تحولت السيارات في الجزائر إلى سلعة نادرة، وذلك بعد سنوات من محاولة البلاد إطلاق صناعة سيارات محلية.
فصالة عرض شركة تصنيع السيارات الكورية Kia Motors في بلدة الخروبة، وهي منطقة في الضواحي الداخلية للجزائر العاصمة، صارت الآن حظيرة مهجورة بنوافذ كبيرة مغطاة بطبقات سميكة من الغبار، ومحتويات الداخل مقلوبة.
كان الوكيل، الذي يقع في مكان استراتيجي عند تقاطع العديد من الشرايين الرئيسية داخل وخارج شرق البلاد، معرضاً لصناعة السيارات في الجزائر، حتى منتصف العقد الماضي.
واليوم أصبحت صالات العرض التي تمتد لمئات الأمتار شبه مهجورة، باستثناء حفنة من الموظفين الذين يعملون على صيانة قليل من السيارات التي ترد إليها، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
ولسنوات عديدة عملت هذه الشركة باسم Elsecom، على تسويق العلامات التجارية الأجنبية مثل Kia وSuzuki وIsuzu وFord، لكن في عام 2015 سُحِبَت الرخصة التي كانت تسمح للمالك عبد الحميد الشايبو بالعمل.
الهدف كان بناء صناعة سيارات في الجزائر
قال عبد الحميد الشايبو: "كان عليّ الاستغناء عن أكثر من 1000 موظف. أعمالي كانت شبه منعدمة منذ عام 2015″، وذلك أمام محكمة العدل الجزائرية، في 28 نوفمبر/تشرين الثاني، ضمن محاكمة تتعلق بمسؤولين سابقين من عهد الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة، التي كان الشايبو شاهداً فيها.
وبعد عام 2015، مُنِحَت تراخيص جميع العلامات التجارية التي كان الشايبو وكيلها لمصنّعيَن آخرين مصرح لهما بإنشاء مصانع تجميع بهدف تأسيس صناعة سيارات محلية في الجزائر.
ومن عام 2016 فصاعداً انتشرت مصانع تجميع السيارات في الجزائر، ومن خلال الاستفادة من الإعفاءات الضريبية التي تمنحها الدولة على قطع الغيار اللازمة للتجميع توفرت جميع الميزات لمن يديرون هذه الأعمال.
وتحت شعار "صُنع في الجزائر" تأسس أول مصنع بشراكة بين شركة رينو الفرنسية والحكومة الجزائرية، أثمرت في العام 2014 عن إنشاء أول مصنع لإنتاج السيارات بالقرب من وهران (شمال غرب)، ثاني أكبر مدينة في البلاد.
وتبع ذلك إنشاء ورش تجميع أخرى، عندما أجبرت السلطات وكلاء السيارات على إنتاج بعض القطع محلياً من خلال شراكات مع العلامات التجارية الأجنبية.
وبعد رينو الفرنسية، افتتحت هيونداي الكورية الجنوبية وفولكسفاغن الألمانية مصانع في تيارت وغليزان (شمال غرب) في العامين 2016 و2017.
وتحوّل القطاع إلى أولوية بالنسبة للجزائر، التي كانت تسعى لتقليص وارداتها وتنويع اقتصادها في مواجهة تراجع عائدات النفط، الذي يشكل مصدر أكثر من 90% من العملات الأجنبية.
السيارات تأتي جاهزة من الخارج
منحت الحكومة الجزائرية كل التسهيلات لأصحاب المصانع ووفّرت لهم كل المتطلبات فضلاً عن إعفائها من الضرائب مقابل نسبة إدماج لتصنيع بعض القطع مع مرور الوقت وهو ما لم يحدث.
ولكن في ربيع العام 2017، وجد القطاع نفسه في خضم جدل شعبي كبير انتقل إلى الحكومة.
وشجبت السلطات "واردات مقنّعة" لسيارات جاهزة، فأرسلت لجنة تحقيق إلى شركة هيونداي، بعد نشر صور على مواقع التواصل الاجتماعي لنماذج مستوردة لسيارات شبه كاملة، لا ينقصها سوى تركيب العجلات.
وما إن بدأت هذه المصانع في الإنتاج حتى عرفت سوق السيارات فوضى عارمة وغلاء غير مسبوق، فسيارة "سامبول" من ماركة "رونو" التي كانت تُصنع في فرنسا وتنقل إلى الجزائر ويدفع وكيلها ضريبة القيمة المضافة والجمارك كانت تباع سنة 2012 بـ650 ألف دينار، بينما أصبح سعرها سنة 2017 بعدما أصبحت تركب في الجزائر دون دفع الضرائب والجمارك قرابة مليوني دينار.
في نهاية يوليو/تموز 2017، أوقف وزير الصناعة الأسبق محجوب بدة، المسجون الآن لدوره في القضية، أي مشروع جديد لتجميع السيارات.
آلاف المركبات المصنعة محلياً، ولكن الأجزاء المستوردة بلغت رقماً فلكياً
في أقل من عامين أنتجت مصانع السيارات في الجزائر مئات الآلاف من المركبات المُجمّعة. ولكن خلال تلك الفترة بلغ متوسط تكلفة قطع الغيار المستوردة 4.3 مليار دولار سنوياً، وفقاً للمعلومات التي كشف عنها في 20 ديسمبر/كانون الأول وزير الصناعة السابق يوسف يوسفي خلال محاكمة حضرها موقع Middle East Eye.
ويرجع هذا الفشل الذريع بشكل أساسي إلى النظام المعتمد "أس كي دي"، الذي يتمثل في استيراد السيارة في أجزاء مُجمَّعة مسبقاً، يتم تركيبها في الموقع. وفتح ذلك الطريق لتجاوزات مثل الاستيراد "المقنّع" وتحويل غير قانوني للأموال نحو الخارج وتضخيم فواتير استيراد السيارات، ثم سعرها في السوق.
وأمام المحكمة في الجزائر العاصمة، ادعى يوسفي، المتهم بتبديد الأموال العامة ومنح امتيازات غير قانونية، أنَّ نيته كانت استخدام خطوط تجميع السيارات لتكون نقطة انطلاق نحو "تطوير صناعة سيارات كاملة".
بعد الإطاحة ببوتفليقة تم إغلاق مصانع السيارات في الجزائر
ويتعارض هذا الهدف تماماً مع نهج السلطات الحالية.
فلقد أُغلقت مصانع سيارات وسُجن مالكوها وطُرد آلاف العمال منها: تحوّل مشروع بناء مصانع لتجميع السيارات في الجزائر، الذي كان يفترض أن يصبح فخر الاقتصاد الجزائري، إلى إخفاق تام، ما أجبر السلطات على إعادة النظر في المشروع برمته، حسبما ورد في تقرير لموقع "فرانس 24".
وجاء الإغلاق المأساوي لمصانع التجميع هذه في عام 2019 في أعقاب الموجة الأولى من المظاهرات التي أطاحت في نهاية المطاف ببوتفليقة، الذي جاء التمويل الأكبر لحملته الانتخابية من مصنّعي السيارات هؤلاء.
وبسبب التجاوزات والاختلاسات والفساد، انهار مشروع إنتاج سيارات بوسم "صُنع في الجزائر"، الذي بدأ في العام 2012، بشراكة بين شركة رينو الفرنسية والحكومة الجزائرية أثمرت في العام 2014 عن إنشاء أول مصنع لإنتاج السيارات بالقرب من وهران (شمال غرب)، ثاني أكبر مدينة في البلاد.
وبعد استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، في أبريل/نيسان 2019 وإدانة العديد من رؤساء مصانع التجميع بالسجن، وعد الرئيس الجديد عبد المجيد تبون بإصلاح القطاع الذي شابه الفساد.
وغداة انتخابه في ديسمبر/كانون الأول 2019، شجب "بعض المشاريع التي لا يمكن وصفها بصناعة لأنها ببساطة استيراد مقنّع".
ووفق ما صرح به الرئيس عبدالمجيد تبون فإن الجزائر خسرت قرابة 10 مليارات دولار في مشاريع تركيب السيارات دون أن تجني شيئاً، فلا هي اقتطعت ضرائب ولا استطاعت تحقيق نسبة إدماج وتكوين يد عاملة مؤهلة.
وبمجرد وصوله إلى السلطة في ديسمبر/كانون الأول 2019، أوقف الرئيس عبد المجيد تبون هذا النشاط التصنيعي، وفرض حظراً على استيراد السيارات من أجل "الاحتفاظ بالعملة الصعبة داخل البلاد".
ونتيجة لذلك تم حظر استيراد قطع الغيار لمصانع التجميع، كان هذا القرار بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة إلى هذه الصناعة الفتية التي تواجه أصلاً مشاكل كبيرة منذ سجن جميع مُلاكها تقريباً، في إطار تحقيقات أجريت بعد تنحي بوتفليقة.
في ديسمبر/كانون الأول 2019، أوقفت فولكسفاغن إنتاجها إلى أجل غير مسمى بسبب نقص قطع الغيار وتسريح 700 عامل. ثم في مايو/أيار 2020، قامت الشركة الجزائرية التابعة لشركة كيا الكورية الجنوبية بغلق مصنع التجميع، ما أدى إلى طرد 1200 عامل.
لماذا تحولت السيارات إلى سلعة نادرة؟
وفي الوقت ذاته، أوقفت الواردات تقريباً، فمنذ عام 2019 لم يتجاوز حجم استيراد الجزائر من المركبات سوى بضعة آلاف فقط، وهو رقم ضئيل مقارنة بـ450 ألف مركبة في عام 2012.
ورغم أنَّ الحكومات المتعاقبة قد أصدرت منذ عام 2020 العديد من مشروعات القوانين التي تهدف إلى تنظيم القطاع، فإنَّ أنشطة الاستيراد بقيت مجمدة.
في ديسمبر/كانون الأول 2020، بعد عدة أشهر من التردد، أقرّ وزير الصناعة الجزائري في ذلك الوقت، فرحات آيت علي، بأنَّ "الواردات ليست أولوية". ومع ذلك، أعلن أيضاً عن مفاوضات جارية مع كبرى شركات تصنيع السيارات الأوروبية.
ومنذ ذلك الحين ظل السيناريو نفسه عالقاً في حلقة تكرار، تعلن الحكومة عن المواصفات ثم تتخلى عنها بشكل منهجي عند مرحلة ما. وتجنب وزير الصناعة الجديد، أحمد زغدار، الذي تولى منصبه، في يونيو/حزيران من العام الماضي، الموضوع بحذر لعدة أشهر، تاركاً وكلاء السيارات في حالة غموض تامة.
السيارات المستعملة تصل إلى أسعار فلكية
وكان تبون قد أقال وزير الصناعة فرحات آيت علي لفشله في تنظيم سوق السيارات، ورفضه الكشف عن قائمة الوكلاء المعتمدين للرأي العام، وهو ما أثار علامات استفهام وضغوطات كبيرة على الحكومة انتهت بتخلي تبون عن وزيره في التعديل الحكومي السابق.
وانتقد تبون في مجلس الوزراء صراحة الوزير المُقال، مؤكداً أنه "فشل في حل مشكلة تنظيم سوق السيارات"، كما وعد بتدارك الوضع مع الوزير الجديد محمد باشا.
في غضون ذلك، شكَّلت الحكومة لجنة لمعالجة الطلبات المقدمة من الشركات الراغبة في استيراد السيارات.
لكن، مرة أخرى، تستخدم هذه المجموعة من الخبراء والمسؤولين طريقة مضمونة لضمان حدوث تأخيرات لا تنتهي.
ومن الواضح أن الجميع يخشى حسم هذا الملف بعد أن حوكم العديد من المرتبطين به.
وقال الشايبو، لموقع Middle East Eye: "لا يوجد أي طلب مقدم يفي بالمعايير المطلوبة بموجب القانون. قدمت طلباً لتمثيل العلامة التجارية Isuzu، لكن مثل أي شخص آخر لم أسمع أي رد".
ونتيجةً لهذا التضييق على واردات السيارات ازدهرت سوق السيارات المستعملة، والسيارات التي قطعت عشرات الآلاف من الكيلومترات في الساعة تجلب عدة ملايين من الدنانير للقطعة الواحدة.
على سبيل المثال، قد تجلب سيارة داسيا سانديرو إصدار 2018 ما يزيد عن 2.5 مليون دينار (حوالي 17952 دولاراً)؛ ما يجعلها غير ميسورة التكلفة بالنسبة للغالبية العظمى من الجزائريين.
وفي محاولة لخفض الأسعار، سمحت الحكومة الجزائرية -في إطار قانون المالية 2020- باستيراد السيارات المستعملة التي يقل عمرها عن ثلاث سنوات. ولم يكن هذا ممكناً منذ عام 2005.
لكن هنا مرة أخرى تعرضت القواعد للتجاهل، إذ تمكن المحاربون القدامى في حرب الاستقلال الجزائرية، الذين يستفيدون من الإعفاءات الضريبية، وحدهم، من استيراد السيارات فردياً، وأعيد تسويق بعض هذه السيارات بأسعار مرتفعة.
ويُقلِق هذا الوضع، الذي أقل ما يقال عنه إنه متناقض، شركاء الجزائر الأجانب، فالبلد الذي يشكل أحد أسواق السيارات الرئيسية في إفريقيا لا يسمح للسيارات بعبور حدوده.
وتُعقَد مفاوضات في تكتم للخروج من المأزق، وصرّح دبلوماسي أوروبي مقيم في الجزائر لموقع Middle East Eye، شريطة عدم الكشف عن هويته، بأنَّ "السلطات الجزائرية قبلت عودة المُصنّعِين الأوروبيين".
وأضاف: "في البداية تلقينا وعوداً بحدوث ذلك في مارس/آذار 2022، لكن الحكومة الجزائرية طلبت تأخيراً إضافياً لشهر آخر".
أوروبا غاضبة
وأوضح الدبلوماسي أنَّ السلطات الجزائرية لم "تقدم أية مطالب خاصة" بشأن عودة مصنعي السيارات الأجانب.
وكان توماس إيكرت، رئيس وفد الاتحاد الأوروبي إلى الجزائر، قد أكد في مقابلة مع صحيفة Liberte: "بالنسبة للسيارات يجب تسوية الخلاف التجاري في غضون الأشهر الأولى من العام المقبل".
وربما بسبب هذه الضغوط المتزايدة، أعلنت السلطات الجزائرية عن مراجعة أخرى للمواصفات المتعلقة باستيراد السيارات.
في 5 ديسمبر/كانون الأول، أمر الرئيس تبون "بمراجعة فورية" للنصوص القانونية الخاصة باستيراد السيارات.
ومع ذلك، مر أكثر من شهر على هذا الإعلان في مجلس الوزراء، دون أن تصدر الحكومة أية تصريحات حول هذا الموضوع.