تدور في هذه الأوقات عقارب الساعة السياسية في تونس بسرعتها القصوى، فبعد وضع نائب رئيس حركة النهضة نور الدين البحيري ومسؤول أمني رفيع المستوى قيد الإقامة الجبرية منذ بضعة أيام، قررت المحكمة الابتدائية بتونس العاصمة إحالة 19 شخصاً على المجلس الجناحي بتهم ارتكاب جرائم انتخابية، بعد إتمام الاستقراءات والأبحاث، وذلك "عملاً بأحكام الفصل 24 من القانون الأساسي، عدد 41 لسنة 2019، المتعلق بمحكمة المحاسبات".
وشمل القرار الجديد للنيابة العمومية -التي يرأسها رئيس الجمهورية قيس سعيّد بناء على التدابير الاستثنائية التي يحكم بها البلاد منذ تجميد البرلمان وحل الحكومة في 25 يوليو 2021- إحالة قيادات من الصف الأول في حركة النهضة أبرزها رئيس الحركة راشد الغنوشي والقيادي السابق حمادي الجبالي ومرشحون سابقون للانتخابات الرئاسية من بينهم نبيل القروي، ويوسف الشاهد، وحمة الهمامي، والرئيس الأسبق المنصف المرزوقي، وإلياس الفخفاخ. إلا أن قرار النيابة العمومية استثنى قيس سعيّد بالرغم من ورود اسمه في تقرير محكمة المحاسبة حول مراقبة تمويل الحملات الانتخابية في أكتوبر/تشرين الأول 2019 لتمتعه بالحصانة السياسية بحكم موقعه على رأس الدولة التونسية.
وذكر بلاغ أصدره مكتب الاتصال بالمحكمة الابتدائية بتونس أنه "تمّ اتخاذ قرار الإحالة على المجلس الجناحي بالمحكمة الابتدائية من أجل ارتكاب جرائم مخالفة تحجير الإشهار السياسي والانتفاع بدعاية غير مشروعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والدعاية خلال فترة الصمت الانتخابي طبقاً لفصول القانون المتعلق بالانتخابات والاستفتاء".
جدل حول استثناء الرئيس
وأطلقت التطورات الأخيرة جدلاً داخل المجتمع السياسي في تونس بسبب استثناء النيابة العمومية الرئيس من الإحالة على القضاء بسبب ما وصفته في بلاغها بتعذر "إحالة غيرهم على المحكمة (تقصد الرئيس قيس سعيّد) لأسباب تتعلق ببعض الإجراءات الخاصة بإثارة الدعوى العمومية المرتبطة بصفة المخالف واستكمال بعض الأبحاث"، وبسبب كذلك عدم تخلِّي الرئيس عن حصانته لحد الآن خصوصاً أنه لطالما ندّد بعدم تخلِّي أعضاء مجلس نواب الشعب الذين تعلقت بهم قضايا حق عام عن حصانتهم والمثول أمام القضاء قبل أن يقوم بتجميد أعمال المجلس.
القاضي حمادي الرحماني (من معارضي قيس سعيّد) قال في تدوينة على صفحته بفيسبوك "إن حصانته (قيس سعيد) القضائية سقطت يوم 25 يوليو/تموز بموجب خروجه الفعلي عن الدستور بتطبيقه التعسفي أحكام الفصل 80 وتجميده البرلمان ونزعه حصانة النواب، وخصوصاً بتعليقه العمل بباب السلطة التنفيذية بما فيه أحكام الحصانة لرئيس الجمهورية بموجب أمر 117).
وقد ذهب النائب في البرلمان المجمد ياسين العياري (حركة أمل وعمل) في نفس الاتجاه عندما شرح كيف أن "رئيس الجمهورية المنقلب على الدستور، قد وقع رفع الحصانة عنه بموجب الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 والمتعلق بتدابير استثنائية، بالفصل العشرين منه؛ حيث ترد الحصانة بالفصل عدد 87 من دستور 27 يناير/كانون الثاني 2014 بالباب الرابع منه المتعلق بالسلطة التنفيذية، والذي وقع تعليقه بالفصل 20 من الأمر عدد 117 ما يعني قانوناً أنّه لا حصانة له".
وذكّر العياري النيابة العمومية بأن التغاضي عن التجاوزات لرئيس دولة الأمر الواقع هو تقصير في حق القانون والعدالة وإساءة للسلطة القضائية والدولة التونسية.
بالمقابل، أوضح المحامي والناشط الحقوقي، رابح الخرايفي، (مؤيد للرئيس) أن "الإحالة ضد رئيس الجمهورية سيرجئ النظر فيها (إذا تم فتح البحث)، لأنه وفق الفصل 87 من الدستور فهو متمتع بالحصانة ولا يمكن مباشرة أي دعوى أو شكوى ضده إلا بعد رفع الحصانة أو إعلانه أنه متخلٍّ عنها طواعية".
إلا أن خبراء قانون آخرين يعتبرون أن النص الدستوري معلّق منذ أعلن الرئيس سعيد عن تدابيره الاستثنائية التي يدير بها البلاد منذ 25 يوليو، خصوصاً فيما يتعلق بالسلطة التنفيذية التي يرأسها وأصدر بشأنها مراسيم خاصة استعاض بها عن دستور سنة 2014 في كل ما يتعلق بالسلطة التنفيذية ولا تنص مطلقاً، بحسب رئيس حزب العمال حمة الهمامي على "تمتع رئيس السلطة التنفيذية بالحصانة".
مخالفات حملة الرئيس
طفا اسم الرئيس قيس سعيّد بشكل مفاجئ في تقرير دائرة المحاسبات حول الرقابة المالية للانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2019 بسبب قائمة المخالفات والجرائم الانتخابية التي رصدها التقرير في حملته الرئاسية فيما يتعلق بتمويل الحملة الانتخابية وخرق للصمت الانتخابي الذي يسبق مباشرة عملية التصويت.
ولم تتناول أغلب التغطيات الإعلامية هذه المخالفات وتم تغييبها في مقابل التركيز على الاتهامات الموجهة لنبيل القروي رئيس حزب قلب تونس وحزب حركة النهضة وجمعية "عيش تونسي" وغيرها ممن ذكرها تقرير المحكمة.
وجاء في تقرير دائرة المحاسبات بخصوص المخالفات المالية للمرشح للرئاسية قيس سعيّد أنه خلال الدورة الثانية من الانتخابات بلغت القيمة الإجمالية للفواتير التي لا تتضمن الموجبات القانونية في حملة قيس سعيّد 12.515 ألف دينار تونسي (4,338 دولار) بنسبة 47.1% من جملة النفقات، بالإضافة لورود مخالفات جبائية في حملة قيس سعيّد، من بينها نجد غياب المعرّف الجبائي أو تنصيصات أخرى، مثلما ورد في التقرير.
ومن المخالفات القانونية الأخرى التي تعلقت بالدعاية السياسية في حملته الانتخابية نجد تلك التي ارتكبت عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ إذ سجّل التقرير 143 مخالفة على صفحات فيسبوك غير المصرّح بها لفائدة قيس سعيّد يوم الصمت الانتخابي في الدورة الثانية.
كما ورد في تقرير محكمة المحاسبات إخلالات في قائمة التزكيات التي تخول للرئيس الترشح بشكل قانوني للانتخابات الرئاسية، حيث رصد التقرير 1721 تزكية ليس لأصحابها صفة الناخب مع 1200 تزكية لعدد من الحالات لا تتطابق فيها البيانات الشخصية مع بطاقة الهوية، وذلك من إجمالي 24985 تزكية.
وفي تعليقه على ما ورد في دائرة المحاسبات بشأن الرئيس، أوضح عضو الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، فاروق بوعسكر، في تصريح لإذاعة "شمس" المحلية، أن رئيس الجمهورية معنيّ بالمخالفات الانتخابية، غير أنّه لا يمكن متابعته حالياً باعتبار الحصانة التي يتمتع بها، وبأن المتابعة ستكون ممكنة حين يستكمل مدته الرئاسية، على حد تعبيره.
وأوضح فاروق بوعسكر أنّ الإشهار السياسي عقوبته تتمثل في غرامة مالية تصل عشرة آلاف دينار (3 465 دولاراً) أما غرامة خرق الصمت الانتخابي فتقدر بـ عشرين ألف دينار (6929 دولاراً).
الرئيس قيس سعيّد لم يعترف بهذه المخالفات، وأفاد بأنه لم يقم بأي إشهار سياسي عبر الوسائط الإشهارية الثابتة والمتنقلة، وقال خلال اجتماع بوزراء حكومته أمس الخميس: "دفعت 50 ديناراً (17 دولاراً) في حملتي الانتخابية، والصفحات الفيسبوكية (التي قامت بحملته الانتخابية) لا تلزمني ولا أعرف من وراءها".
أبعاد القضية ومخطط الرئيس
إنكار المخالفات أو الجرائم الانتخابية المرتكبة في انتخابات سنة 2019 وعدم التخلي عن الحصانة لحد الآن مقابل إحالة أغلب المرشحين للانتخابات الرئاسية والشخصيات السياسية المعروفة على القضاء لمحاكمتهم على ارتكاب مخالفات مشابهة يطرح تساؤلات جديّة عن المغزى من إثارة هذه القضايا في هذا التوقيت بالذات، خصوصاً أن أغلب المتقاضين من خصوم الرئيس ومعارضي الانقلاب على الدستور، سواء في حركة النهضة من خلال رئيسها راشد الغنوشي أو باقي الأسماء السياسية المؤثرة في المشهد التونسي على غرار نبيل القروي، وحمادي الجبالي، وحمة الهمامي، والمنصف المرزوقي… إلخ.
وفي هذا السياق، استنكر المكلّف بالإعلام والاتصال بحركة النهضة، عبد الفتاح التاغوتي، الزج باسم راشد الغنوشي ضمن قائمة مترشحين للانتخابات الرئاسية، في حين ترشّح على رأس قائمة انتخابية تشريعية لا تشملها جرائم انتخابية بل مخالفات.
واتهم القيادي في النهضة، رئيس الجمهورية بمحاولة الضغط على القضاء لاستصدار أحكام تدين خصومه السياسيين وتشوههم لدى الرأي العام، مؤكداً أن حزبه لا يخشى القضاء، ومستعد للدفاع عن قيادييه ودحض التهم المنسوبة لرئيسه بالمستندات والحجج القانونية.
من جانبه، اعتبر رئيس حزب العمال التونسي (حزب يساري) حمة الهمامي، أن الانقلاب جاء لتعميق الأزمة السياسية ومزيد من تدمير السياسة في تونس، مشيراً إلى أن 25 يوليو/تموز ليس تصحيح مسار بل "تعويض لمنظومة رجعية فاسدة بمنظومة شعبوية مستبدة".
وأكد حزب العمال في بيان صدر الخميس 6 يناير/كانون الثاني أنّ إثارة هذه المسألة في هذا الظرف بالذات وبهذه الطريقة إنما يهدف إلى مواصلة ترذيل العمل السياسي والأحزاب والانتخابات بشكل عام خدمة لمخطط قيس سعيّد الذي أعلنه يوم 13 ديسمبر/كانون الأول 2021 والذي يهدف إلى فرض مشروعه السياسي الشعبوي الاستبدادي المعادي للحريات ولأبسط المبادئ الديمقراطية.
ولفت الحزب إلى أن إثارة هذه القضايا على هذه الشاكلة واستثناء الرئيس هدفها إلهاء الشعب التونسي عن مشاكله الحقيقية، وعما تعمل حكومة رئيسة الوزراء نجلاء بودن على تمريره من إجراءات مدمرة لحياة الشعب (رفع أسعار، وقف انتدابات، زيادة في الضرائب، خصخصة مؤسسات عمومية، مزيد من إغراق البلاد في المديونية والتبعية)، سواء في الميزانية أو في الوثيقة السرية الموجهة إلى صندوق النقد الدولي.
التنكيل بالخصوم السياسيين!
إلى ذلك، أشار الحقوقي رابح الخرايفي إلى أنّه عندما تصدر أحكام نهائية في قضايا المخالفات والجرائم الانتخابية التي "شملت كامل الطبقة السياسية في تونس تقريباً"، فإنه "يمكن أن يستعملها الرئيس سعيّد لإبعادهم من المشهد القادم".
وبيّن الخرايفي أنّ "هذه الأحكام (إن صدرت) سيتم تسجيلها في بطاقات السوابق العدلية للمخالفين، وستتحول إلى موانع انتخابية من خلال تضمينها في القانون الانتخابي القادم، وبالتالي هذا ما يبحث عنه سعيّد لإخراجهم من الانتخابات 2024".
ويرى مراقبون أن المسألة برمتها تأتي في سياق توجّه الرئيس سعيّد لتصفية معارضيه السياسيين، خصوصاً من حركة النهضة وحلفائها الذين وقفوا ضد قرارات تجميد البرلمان وحل الحكومة والهيئات الدستورية وتصدوا للانقلاب.
ويسعى سعيّد منذ مدة لتغيير قانون الانتخابات الحالي الذي ينص على التصويت على القائمات الحزبية عبر الاستفتاء المبرمج في 25 يوليو المقبل، بقانون جديد يتم فيه التصويت على الأفراد، مما يقلل حظوظ الأحزاب الكبيرة في الفوز بأغلبية المقاعد، ويفتح في نفس الوقت الباب على مصراعيه أمام أنصار حملته التفسيرية.
وتصب الإحالات الأخيرة لأبرز رموز الساحة السياسية على العدالة وإدانتهم قضائياً في صالح مشروع الرئيس الاستراتيجي القائم على تغيير المنظومة السياسية القدمية والطبقة السياسية الفاعلة داخلها بـ"تأسيس جديد" يُقصي غالبية الفاعلين في المشهد الحالي، بعد أن تتضرر صورتهم بالمحاكمات والإدانات القضائية وتتعطل دواليب سياساتهم الانتخابية وآليات وصولهم للسلطة.