تحوَّل معتقل غوانتانامو إلى رمز لعدم احترام الولايات المتحدة أياً من حقوق الإنسان التي تدافع عنها، بشهادة الأمريكيين أنفسهم وليس فقط خصومهم، فلماذا لا تغلق أمريكا السجن سيئ السمعة بعد أن أكمل عقده الثاني؟
كانت طائرة عسكرية أمريكية قد هبطت بقاعدة غوانتانامو التابعة للجيش الأمريكي في كوبا يوم 11 يناير/كانون الثاني عام 2002، وعلى متنها 20 شخصاً تصنفهم المخابرات المركزية الأمريكية بأنهم "إرهابيون"، وهكذا بدأت قصة ذلك المعتقل سيئ السمعة ولاتزال مستمرة حتى اليوم.
الحرب على "الإرهاب"
بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 التي تعرضت لها الولايات المتحدة وتبناها تنظيم القاعدة، أطلقت إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش الابن مصطلح "الحرب على الإرهاب" وغزت أفغانستان ثم العراق في إطار تلك الحرب، كما أنشأت معتقل غوانتانامو، الذي أصبح رمزاً "لإفلات القادة الأمريكيين من العقاب"، بحسب تحليل لموقع Responsible Statecraft في الذكرى العشرين لتأسيس المعتقل سيئ السمعة.
"عندما تتحرك الجيوش، تتراجع الحقائق"، بهذه العبارة وصف محمد ولد صلاحي الموريتاني معتقل غوانتانامو، خلال ندوة عقدها معهد كوينسي الأمريكي في يونيو/حزيران 2021، تحت عنوان "هل يمكن لفيلم مرشح للأوسكار ورئيس جديد أن يغلقا معتقل غوانتانامو أخيراً؟".
محمد ولد صلاحي مهندس موريتاني درس بألمانيا ووجد نفسه معتقلاً في غوانتانامو (أو غيتمو اختصاراً) لمدة 15 عاماً كاملة، دون تهمة أو محاكمة أو حتى دليل واحد على اشتراكه في هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001. نعم، ولد صلاحي مهندس متدين تخرج في هامبورغ بألمانيا، حيث كان يدرس أغلب منفذي تلك الهجمات. ونعم، زار الشاب الموريتاني أفغانستان وتدرب على أيدي المسلحين هناك في أواخر عهد القتال ضد الغزو السوفييتي، لكنه عاد إلى ألمانيا عندما بدأ الاقتتال بين أمراء الحرب الأفغان.
ونعم، اعتكف ولد صلاحي في أحد المساجد التي اعتكف فيها شخص خطط وشارك في التنفيذ لعمل إرهابي بالولايات المتحدة. هذه الشبهات جعلت ولد صلاحي متهماً من جانب إدارة بوش الابن ومخابراتها ووزير الدفاع فيها دونالد رامسفيلد، فتم اعتقاله في موريتانيا وتسليمه إلى الـ"سي آي إيه"، التي قامت بـ"استجوابه" ثم إرساله إلى معتقل غيتمو حيث قضى 15 عاماً تعرَّض خلالها لكافة أنواع التعذيب. وتم إطلاق سراحه بعد أن ثبت عدم علاقته لا بهجمات سبتمبر/أيلول ولا بغيرها، ليتم إنتاج فيلم "الموريتاني" اعتماداً على "يومياته" في المعتقل سيئ السمعة.
قصة المعتقل الأمريكي سيئ السمعة بدأت بتشريع أصدره الكونغرس يسمح بإرسال من تصنفهم المخابرات الأمريكية "مقاتلاً عدواً" إلى غوانتانامو، ليكونوا بعيدين عن الأراضي الأمريكية ولا يخضعون لقوانين المحاكمات المدنية أو حتى العسكرية المطبقة هناك. وكان ذلك في أعقاب تلك الهجمات التي راح ضحيتها نحو 3 آلاف أمريكي، وحظي قرار إدارة بوش بشأن غوانتانامو بتأييد 96% من الأمريكيين وقتها.
عشرون عاماً من انتهاك حقوق الإنسان
التصنيف الذي اعتمدته أمريكا لمن ترسلهم إلى غوانتانامو "مقاتل عدو" يُفترض أن يعني "أسير حرب"؛ وبالتالي تنطبق عليه قوانين معاهدة جنيف لطبيعة المعاملة التي يخضع لها أسرى الحروب، لكن حقيقة الأمر أن ذلك لم يحدث على الإطلاق، حيث تعرض نحو 800 شخص للاحتجاز والتعذيب في سجن عسكري لا يخضع لأية قواعد على الإطلاق، بحسب ما تكشفه أحداث 20 عاماً هي عمر غوانتانامو حتى الآن.
وعلى الرغم من عدم الكشف رسمياً عن عدد الأشخاص الذين فقدوا حياتهم من جرّاء التعرّض للتعذيب، فإن هذا الرقم يُقدَّر بنحو 100 شخصٍ على الأقل. وكان حُراسٌ وسُجناء سابقون في معتقل غوانتانامو قالوا إن الوفيات التي ادّعى الجيش الأمريكي أنها حالات انتحار آنذاك، هي في الواقع جرائم قتل تحت التعذيب، رغم عدم توجيه أي تُهم بالقتل إلى مرتكبي تلك الجرائم، بحسب مئات التحقيقات الاستقصائية التي نشرتها وسائل إعلام أمريكية وغربية خلال عقدين من الزمان.
مع مرور الوقت، وبصفة خاصة بعد غزو العراق عام 2003، بدأ معتقل غوانتانامو يتحول إلى مركز لحالة من الغضب ليس فقط خارج الولايات المتحدة ولكن داخلها أيضاً من جانب المنظمات الحقوقية والمناهضين للحروب والهيمنة العسكرية الأمريكية. وظلت دائرة الرافضين للمعتقل والمطالبين بإغلاقه تتسع لدرجة أنها شملت مايكل لينارت، الجنرال الأمريكي الذي تولى مهمة فتح المعتقل من الأساس.
وخلال ديسمبر/كانون الأول الماضي، قال لينارت للـ"أسوشييتد برس": "بالنسبة لي، وجود غوانتانامو يمثل تناقضاً صارخاً مع كل القيم التي نمثلها، ولهذا لابد من إغلاقه".
وكان أقصى عدد من المعتقلين في غوانتانامو قد وصل إلى أقل من 800 عام 2003، أطلق بوش الابن نفسه سراح أكثر من 500 منهم قبل مغادرته البيت الأبيض مطلع 2009، بينما أطلق باراك أوباما سراح 197 معتقلاً، قبل أن يوقف دونالد ترامب إطلاق سراح المزيد طوال رئاسته، وأعاد جو بايدن عمل اللجنة المكلفة بدراسة ملفات معتقلي غوانتانامو تمهيداً إما لمحاكمتهم وإما لإطلاق سراحهم.
أوباما وعد بإغلاق غوانتانامو، فلم لا يفعلها بايدن؟
في الوقت الذي وصل فيه أوباما إلى البيت الأبيض كانت الأكاذيب التي أدت إلى غزو العراق قد انكشفت وظهرت بعض الفظائع التي تُرتكب بين جدران غوانتانامو، فكان إغلاق المعتقل سيئ السمعة أحد أبرز أضلاع البرنامج الانتخابي لأول رئيس أسود في تاريخ البلاد.
لكن أوباما قضى في البيت الأبيض 8 سنوات فشل خلالها في تنفيذ ذلك الوعد بإغلاق غوانتانامو، والسبب يرجع إلى السطوة الكبيرة التي يتمتع بها البنتاغون وقادة الجيش والاستخبارات، بحسب المنتقدين لاستمرار المعتقل سيئ السمعة.
فعلى الرغم من إصدار أوباما القرار فإنه لم يتم إقراره من الكونغرس، فلجأ الرئيس إلى الإفراج سراً عن المعتقلين الذين وافقت لجنة مراجعة الرئاسة على إطلاق سراحهم. وتهدف تلك اللجنة الرئاسية إلى دراسة ملفات المعتقلين، وأصدرت قرارات إطلاق سراح لنحو مئتي معتقل، مما يعني أنه لم يثبت ارتكابهم جريمة تستحق محاكمتهم من الأساس.
وعندما دخل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض أوقف عمل تلك اللجنة، وكان قد أعلن خلال حملته الانتخابية عام 2016، أنه "سيملأ غوانتانامو مرة أخرى بالأشرار"، لكن حقيقة الأمر هي أن الرئيس السابق تجاهل المعتقل تماماً، باستثناء قراره وقف عمل لجنة المراجعة.
وكان بايدن، الذي كان نائباً لأوباما، قد أعلن خلال حملته الانتخابية، أنه سيغلق غوانتانامو، لكن ها هو العام الأول من رئاسته ينتهي دون أن يفعلها. وترى دافني إيفياتار، المحامية من منظمة العفو الدولية، أن إدار بايدن "لا تتمتع بأي مصداقية حقيقية عندما تدعو الدول الأخرى إلى احترام حقوق الإنسان من دون أن تعطي الأولوية لإغلاق غوانتانامو".
بينما يرى شايانا كاديدال، من مركز الحقوق الدستورية الذي يدافع عن عدد من المعتقلين، أن بايدن يتجنب الخطأ السياسي الذي ارتكبه أوباما والمتمثل بالإعلان علناً عن إغلاق المعتقل، بينما يسمح للجنة المراجعة بتنفيذ المهمة بهدوء، من خلال الإفراج عن باقي المعتقلين.
وكان بايدن بالفعل أعاد عمل لجنة المراجعة، وأعلن البيت الأبيض بالفعل يوم 17 مايو/أيار 2021، عن إطلاق سراح ثلاثة معتقلين، بينهم رجل الأعمال الباكستاني سيف الله باراشا (73 عاماً)، عميد المعتقلين سناً.
مأزق البنتاغون والإدارة
خلال عشرين عاماً، اعتقلت أمريكا نحو 800 رجل مسلم في غوانتانامو، لم يتم إثبات ارتكاب جريمة بالفعل إلا على نحو 10 فقط منهم، علماً بأن هؤلاء كانوا يتعرضون للاستجواب باستخدام "أساليب معززة" من جانب المخابرات الأمريكية في مواقع سرية حول العالم، قبل أن يتم إرسالهم إلى المعتقل سيئ السمعة.
ومصطلح "الأساليب المعززة" للاستجواب يعني استخدام التعذيب بوسائله وأدواته المختلفة، لذلك كان يتم ذلك في "مواقع سرية" خارج الولايات المتحدة، في إطار برنامج "الترحيل"، وهو ضلع آخر من أضلاع "الحرب على الإرهاب" شاركت فيه دول عربية وإسلامية حول العالم.
وكانت المتحدثة باسم البيت الأبيض، جين ساكي، قد أكدت في أبريل/نيسان 2021، أن بايدن "مازال ملتزماً" بإغلاق معتقل غوانتانامو. لكن حتى الآن لايزال 40 رجلاً في المعتقل، كان تسعة منهم قد تم إبلاغهم، العام الماضي، بالفعل بقرب خروجهم.
وينتظر 12 آخرون، بينهم الباكستاني خالد شيخ محمد، المتهم بأنه العقل المدبر لهجمات سبتمبر/أيلول، محاكمتهم أمام لجنة عسكرية لم تصدر سوى حكمين فقط خلال 20 عاماً. أما الـ19 الآخرون فيواجهون مأزقاً قضائياً ومحتجزون بدون تهمة، ولم تبرئهم لجنة المراجعة التابعة للرئاسة.
لكن احتمال محاكمة أي من معتقلي غوانتانامو أمام محاكم مدنية لايزال يشكل مجازفة سياسية لجو بايدن، فقد تكشف هذه المحاكمات عن عمليات تعذيب وانتهاكات لحقوق الإنسان تعرَّض لها السجناء ويمكن أن تدفع القضاة والمحلفين إلى التعاطف معهم. بينما تسيطر على وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) فكرة تتعلق بإمكانية استخدام غوانتانامو في أي نزاعات مستقبلية.
وكان خبراء مستقلون منتدبون من الأمم المتحدة قد طالبوا، الإثنين 11 يناير/كانون الثاني، بإغلاق معتقل غوانتانامو، وقالوا في بيان مشترك، إن "عشرين سنة من اعتقالات تعسفية من دون محاكمات، مصحوبة بتعذيب أو سوء معاملة، هي ببساطةٍ أمر غير مقبول لأي حكومة، لاسيما لحكومة تدَّعي حماية حقوق الإنسان"، بحسب موقع فرانس24.
لكن يبدو أن المأزق الذي تواجهه واشنطن لايزال مستمراً، إذ قال جون كيربي المتحدث باسم البنتاغون، إن الإدارة الأمريكية "مازالت ملتزمة بإغلاق سجن خليج غوانتانامو. نحن بصدد دراسة سُبل المضي قدماً".
وبينما تدرس الإدارة الأمريكية سبل المضي قدماً في إغلاق ما وصفه الخبراء المستقلون بأنه "ثقب قانوني أسود"، تستمر "وصمة العار" المتمثلة بمعتقل غوانتانامو في التشكيك بمصداقية الاهتمام الأمريكي بحقوق الإنسان من الأساس.