جاء إعلان بريطانيا عن تجميد تمويل "بي بي سي" دون زيادة لمدة عامين مع بحث إمكانية وقفها ليثير تساؤلات حول أسباب هذا القرار، وكيف سيؤثر على خدمات هذه المؤسسة الإعلامية العريقة وكيف ستجد "بي بي سي" بدائل لتمويل إنتاجها.
وقالت الحكومة البريطانية، أمس الإثنين 17 يناير/كانون الثاني 2022، إنها ستجمد تمويل هيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي) عند مستواه الحالي البالغ 159 جنيهاً إسترلينياً لمدة عامين، وستناقش ما إذا كان ينبغي استمرار رسوم الترخيص التي تفرضها الدولة على المواطنين للاستفادة من الخدمات الإعلامية للهيئة البريطانية، ما أثار اتهامات للحكومة "بالتخريب الثقافي".
وقالت وزيرة الثقافة البريطانية نادين دوريس، في مجلس العموم الإثنين، إن الحكومة لا يمكنها "تبرير الضغط الإضافي على محافظ الأسر التي تعمل بجد".
وبعد التجميد لمدة عامين، قالت الوزيرة إن الرسوم سترتفع تماشياً مع معدل التضخم للسنوات الأربع التالية حتى عام 2027.
وهناك مؤشرات على تفكير الحكومة في إلغاء رسوم بي بي سي، فلقد اقترحت الوزيرة في تغريدة أمس الأول الأحد أنه سيتم إلغاء رسوم الترخيص بعد ذلك، على الرغم من أنها في اليوم التالي قالت في مجلس العموم إن التمويل المستقبلي للشركة كان قيد المناقشة وستبدأ مراجعة مستقبلها قريباً.
ما هو ترخيص التليفزيون الذي تستفيد منه "بي بي سي"؟
ترخيص التلفزيون هو رسم ثابت تدفعه الأسر البريطانية قدره 159 جنيهاً إسترلينياً سنوياً (53.50 جنيه إسترليني لأجهزة التلفزيون بالأبيض والأسود).
وتزيد تكلفة الترخيص سنوياً حسب معدل التضخم الذي يبلغ حالياً 5.1%، ونتيجة لذلك ارتفعت تكلفة الترخيص من 104 جنيهات إسترلينية في عام 2000 إلى المستوى الحالي، أي بنسبة 50% خلال عشرين عاماً.
الأموال التي يتم جمعها من رسوم الترخيص تدفع مقابل عروض وخدمات بي بي سي – بما في ذلك التلفزيون والراديو وموقع البي بي سي على الإنترنت والبودكاست و iPlayer والتطبيقات.
تم تقديم رسوم الترخيص في عام 1946، عندما كانت بي بي سي هي المزود الوحيد للبث في المملكة المتحدة.
الجميع يجب أن يدفع والسجن عقوبة المتخلفين
بموجب القانون، يتعين على كل أسرة في المملكة المتحدة دفع رسوم الترخيص (مع بعض الإعفاءات مثل كبار السن).
تنطبق القواعد على أي جهاز يتم عرض البرنامج عليه ، بما في ذلك التلفزيون أو الكمبيوتر المكتبي أو الكمبيوتر المحمول أو الهاتف المحمول أو الكمبيوتر اللوحي أو جهاز فك التشفير.
لذلك، على سبيل المثال، شخص ما يشاهد مباراة كرة قدم مباشرة على قناة غير تابعة لـ BBC عبر جهاز كمبيوتر محمول، سيظل بحاجة إلى الدفع.
إذا لم يدفع شخص رسوم الترخيص، فيمكن مقاضاته.
في عام 2019، كان هناك أكثر من 122 ألف دعوى قضائية وأكثر من 114 ألف إدانة بتهمة التهرب من ترخيص التلفزيون، حسبما ورد في تقرير لموقع BBC.
تم جمع ما يقرب من 3.7 مليار جنيه إسترليني من خلال رسوم الترخيص في عام 2019، وهو ما يمثل حوالي 76% من إجمالي دخل بي بي سي البالغ 4.9 مليار جنيه إسترليني.
وجاءت نسبة 25% المتبقية من الأنشطة التجارية وأنشطة أخرى (مثل المنح والإتاوات وإيرادات الإيجارات)، وفقاً لمكتبة مجلس العموم البريطاني.
في مقابل أموال رسوم الترخيص، تلتزم هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) بتوفير خدمة البث العامة.
وفقاً لميثاقها الملكي، فإن هذا يعني أن مهمتها هي "العمل من أجل المصلحة العامة" من خلال توفير محتوى "محايد وعالي الجودة ومميز"، والذي من شأنه "إعلام وتثقيف وترفيه" كل من يدفع رسوم الترخيص.
أسباب هذا القرار ومتى يبدأ تنفيذه؟
تجدر الإشارة إلى أن وجود رسوم الترخيص مضمون حتى 31 ديسمبر/كانون الأول 2027، وفقاً للمرسوم الملكي الساري حالياً.
وقالت الحكومة البريطانية إن تجميد رسوم الترخيص ضروري لمساعدة الناس على التعامل مع ارتفاع تكاليف المعيشة، حيث يتوقع بنك إنجلترا أن يصل التضخم إلى 6% في الربيع ، مع دخول جائحة فيروس كورونا عامها الثالث.
وقالت وزيرة الثقافة البريطانية، نادين دوريس إن الحكومة لا تريد "تدمير المنارة" البريطانية، البالغة من العمر مئة عام، لكن لم يعد ممكناً أن تحصل هيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي) على مزيد من الأموال، بينما تعاني الأسر من ارتفاع الضرائب وفواتير الطاقة، رغم أنها أشارت إلى أنه ليس هناك قرار نهائي.
وأضافت: "يجب على (بي بي سي) دعم الناس في وقت تتعرض فيه مواردهم المالية لضغوط، وأن تحقق الهيئة مدخرات وتستغل الكفاءات، واستخدام المليارات في التمويل العام الذي تتلقاه لتقديمه للمشاهدين والمستمعين والمستخدمين".
وسبق أن تعرضت تراخيص بث التليفزيون التي تمول بي بي سي للنقد منذ عدة سنوات – لعدة أسباب.
منها أنه مبلغ ثابت، مما يعني أن الأسر الأفقر تدفع ما يدفعه الأغنى.
كما تم طرح أسئلة حول ما إذا كان عدم الدفع يمثل مشكلة خطيرة بدرجة كافية لتبرير تهديد شخص ما بالسجن أو سجله الجنائي، حسب ما ورد في تقرير لـ"BBC"
حالياً بي بي سي لم تعد تنافس القنوات التلفزيونية الممولة من الإعلانات فحسب، بل تتنافس أيضاً مع المحتوى عبر الإنترنت مثل YouTube وخدمات الاشتراك مثل Netflix و Now TV.
ولذا يتساءل الكثير من الناس عما إذا كان لا يزال يتعين إجبارهم على الدفع مقابل بي بي سي، عندما تكون خدمة قد لا يستخدمونها بالضرورة.
ويرى البعض أن هذا التطور يعكس الهيمنة المتزايدة لخدمات الاشتراك مثل Netflix و Amazon Prime".
ورغم ذلك تظهر استطلاعات الرأي أن الجمهور البريطاني ينظر بشكل عام إلى "بي بي سي"، وهي المؤسسة التي يطلق عليها البريطانيون لقب "البيب" بشكل إيجابي، حسب ما ورد في تقرير لصحيفة Washington Post الأمريكية.
وفقاً لتقرير لرويترز، تعد بي بي سي نيوز أيضاً من بين العلامات التجارية الإخبارية الخمس الأكثر ثقة في الولايات المتحدة.
لكن استطلاعاً أجري عام 2016 بتمويل من الحكومة أظهر أن حوالي ثلث البريطانيين يؤيدون تخفيض رسوم الترخيص وثلثاً آخر يفضل تجميد الرسوم.
هل القرار عقوبة من الحكومة المحافظة ضد تغطية بي بي سي الليبرالية لانتهاكات جونسون؟
هذه الخطوة أثارت انتقادات على وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام من الفنانين والسياسيين المعارضين.
ولجأ العديد من الفنانين إلى Twitter لدعم هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، التي بالإضافة إلى الأخبار، قامت بإنتاج بعض البرامج التلفزيونية الأكثر شعبية في البلاد.
واتهم أرماندو يانوتشي، المنتج والكاتب الأسكتلندي المعروف بإخراج فيلم 2017 "The Death of Stalin"، الحكومة بالتقليل من "مستوى الدعم والإعجاب والاحترام الذي يكنه الجمهور لبي بي سي".
وقالت لوسي باول، عضو البرلمان عن حزب العمال المعارضة ومسؤولة الشؤون الثقافية بالحزب، أمام البرلمان، إن تجميد التمويل هجوم على واحدة من أكبر المؤسسات في الحياة العامة البريطانية، متهمة دوريس "بالتخريب الثقافي".
قالت ليلى موران، عضو البرلمان عن حزب الديمقراطيين الليبراليين، إن قطع التمويل عن هيئة الإذاعة البريطانية سيهدد خطة "بريطانيا العالمية" الحكومية لزيادة مكانة المملكة المتحدة في العالم بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وألمحت صحيفة Washington Post الأمريكية لوجود علاقة بين توجهات الحكومة البريطانية المحافظة وتفكيرها في إلغاء رسوم "بي بي سي" التي ينظر لها على أنه وسيلة إعلام ليبرالية، قائلة إن الحكومة البريطانية التي يقودها حزب المحافظين تخطط لتجميد مصدر رئيسي للتمويل العام لهيئة الإذاعة البريطانية، أحد أكثر مصادر الأخبار الموثوقة.
ولفتت الصحيفة إلى أن هذه الخطوة تأتي في الوقت الذي تورط رئيس الوزراء بوريس جونسون في فضيحة تتعلق بالكشف عن إقامة حفلات في مقر إقامة رئيس الوزراء بينما كانت البلاد في حالة إغلاق، وهو الأمر الذي دفعه للاعتذار.
وبالفعل، اتهمت لوسي باول وزيرة ثقافة الظل التابعة للمعارضة وزير الثقافة بحكومة جونسون بخلق "إلهاء" من خلال "إيجاد شخص آخر يلقى عليه اللوم في أعقاب الانتقادات لرئيس الوزراء".
واضطرت "بي بي سي" للدفاع عن نفسها ضد بعض السياسيين المحافظين الذين يقولون إن تغطيتها منحازة ضد الحكومة. واتهمت دوريس، وزيرة الثقافة، بي بي سي بالسير وراء القطيع.
وقالت دوريس: "نجري نقاشاً حول كيف يمكن لبي بي سي أن تصبح أكثر تمثيلاً للأشخاص.. الذين يدفعون رسوم الترخيص، وكيف يمكن أن تكون في متناول الأشخاص من جميع الخلفيات، وليس فقط الأشخاص الذين عملت والدتهم وأبوهم هناك، وكيف يمكن أن تصبح، مرة أخرى، منارة للجميع فعلاً".
وتعهدت الحكومة في السابق بالنظر في كيفية إصلاح نموذج تمويل بي بي سي. لكن لجنة برلمانية مكلفة بإعداد تقرير عن خدمة البث العامة قالت العام الماضي إنها لم تجد بدائل قابلة للتطبيق لرسوم الترخيص لتمويل هيئة الإذاعة البريطانية على المدى القصير.
تأثيرات القرار
ذكرت صحيفة The Mail on Sunday البريطانية أن القرار المثير للجدل بتجميد ضريبة الأسرة السنوية التي تمول عمل "بي بي سي" قد يكلف الهيئة ما يصل إلى ملياري جنيه إسترليني (2.7 مليار دولار) على مدى السنوات الست المقبلة.
بينما قال تيم ديفي، مدير عام (BBC)، وريتشارد شارب، رئيس مجلس الإدارة، إن تجميد التمويل سوف تتبعه بالضرورة خيارات أشد صعوبة، من شأنها التأثير على دافعي رسوم الترخيص.
وقال المدير العام لـ"بي بي سي" إنه سيتعين قطع خدمات وعروض "بي بي سي" نتيجة فجوة التمويل الناشئة عن صفقة رسوم الترخيص الأخيرة.
وعندما سئل عما يمكن قطعه، قال: "كل شيء على جدول الأعمال".
فيما قال محللون إن أي تسوية دون معدل التضخم ستتطلب تخفيضات في إنتاج (بي.بي.سي)، الذي يشمل الإذاعة العالمية والوطنية والمحلية ومحتوى عبر الإنترنت وخدمات البث التلفزيوني عند الطلب.
ما هي البدائل لتمويل بي بي سي؟
عرض تقرير لموقع بي بي سي عدة بدائل محتملة لرسوم الترخيص التي تفكر الحكومة في إلغائها، ولكن يبدو أن كل بديل له مشكلاته.
– ضريبة اتصالات قد تؤثر على الإنترنت: يمكن أن يكون البديل ضريبة على اتصالات النطاق العريض تبلغ حوالي 138 جنيهاً إسترلينياً سنوياً، والتي يمكن دفعها من قبل المستهلكين أو من قبل مزودي خدمة الإنترنت، وفقاً لشركة Ampere للتحليلات الإعلامية، ولكن إذا نقل مقدمو خدمة الإنترنت التكلفة إلى المستهلكين، فقد يكون من الصعب على الأسر الفقيرة الوصول إلى الإنترنت.
– منحة حكومية مباشرة ولكنها قد تهدد مصداقيتها: في السويد وكرواتيا وفنلندا، يتم دفع رسوم الخدمة الإذاعية العامة من خلال ضريبة على الدخل، قد يكلف هذا دافعي الضرائب حوالي 116 جنيهاً إسترلينياً سنوياً. ومع ذلك، فإن التمويل المباشر من الحكومة يمكن أن يمنح السياسيين مزيداً من التأثير على تغطية المؤسسة ويقوض حيادية "بي بي سي".
– الإعلانات بديل يتراجع: المملكة المتحدة هي واحدة من عدد قليل من البلدان التي لا يتم فيها دعم رسوم الترخيص من خلال الإعلانات (تشمل البلدان الأخرى الدنمارك والنرويج). ومع ذلك، فقد انخفضت عائدات الإعلانات التلفزيونية لعدة سنوات حتى الآن، ويجب ملاحظة أن مواقع التواصل الاجتماعي تبتلع عالمياً كعكعة الإعلانات.
– خدمة اشتراك على غرار نتفليكس: تم اقتراح أن تتبع BBC مثال Netflix وتغيير خدمة الاشتراك. ومع ذلك، فمن المقدر أنه لتقديم خدماتها الحالية، سيتعين على BBC تسجيل ما يقرب من 24 مليون مستخدم، يدفع كل منهم 13 جنيهاً إسترلينياً شهرياً، وليس من الواضح كيف يمكن وضع خدمات "بي بي سي" في نظام للدفع، أو كيف ستقيد "بي بي سي" الوصول إلى محطاتها الإذاعية للمشتركين الذين لا يدفعون رسوماً.
لماذا لا تلجأ للإعلانات كأغلب وسائل الإعلام في كل العالم؟
حذر المدير العام لبي بي سي تيم ديفي من التحول إلى التمويل عبر الإعلانات، قائلاً إن المجتمع سيفقد شيئاً ثميناً إذا اتبع نموذجاً تجارياً في تمويل "بي بي سي".
وأضاف أن "بي بي سي تخدم كل الشعب البريطاني، ومبدأ الشمولية هو الأساس هنا"، وأردف قائلاً: "يقول الناس هل يمكن أن تكون العملية تجارية؟". بالطبع يمكن أن تكون تجارية، لكنها لن تفعل ما تفعله اليوم.
وقال إن إنتاج "بي بي سي" يحتاج إلى أن يعكس بشكل صحيح جميع المجتمعات التي تخدمها، مشيراً إلى أنه كان من الصعب الحفاظ على سمعة محايدة في عالم يتزايد فيه الاستقطاب.