما أن شبكة العلاقات التي بنتها خلال فترة عملها في قصر قرطاج لن تختفي مثلما سيختفي دورها في القصر بعد الاستقالة، لكن من غير المعلوم حتى الآن في أي اتجاه ستوجهها.