بالنسبة للعديد من الشركات الغربية، تزداد صعوبة ممارسة الأعمال التجارية في الصين يوماً بعد يوم لأسباب عديدة، حيث تلقت شركات عالمية ومنظمات غير ربحية درساً شاقاً خلال 2021، مفاده أن اتخاذ موقف مناصر "للقيم الديمقراطية" قد يجعلها تدفع الثمن باهظاً بخسائر ضخمة في السوق الصينية.
وتعمد الحكومة الصينية في نمط متكرر إلى تنظيم مقاطعات وطنية تقودها الدولة وإغلاق المواقع الإلكترونية وغيرها من الإجراءات الانتقامية للضغط على الشركات الدولية والمنظمات وإجبارها على تجنب أي تصريحات أو إجراءات تتجاوز الخطوط الحمراء للحزب الشيوعي.
وشددت الحكومة الصينية قيودها القانونية، وأجبرت الشركات على تسليم تقنياتها وبياناتها من أجل مواصلة العمل هناك، وهو ما يهدد أمن المستخدمين وسلامة الأسواق. على إثر ذلك، أعلنت بعض الشركات مثل "لينكد إن" و"ياهو" هذا العام أنها ستغادر السوق الصينية بسبب البيئة التنظيمية الصعبة. ومع ذلك، فقد استسلمت شركات أخرى، وسمحت بالتنازل عن قواعد خاصة بعملهم على نحو لم يكن يُتصوَّر أن يُقدموا عليه في أي سوق أخرى.
لكن يبدو أن ذلك لا يشمل البنوك الغربية
لكن على عكس بعض الشركات العالمية، يبدو أن البنوك الغربية ومديري الأصول على أتم الاستعداد لرفع رهاناتهم على ثاني أكبر اقتصاد في العالم، موقنين بأن الفرص لا تزال أفضل من أن تضيع، كما يقول تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
ووقَّعَت كبرى البنوك في الأسابيع الأخيرة صفقاتٍ لتوسيع وجودها في الصين -أو في محاولةٍ بخلاف ذلك للسيطرة بشكلٍ أكبر على أعمالها هناك- بعد سنواتٍ من إجبارها على دخول السوق من خلال المشاريع المشتركة. هذا على الرغم من العوامل الجيوسياسية المشحونة، والاقتصاد المتباطئ، والبيئة المعادية بشكلٍ متزايد للشركات الخاصة.
في أواخر الشهر الماضي، تلقى بنك HSBC موافقةً من المنظمين الصينيين للسيطرة الكاملة على مشروعه المشترك للتأمين على الحياة، والذي أُنشِئ عام 2009 في شراكةٍ متساويةٍ مع شركةٍ صينية بموجب القواعد التي تم التراجع عنها في عام 2020. وقال البنك إن هذه الخطوة أكَّدَت على "التزامه بتوسيع الأعمال التجارية في الصين".
وتسعى الشركة المصرفية البريطانية العملاقة أيضاً إلى الحصول على حصة أكبر في HSBC Qianhai، مشروعها المشترك للأوراق المالية في الصين، وفقاً لوكالة Reuters البريطانية، التي نقلت عن مصدرٍ مجهول. وامتنع البنك على التعليق الذي طلبته شبكة CNN الأمريكية.
وحتى أكبر البنوك الأمريكية تراهن على الصين
لكن HSBC ليس البنك الوحيد. فالبنوك التي تتصدَّر قائمة وول ستريت، مثل BlackRock و JPMorgan و Goldman Sachs هم بالفعل على بعد خطواتٍ قليلة من هذا الطريق. وذكرت صحيفة China Securities Journal الصينية، الأربعاء 12 يناير/كانون الثاني، أن البنك الألماني أيضاً يريد إنشاء مشروعٍ مشترك لإدارة الثروات في البلاد. وامتنع البنك الألماني عن التعليق.
وقال أليكس كابري، الباحث في مؤسسة هينريش الألمانية: "لا تستطيع المؤسسات المالية الكبرى في العالم مقاومة الحجم الهائل لسوق السندات والأسهم في الصين، تلك السوق غير المستغلَّة فعلياً".
تُعَدُّ الصين ثاني أكبر سوق للأسهم والسندات في العالم. لكنها غير مَستغلَّة إلى حدٍّ كبير من قِبَلِ المستثمرين الأجانب، إذ تمثِّل السندات الدولية حوالي 5% من سوق الأسهم البالغ 14 تريليون دولار، وأقل من 4% من سوق السندات الداخلية البالغة 17 تريليون دولار، وفقاً لبيانات البورصة والبنك المركزي.
بدأ هذا يتغير العام الماضي، بعد أن أصبحت شركة BlackRock -أكبر مديرٍ للأصول في العالم- أول شركة عالمية تحصل على الموافقة على مشروع صندوق استثمارٍ صيني مملوك بالكامل، في يونيو/حزيران الماضي. وبعد شهرين، أطلقت الشركة أول صندوق مشتركٍ لها في البلاد، وسرعان ما جمعت مليار دولار من أكثر من 111 ألف مستثمر.
قال بريندان أهيرن، كبير مسؤولي الاستثمار في شركة KraneShares، وهي شركةٌ لإدارة الأصول تركِّز على الأسهم والسندات الصينية: "تمثل الصين فرصة نموٍ كبيرة لشركات الخدمات المالية العالمية".
وأضاف أن "الأسواق المتقدِّمة مثل الولايات المتحدة وأوروبا تتمتَّع بقدرةٍ تنافسية عالية وناضجة ما أدَّى إلى ضغط الرسوم وتضاؤل الفرص". لكن "أسواق الصين حديثةً نسبياً بالمقارنة".
توسُّع في السوق الصينية رغم الارتياب في المستقبل
تأتي النجاحات الكبيرة لهذه البنوك بعد حوالي عقدين من انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية ووعدها بفتح قطاعها المالي.
وبينما كان التقدُّم بطيئاً لبعض الوقت، أعلنت الدولة في عام 2019 أنها ستزيل الحدود المفروضة على الملكية الأجنبية تماماً للشركات المالية في العام التالي، بعد وقتٍ قصير من موافقة الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على استئناف المحادثات التجارية.
ويأتي الحماس من البنوك العالمية ومديري الأصول مصحوباً بالمخاطر، حيث تتزايد حالة الارتياب بشأن المناخ السياسي والتنظيمي في الصين، فضلاً عن التوتُّرات المتزايدة في بكين مع البلدان الأخرى.
قال كريغ سينغلتون، الباحث المساعد في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات: "هناك شعورٌ واسع النطاق بأن الرئيس شي قد يلطِّف بعضاً من خطاباته الأكثر عدوانية بعد المؤتمر العشرين للحزب هذا العام، بعد أن أكَّدَ موقفه السياسي"، في إشارةٍ إلى التوقُّعات السائدة بأن شي سيستخدم المؤتمر لتدعيم فترة ولاية ثالثة تاريخية في منصبه.
انجرفت العديد من الشركات الغربية في الجدل بشأن الصين مع تفاقم التوتُّرات الجيوسياسية، لا سيَّما بشأن مزاعم انتهاكات حقوق الإنسان في منطقة شينجيانغ، غربيّ البلاد.
"تمكين الصين الشيوعية"
تواجه الشركات الغربية أيضاً ضغوطاً في الداخل. وصف المستثمر الملياردير جورج سوروس استثمار شركة بلاك روك في الصين بأنه "خطأ مأساوي" قد يخسر أموال العملاء ويعرِّض الأمن القومي الأمريكي للخطر. ودعا بعض السياسيين الأمريكيين وول ستريت إلى التوقف عن "تمكين الصين الشيوعية"، واتِّخاذ موقف أكثر صرامة ضد بكين.
استمر الضغط في الأسابيع الأخيرة. ففي الشهر الماضي، ديسمبر/كانون الأول، وقَّعَ الرئيس الأمريكي جو بايدن على قانون الإيغور لمنع العمل القسري، وهو قانونٌ يحظر الواردات من شينجيانغ بسبب مخاوف بشأن العمل القسري. لقد بعث برسالةٍ واضحة مفادها أن إدارته والكونغرس يتطلَّعان إلى زيادة الضغط على بكين.
وقال كابري إن قرار الصين السماح لمزيد من الشركات الأجنبية بالدخول إلى البلاد "يهدف إلى تعزيز الأضرار الجانبية في المجتمع الدولي"، مضيفاً أن السماح للشركات الغربية بالحصول على حصص أكبر في الصين يمنح بكين أيضاً "نفوذاً" على واشنطن وبروكسل.
وقال: "سيؤدِّي ذلك إلى زيادة التوتُّرات بين الشركات المالية الكبرى في الولايات المتحدة وأوروبا، وحكوماتهم". ومع ذلك، يبدو أن إمكانات جني الأموال في الصين تفوق أي مشاكل سياسية.
الدوافع الصينية
وحتى مع إحكام بكين قبضتها على أجزاءٍ من اقتصادها، هناك أسبابٌ تجعل البلاد حريصةً على فتح صناعتها المالية أمام المستثمرين الأجانب.
تريد الحكومة الاستفادة من الخبرة العالمية لأنها تبني صناعة خدماتٍ مالية قوية ومتنوِّعة، وهي بحاجةٍ إليها لإدارة أزمتها الديموغرافية التي تلوح في الأفق. أدَّت الشيخوخة السريعة لدى السكَّان وتقلُّص القوى العاملة إلى زيادة العبء على نظام المعاشات التقاعدية غير الملائم في البلاد، وفَرَضَ ضغطاً هائلاً على الحكومة لتوفير موارد مالية كافية لكبار السن.