عادت السلطة في السودان باستقالة رئيس الوزراء إلى أيدي الجيش، لكن المؤسسة العسكرية تواجه غضباً شعبياً لانتكاس الآمال من جديد في الحكم الديمقراطي.
ويقول محللون ودبلوماسيون إنه ما لم يرسم السودان مساراً جديداً يُفضي إلى انتقال سياسي وانتخابات ذات مصداقية، فمن المرجح أن يحدث مزيد من الاضطرابات داخل حدود البلاد وخارجها.
فبعد حل الحكومة في انقلاب، خلال أكتوبر/تشرين الأول، عاد عبد الله حمدوك إلى رئاسة الوزراء، في محاولة لإنقاذ ترتيبات اقتسام السلطة الانتقالية بين الجيش والمدنيين، والتي تم التوصل إليها في أعقاب الإطاحة بالرئيس عمر البشير، في انتفاضة عام 2019، بعد أن حكم البلاد على مدار ثلاثة عقود.
حمدوك وقف عاجزاً
ويرحل حمدوك عن منصبه تاركاً البلاد معزولة عن الدعم الاقتصادي الدولي، وسط احتجاجات متكررة مناهضة للجيش، ومهددة بتجدد العنف والنزوح في إقليم دارفور الغربي.
وقال وسيط سوداني، شارك في المحادثات قبل عودة حمدوك وبعدها، إن مساعي رئيس الوزراء المستقيل للعودة إلى مسار الانتقال السياسي انهارت، بسبب سحب الدعم الموعود من بعض الفصائل السياسية، وعجزه عن وقف العنف الذي يستهدف المحتجين.
وعلى الملأ يقول الشق الأعظم من تحالف مدني مقسم كان قد وافق على اقتسام السلطة بموجب إعلان دستوري صدر في 2019، إنه لن يتفاوض مع الجيش.
وقال عضو في لجنة مقاومة محلية في الخرطوم "الشيء الوحيد الذي يمكن أن نقوله لهم هو عودوا إلى ثكناتكم".
وهذا الوضع قد يتيح للعسكريين تعيين الموالين لهم في إدارة جديدة بالاستفادة من قرارات تعيين مسؤولين قدامى من عهد البشير عقب الانقلاب، وهي القرارات التي ألغى حمدوك بعضها.
وقال الوسيط، طالباً إخفاء هويته: "الجيش سيعين حكومة ما لم يتفق المدنيون ويجتمعون معه… أعتقد أن الناس سيجلسون معاً في النهاية ويعودون إلى الإعلان الدستوري، ويرون كيف يمكنهم تعديله".
وقال الجيش بعد الانقلاب إنه يريد إجراء انتخابات في 2023، وإنه ملتزم بالانتقال إلى الديمقراطية.
غير أن الانقلاب عمّق مشاعر الارتياب من الجيش بين الأحزاب المدنية، وفي الوقت نفسه عارضت الحركة الاحتجاجية التي قادتها لجان المقاومة على الدوام أي دور سياسي للجيش.
وأدت حملة أمنية على التجمعات الشعبية المناهضة للانقلاب على مستوى البلاد، سقط فيها قرابة 60 قتيلاً، وألقت السلطات القبض خلالها على محتجين، أدت إلى زيادة مشاعر الغضب، وحصلت أجهزة الاستخبارات على سلطات معدلة.
تجميد التمويل الخارجي
تحاول القوى الغربية، التي مازالت تملك بعض أوراق الضغط بفعل توقف مساعدات اقتصادية بمليارات الدولارات بعد الانقلاب، إبعاد الجيش عن مواصلة المسيرة وحده.
ودعت هذه القوى يوم الثلاثاء إلى حوار فوري، وحذرت من أنها لن تدعم أي حكومة تُشكّل دون مشاركة قطاع عريض من الجماعات المدنية. وقالت إن النهج الانفرادي يمثل مجازفة بانزلاق السودان إلى الصراع من جديد.
وقال دبلوماسي أوروبي "الجيش مهتم بشدة، لأنه يعلم أن البلاد لن تستمر بدون الدعم الاقتصادي. وإذا انهار السودان فسيكون لذلك تداعيات خطيرة في الكثير من القضايا الجيو استراتيجية"، مشيراً إلى عدم الاستقرار في إثيوبيا وليبيا المجاورتين.
وقد عرضت بعثة الأمم المتحدة في السودان المساهمة في تسهيل الحوار رغم أن الدبلوماسيين يقولون إنه ليس من الواضح حتى الآن كيف يمكن أن تتحقق هذه المحادثات، وإن الأمر قد يتطلب تدخل قوى مثل السعودية أو الولايات المتحدة.
البحث عن مسار جديد
قال أحمد سليمان، الباحث الزميل في مؤسسة تشاتام هاوس للأبحاث في لندن "أعتقد بالتأكيد أن من المستبعد أن تنجح الآن محاولة إعادة الانتقال بالصيغة التي كان موجوداً بها من قبل".
وأضاف: "من الضروري وجود ترتيب مختلف، طريق سياسي مختلف للأمام من أجل البدء في أن يتحقق من جديد قدر من الثقة".
وقال عدة دبلوماسيين غربيين إن التوصل إلى صفقة تفتح مساراً جديداً صوب انتخابات ديمقراطية يبدو أصعب الآن مما كان في 2019. غير أن خروج حمدوك المسؤول السابق بالأمم المتحدة الذي كان يعمل على تحقيق التوافق قد يفتح المجال أمام موقف جديد.
وقالت لورين بلانشارد، المتخصصة في الشأن السوداني في هيئة البحوث بالكونغرس "اعتبر البعض بقاء حمدوك في منصبه ورقة توت (ستارا)، وأن استقالته قد تسمح بإجراء حوار أكثر موضوعية فيما بين المجتمع الدولي، كما أنها تدفع الجماعات المدنية للسعي إلى أرضية مشتركة".
وأضافت "وهذا يوضح أن الأمر يتطلب آلية للوساطة. فحمدوك لم يقدر على سد الفجوة".
ماذا بعد؟
مواجهة مفتوحة قد تقع بين الجيش السوداني والمحتجين في البلاد بعد تنحي رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك عن رئاسة الحكومة الانتقالية.
وقوبل إعلان تنحي رئيس الوزراء السوداني، مساء الأحد، الثاني من يناير/كانون الثاني، بعد عامين في المنصب، بفرحة غامرة من المحتجين المؤيدين للديمقراطية.
في حين وعدت لجان المقاومة، التي أشعلت ثورة 2019 وأوصلت بحمدوك إلى السلطة في المقام الأول، بأنّها ستواصل نضالها ضد الانقلاب العسكري.
في حين يخشى آخرون من أنّ يكون السودان قد صار الآن في قبضة الجيش بالكامل، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
فرحٌ وغضب بعد تنحي رئيس الوزراء السوداني
في خطاب استقالته، أقر حمدوك بأنّ التحول الديمقراطي عقب الإطاحة بالحاكم المستبد عمر البشير قد فشل. كما حمّل العناصر العسكرية والمدنية في النظام الانتقالي لتقاسم السلطة مسؤولية فشل الشراكة.
وحذر كذلك من أن البلاد قد تغرق في الفوضى: "ولقد حاولت بقدر استطاعتي أن أجنب بلادنا خطر الانزلاق نحو الكارثة، والآن تمر بلادنا بمنعطف خطير قد يهدِّد بقاءها كُلياً إن لم يتم تداركه عاجلاً".
وقُوبل الخطاب بردود فعلٍ متضاربة. حيث بدأ البعض يرى فيه الوجه المدني للانقلاب، ومتآمراً مع قادة الجيش عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي)، ولهذا فهم سعداءٌ برحيله. بينما يرى آخرون أنّ رحيله يمثل خسارةً لآمال السودان في الديمقراطية.
وكان الجيش السوداني قد عزل حمدوك في 25 سبتمبر/أيلول 2021، واعتقله مع عدد من المسؤولين المدنيين في الحكومة والمجلس الانتقالي، ولكن بعد احتجاجات شعبية وانتقادات دولية أعاد الجيش حمدوك للسلطة ووقع معه اتفاقاً سياسياً جديداً في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، رفضته أغلب قوى المعارضة.
المحتجون يرونه وجهاً مدنياً للانقلاب
وقال علي ناصر، عضو لجنة مقاومة، إنّ تنحي رئيس الوزراء السوداني لم يكن له تأثيرٌ على الأرض.
إذ قال: "لا علاقة لنا باستقالته، لأنّ حمدوك أضفى الشرعية على الانقلاب بالفعل حين وقع اتفاقيةً مع الجيش في 21 نوفمبر/تشرين الثاني. ولهذا نحن ضد نظام الانقلاب بأكمله، وسنستمر في مقاومته. وأرى أنّ جهودنا لهزيمة الانقلاب تسير على ما يُرام، بدايةً من حمدوك. وسوف نختتم هذه المسيرة بالإطاحة بحميدتي والبرهان قريباً".
لم يُمثّل أي من الساسة المدنيين الشعب السوداني بحق، سواء من يقودهم حمدوك أو الجيش. ولهذا فشلت اتفاقيتهم بحسب سماهر المبارك، العضوة البارزة في تجمع المهنيين السودانيين.
وقالت سماهر لموقع Middle East Eye البريطاني: "تقوم الثورة السودانية على مفاهيم الثورة، ولا ترتبط بشخصٍ أو منقذ أو رمز. فالأمر يتعلّق بقيم الحرية، والسلام، والعدالة، والتحول الديمقراطي الكامل. ولا خلاف على أنّ الاتفاقية أضفت شرعيةً على الانقلاب العسكري، ووضع وجهٍ مدني على انقلابٍ عسكري لن يُغيّر حقيقة كونه انقلاباً".
تمخّض التحول الديمقراطي لفترة ما بعد البشير، الذي تمت صياغته في أغسطس/آب عام 2019، عن تولي "مجلس السيادة" العسكري-المدني مقاليد الحكم، إلى جانب حكومةٍ يقودها حمدوك. ليجهزا السودان معاً لانتخابات حرة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2022، وفقاً لاتفاق تسليم السلطة الأصلي الذي جرى تعديله لاحقاً.