في صحراء جزيرة السعديات بالخليج العربي، يعكف جيشٌ صغير من البنائين على بناء أول الأعمدة الخرسانية الشاسعة لمبنى متحف غوغنهايم أبوظبي، ولكن المشروع تحول لسبب لتوجيه الانتقادات للمؤسسة الأمريكية المالكة لمتحف غوغنهايم الأمريكي الأصلي بنيويورك.
وسيتم افتتاح متحف غوغنهايم أبوظبي الذي تكلّف 2.72 مليار دولار من تصميم فرانك غيري في عام 2026؛ حيث سيستضيف زهاء الـ600 عمل فني لفنانين مثل آندي وارهول، وجان ميشيل باسكيات، وأنيش كابور.
ومتحف غوغنهايم الأصلي بنيويورك تأسس كمتحف دائم لضم مجموعة مؤسسه، سولومون غوغنهايم الذي كان عضواً في عائلة ثرية تعمل في التنقيب عن المعادن، جمع أعمالاً فنية منذ تسعينيات القرن التاسع عشر.
وقد تبنى المتحف اسمه الحالي في عام 1952، بعد ثلاث سنوات من وفاة سولومون آر غوغنهايم، ويستضيف المتحف المعرض الأكثر شعبية في مدينة نيويورك، وهو موطن دائم لمجموعة تتوسع باستمرار من الفن الانطباعي وما بعد الانطباعي والحديث المبكر والمعاصر، كما يضم معارض خاصة على مدار العام.
وسيكون متحف غوغنهايم أبوظبي هو رابع متحف غوغنهايم في أبوظبي، بعد نيويورك وبلباو بالإسبانية والبندقية الإيطالية، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Times البريطانية.
تجربة اللوفر تخرج للنور بعد تعثر دام سنوات
سيكون متحف غوغنهايم أبوظبي هو ثاني أكبر مؤسسة فنية عالمية رائدة تفتتح فرعاً في جزيرة السعديات، بعد متحف اللوفر الفرنسي-وذلك ضمن برنامج وضعه قادة الإمارات الدولة الغنية بالنفط بتكلفة 10.87 مليار دولار لإنشاء أكبر مركز دولي للفنون في العالم الجديد. وهو مشروعٌ طموحٌ للغاية يهدف لجعل أبوظبي مدينةً مهمة للفنون والثقافة بقدر أهمية لندن ونيويورك وباريس.
فكيف اختلفت الجزيرة الآن عما كانت عليه قبل أربع سنوات؟ حينها، كانت خطط عائلة آل نهيان الحاكمة في أبوظبي لبناء سمعةٍ تعتمد على الثقافة- بدلاً من النفط- تبدو في حالة يُرثى لها، حسب الصحيفة البريطانية.
إذ نجحوا في افتتاح اللوفر، لكنه جاء متأخراً عن موعده بعشر سنوات، كما تضخّمت تكلفة إنشائه لتبلغ 4.07 مليار دولار. بينما تُوفيت المهندسة المعمارية البريطانية العراقية الأصل زها حديد، التي اقترحت فكرة إنشاء مركز للفنون التعبيرية.
مزاعم حول انتهاكات لحقوق العمل تعطل متحف غوغنهايم أبوظبي
تعطّلت خطط بناء متحف غوغنهايم أبوظبي بسبب المزاعم حول وجود انتهاكات مرتبطة بعمال البناء في الإمارات، إلى جانب المخاوف من أن وجود معرض فني يحمل اسماً يهودياً سيجعله عرضةً للهجمات الإرهابية. فما الذي تغيّر؟
لا شيء تغيّر، هكذا أجاب محمد خليفة آل مبارك، رئيس دائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي. فالأمر ببساطة يتعلّق بالتوقيت حسبما قال: "لقد كان اللوفر أبوظبي بمثابة منحنى تعلُّم حاد لمعرفة كيفية بناء هذه الأصول الرائعة بالطريقة الصحيحة، والميزانية المناسبة، والجودة الكافية. وبمجرد أن أصبح لدينا المخطط الصحيح، بدأنا في المضي قدماً".
ويأمل آل مبارك أن ينجح خليط السمعة العالمية لمتحف غوغنهايم، ونجومية المعماري غيري، ودولارات النفط الوفيرة في جذب الزوار المتشككين. لكن الأمر لن يكون سهلاً. إذ يُشير النقاد إلى معاناة أبوظبي أحياناً من أجل إظهار وجهٍ متحضر للعالم الخارجي، خاصةً حين يتعلّق الأمر بالتعاون رفيع المستوى مع المؤسسات الفنية الغربية.
ففي العام الماضي مثلاً، كشفت صحيفة The Sunday Times البريطانية أنّ كيتلين ماكنمارا، مُنظِّمة مهرجان "هاي فيستيفال" في أبوظبي، اتهمت وزير التسامح الإماراتي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان بالاعتداء عليها جنسياً بعد اجتماعٍ أُقيم في فيلته.
اللوفر يرد على المنتقدين
لكن آل مبارك رد على المنتقدين مستشهداً بنجاح اللوفر، وقال: "تمتلك الإمارات سجلاً رائعاً في مجال إنشاء مؤسسات ثقافية واستضافة مجموعة من أهم الفعاليات الثقافية. ونحاول ضمان أن تكون الإيجابيات أكثر من السلبيات، وألا تتكرر السلبيات في المستقبل".
وربما يكون محقاً، لكن المشروعات المشتركة بين شيوخ النفط والمؤسسات الثقافية الغربية ستظل تُواجه الانتقادات. إذ يُجادل النقاد بأنّها أشبه بـ"رشاوى" نفطية مصممة من أجل منح القبول الفني لمجتمعات لا تحترم حقوق الإنسان وحرية التعبير.
لكن آل مبارك ينكر اتهامات "غسيل السمعة" بالفن، ويُجادل بأنّ هذه التطورات تهدف إلى تغيير المواقف في المنطقة. حيث أوضح: "هذه المؤسسات هي مؤسسات تعليمية، لتفتيح القلوب والعقول. فالثقافة هي عماد أي مجتمع تقدمي".
ويبدو أن تطورات جزيرة السعديات هي محاولةٌ واضحة لاجتياز حدود الذوق العام في منطقة الخليج. حيث تُعرض لوحاتٌ عارية في اللوفر، بينما يمكنك الاستمتاع بكأسٍ من خمر النبيذ وأنت جالسٌ في المطعم.
وسيكون إنشاء متحف غوغنهايم أبوظبي، الذي سيضم 28 معرضاً على مساحة 80 ألف متر مربع تحدياً صعباً. حيث سيضم المتحف أعمالاً فنية لأبرز أسماء الفن الحديث مثل لويز بورجوا، إلى جانب أعمال جديدة لفنانين إماراتيين ومواهب ناشئة من مختلف دول آسيا وإفريقيا.
بينما أوضح ريتشارد أرمسترونغ، مدير غوغنهايم، خلال مقابلةٍ في نيويورك: "أينما ذهبت، ستجد الناس راغبين في رؤية ما يقدمه بعض أبناء جلدتهم. إذ سيكون الجمهور إماراتياً، إلى جانب زوارٍ من الهند وباكستان وبنغلاديش وإفريقيا، لأنّ أبوظبي صارت نقطة التقاء لشعوب تلك المناطق".
سحقاً لكل الانتقادات إنهم نصف مليار دولار
وقد تم اختيار الـ600 عمل فني المخصصين للمجموعة الدائمة بواسطة لجنةٍ مشتركة من متحف غوغنهايم ودائرة الثقافة والسياحة في الإمارات. وقد دفعت أبوظبي فاتورةً لتلك الأعمال الفنية تُقدّر بمليار دولار (750 مليون جنيه إسترليني). كما سيحصل متحف غوغنهايم على رسوم مقابل الحق في استخدام الاسم لمدة 30 عاماً، ويُعتقد أن تلك الرسوم تقدر بنحو 543 مليون دولار. إلى جانب تكلفة البناء التي تقارب المليار دولار، وستدفعها أبوظبي كذلك.
لكن البعض ليسوا مقتنعين بأنّ المشروع يهدف إلى الخير. حيث طالبت جماعة Gulf Labor Artist Coalition "تحالف الفنانين العماليين بالخليج" الفنانين بمقاطعة المؤسسات الثقافية الجديدة في جزيرة السعديات؛ اعتراضاً على انتهاك حقوق العمال الأجانب الذين يقومون ببنائها.
لكن آل مبارك يُؤكّد أنّ "التغييرات الهائلة لسياسات أماكن العمل" تعمل على تحسين ظروف العمل للعمال الأجانب.
كيف ردت المؤسسة الأصلية على النقاد؟
فماذا كان رأي أرمسترونغ فيمن يتهمون متحف غوغنهايم بـ"بيع اسمه مثل العاهرات" مقابل البترودولار؟، حسب تعبير صحيفة The Times البريطانية.
قال أرمسترونغ: "هل يريدون للعالم أن يتغيّر؟ أم يريدون الاعتراض على أي شيء نفعله اليوم في عقولهم؟ إذا كانوا يريدون التغيير، فعليهم توفير معلوماتٍ أكثر للناس. وهذا ما نفعله".
وحين يأتي يوم افتتاح المتحف، سيشعر آل مبارك بارتياحٍ كبير. إذ لم تنجح مدينةٌ بعد بلباو الإسبانية في استخدام متحف غوغنهايم لتغيير صورتها أمام العالم. كما لم يعُد الكثيرون يؤمنون بجدوى هذه الاستثمارات الكبيرة؛ حيث قررت هلسنكي مؤخراً أنّها ليست بحاجةٍ لافتتاح متحف غوغنهايم جديد على أرضها.
لكن في حال نجاح آل مبارك، فسيكون قد فاز بأكبر رهانٍ لمدينةٍ ناشئة على جاذبية وقيمة الفن.