تمثل دعوة رئيس مجلس النواب في ليبيا عقيلة صالح، لتشكيل لجنة صياغة مسودة دستور، بدل الذي أعدته "لجنة الستين" المنتخبة في 2017، مشروع نفق سياسي جديد، من شأنه تأجيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لأشهر طويلة.
وفي تصريح له بجلسة لمجلس النواب، الإثنين، شدد عقيلة على ضرورة العمل على "تشكيل لجنة من 30 شخصاً من المفكرين لصياغة دستور توافقي، بدلاً من المضي في دستور مرفوض من شرائح عديدة".
ففي فبراير/شباط 2014، انتخب الليبيون 60 عضواً في هيئة تأسيسية لصياغة الدستور، لقبت بـ"لجنة الستين"، وفي يوليو/تموز 2017، اعتمدت اللجنة بأغلبية الثلثين مشروع الدستور.
وبدل إصدار مجلس النواب لقانون الاستفتاء وإحالته إلى المفوضية العليا للانتخابات، لبدء إجراءات التحضير للاستفتاء على الدستور، سعى لعرقلة الاستفتاء بكل السبل.
ومن بين تلك العراقيل إصدار قانون الاستفتاء بشكل تخالف بعض مضامينه مشروع الدستور، بل اشتراط حصول الدستور على أغلبية 50 بالمئة +1 في كل إقليم من الأقاليم الثلاثة (طرابلس وبرقة وفزان)، وإلا فلن يتم اعتماده.
كما اعترض مكونا التبو والأمازيغ، اللذان يمثلان أقلية في البلاد، على مشروع الدستور لعدم تضمنه مطالبهما اللغوية والثقافية، بالإضافة إلى اعتراضات فنية أثارها بعض خبراء القانون الدستوري.
لكن السبب الحقيقي لعدم عرض مشروع الدستور على الاستفتاء الشعبي، اعتراض اللواء المتقاعد خليفة حفتر، على مضمونه، لأنه لا يتيح له الترشح للرئاسة بسبب جنسيته الأمريكية وخلفيته العسكرية.
مزيد من التأزم
الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور ردت على دعوة عقيلة بتشكيل لجنة جديدة لصياغة الدستور، بالتحذير من أن ذلك سيجر البلاد إلى "مزيد من التأزم".
إذ تشكل دعوة عقيلة انقلاباً على هيئة دستورية منتخبة أنجزت مهمتها، وتنتظر ثمار أكثر من 3 أعوام من العمل في ظروف صعبة.
فمجلس النواب، الذي عرقل عرض مشروع الدستور على الاستفتاء، إلا عبر قانون يُمهد لرفض مشروع الدستور حتى ولو صوّت عليه ثلثا الناخبين، إذا ما اعترض عليه ناخبو برقة أو فزان مثلاً، وذلك ما رفضه المجلس الأعلى للدولة (نيابي استشاري).
ورغم إصرار مجلس الدولة على تنظيم الاستفتاء على الدستور أولاً، قبل الذهاب إلى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، إلا أن مجلس النواب واصل عرقلة عرض الاستفتاء على الدستور.
حتى بعد تشكيل اللجنة الدستورية (10+10) من أعضاء مجلسي النواب والدولة، واجتماعها عدة مرات بمدينة الغردقة المصرية ما بين سبتمبر/أيلول 2020 وسبتمبر/أيلول 2021، والاتفاق المبدئي على عرض مشروع الدستور على الاستفتاء، إلا أن ذلك لم يتحقق، ولو باعتماده كقاعدة دستورية حتى لا تؤجل الانتخابات.
إذ سعى عقيلة ومن ورائه حفتر، لعرقلة إجراء الاستفتاء على مشروع الدستور بكل السبل الممكنة، ما أوصل البعثة الأممية إلى قناعة باستحالة إجراء الاستفتاء دون أن يؤثر ذلك على تنظيم الانتخابات في 24 ديسمبر/كانون الأول 2021.
فلجأت البعثة الأممية إلى ملتقى الحوار السياسي (لجنة الـ75) لتولي مهمة إعداد قاعدة دستورية على أساسها يتم إجراء الانتخابات.
إلا أن لجنة الـ75 أخفقت في إعداد قاعدة دستورية، في 2 يوليو/تموز 2021، بجنيف، ودخلت في متاهات متشابكة.
وحمّلت الولايات المتحدة، ضمنياً، المجلس الأعلى للدولة، سبب إخفاق ملتقى الحوار في إعداد القاعدة الدستورية، بسبب إصراره على الاستفتاء على الدستور أولاً، رغم اعتراض معسكر حفتر الشديد عليه.
فدعمت واشنطن وحلفاؤها الغربيون مجلس النواب للإشراف على تحضير الانتخابات منفرداً، مع تهميش أي دور للمجلس الأعلى للدولة، فأصدر قوانين الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بشكل معيب، وغير دستوري (عدم عرضها لمصادقة النواب أو عدم حصول الجلسة على النصاب القانوني).
كما لم يتم إصدار أي قاعة دستورية، ناهيك عن الاستفتاء على الدستور، وانتهت مغامرة "انتخابات بأي ثمن" بفشل مريع، وخيبة أمل كبيرة.
أشهر أم سنوات؟
تعيين لجنة من 30 متخصصاً، بدلاً من هيئة منتخبة من 60 عضواً، من شأنه هدم مسار استغرق أكثر من 8 أعوام، وليس معروفاً كم سيستغرق إنهاء اللجنة المقترحة لمسودة الدستور.. أشهراً أم سنوات.
فلجنة الستين منحت عاماً لإنجاز مشروع الدستور، لكنها لم تستكمله إلا بعد مرور نحو 3 أعوام ونصف، وإلى اليوم لم يتم الاستفتاء عليه.
ما يعزز الاعتقاد أن لجنة الثلاثين المقترحة قد تستغرق هي الأخرى سنوات لإعداد مسودة الدستور، حتى ولو منحت مهلة أسابيع أو أشهر لإنجازها.
فاختيار الأعضاء الثلاثين لإعداد مسودة الدستور يحتاج موافقة المجلس الأعلى للدولة، وهذا بحد ذاته يستغرق وقتاً، فلحد الآن لم يتم تنفيذ الاتفاق على تقسيم المناصب السيادية السبعة، رغم أشهر طويلة من المفاوضات، فما بالك بثلاثين عضواً سيكون دورهم حاسماً في تحديد طبيعة النظام السياسي للبلاد.
كما أن فشل لجنة الـ75 في إعداد قاعدة دستورية (مستعجلة) فقط لإجراء الانتخابات وصلت إلى طريق مسدود، وليس هناك أي ضمانات بأن لجنة الثلاثين المقترحة لن تشهد نفس المصير.
وحتى إذا تم التوافق حول تشكيلتها، فإنها مجبرة على تقديم مسودتها لمجلس النواب لتعديلها والمصادقة عليها، مع استشارة مجلس الدولة، فاللجنة المعينة ليس لها نفس الصلاحيات مقارنة بهيئة دستورية منتخبة (لجنة الستين).
فالطريقة التي أصدرت بها رئاسة مجلس النواب لقوانين الانتخابات دون احترام الحد الأدنى من الإجراء الدستورية والنظام الداخلي للبرلمان والاتفاق السياسي، تجدد القلق لدى الليبيين من احتمال التلاعب بمشروع الدستور المقبل، بما يتوافق مع أهواء أفراد بعينهم أو لإقصاء أشخاص معينين، بما لا يتوافق مع روح أي دستور يفترض أن يفصل على مقاس أي شخص.
إذ يسود الاعتقاد في البلاد أن مجلس النواب يسعى إلى تمديد ولايته لأطول فترة ممكنة، من خلال اختلاق قضايا هامشية، بدل التركيز على إجراء الانتخابات في أقرب وقت ممكن.
إذ لم تحدد بعد لجنة إعداد خارطة الطريق البرلمانية، موعداً للانتخابات، بعد فشل إجرائها في 24 ديسمبر/كانون الأول الماضي، واستحالة إجرائها الإثنين المقبل، كما اقترحت مفوضية الانتخابات.
وبينما تدعو البعثة الأممية إلى إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بشكل متزامن قبل انتهاء المرحلة الانتقالية في يونيو/حزيران المقبل، تقول مفوضية الانتخابات إنها تحتاج ما بين 6 إلى 8 أشهر لإجراء الانتخابات.
فيما منح رئيس مجلس النواب، لجنة إعداد خارطة الطريق مهلة إلى غاية يناير/كانون الثاني الجاري، لتحديد موعد نهائي لإجراء الانتخابات.
ما يعني أن المسار الذي تم التحضير له في 2021، من ترشيحات وطعون، هُدِم بالكامل، وأن مسار الانتخابات عاد إلى نقطة الصفر.
وبالحديث عن لجنة جديدة لإعداد مسودة الدستور، وخارطة طريق تتضمن "تقديم تصور متكامل عن السلطة التنفيذية وتشكيل الحكومة"، بحسب عقيلة، تمهيداً للتخلص من عبد الحميد الدبيبة، من رئاسة حكومة الوحدة، فإننا أمام مزيد من هدر الوقت، وإجراء الانتخابات لن يكون قريباً.