أصبحت عمليات تهريب النفط الإيراني وتصديره للخارج رغم العقوبات الدولية تجارة دولية رائجة على مخاطرها، تشارك فيها أطراف عدة غير إيرانية، وهي عملية يرد فيها ذكر أسماء عدة دول عربية.
تقرير لصحيفة Washington Post الأمريكية عَرَض خبايا عملية تهريب النفط الإيراني، وكيف يخدع المهربون الجهات التي يُفترض أنها تراقبهم، وكيف ينتهي الأمر بالنفط الإيراني في الأسواق عبر حمل أسماء دول أخرى.
وكان الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، قد انسحب من الاتفاق النووي عام 2018، وأعاد فرض العقوبات على إيران، وكان أشدها صرامة فرض عقوبات على أي مشترٍ للنفط الإيراني.
قوارب الصيد أداة أساسية في عملية تهريب النفط الإيراني
"إنّها سلسلةٌ كبيرة، تضم قوارب صيد تُبحر لنقل الديزل إلى إحدى ناقلات النفط المنتظرة. وتستغرق العملية فترةً تتراوح بين أربعة وخمسة أيام"، هكذا استهلّ البحار الهندي (27 عاماً) حديثه بشرط عدم الكشف عن هويته، لأنه يخشى الانتقام.
وقال البحار لصحيفة Washington Post الأمريكية إنّه عمل لصالح شركات شحن مقرها في دبي، وتعمل في تهريب النفط الإيراني إلى الصومال.
ويأتي وصف هذا البحار لعمليات تهريب النفط الإيراني، من بين شهادات خمسة شهود عيان من حاملي الجنسية الهندية، الذين كانوا يعملون على متن سفنٍ متورطة في هذه التجارة السرية، تحدّثت معهم الصحيفة الأمريكية.
ورغم توثيق عمليات تهريب المنتجات النفطية الإيرانية من قبل، وتنديد الولايات المتحدة بها، فإن هؤلاء البحارة قدموا نظرةً وراء الكواليس على طريقة تنفيذ تلك الأنشطة.
ومنذ فرض العقوبات الأمريكية على طهران تزايدت وتيرة تهريب النفط الإيراني، حيث يجرى نقله بين السفن في أعالي البحار، إضافة إلى تهريب النفط الإيراني بشاحنات عبر العراق وأذربيجان.
يَهرَبون إذا رأوا الإماراتيين، وحيلة بسيطة تجنبهم الرصد
عادةً ما ترسو ناقلات النفط في المياه الدولية التي تفصل بين إيران والإمارات العربية المتحدة، على حد وصف بحارٍ هندي يبلغ من العمر 28 عاماً، قال إنّه كان يعمل لصالح شركتين متورطتين في تهريب الديزل الإيراني، بين 2016 و2020.
وأردف البحار الهندي: "تنتهي المياه الإقليمية للإمارات بعد 19 كيلومتراً، لذا تقف السفن الإيرانية على مسافةٍ تتراوح بين 22 و32 كيلومتراً من الإمارات. ويقومون بإغلاق نظام تحديد الهوية الآلي (AIS) حتى يتعذّر تعقبهم. وإذا رأوا خفر السواحل الإماراتيين يُوقفون العملية، ويلوذون بالفرار".
يقول ألكساندر بوث، من شركة استقصاء البيانات "كبلر"، لـ"بي بي سي"، إن السفن الإيرانية تحجب أجهزة تتبع إبحارها بنسبة 80% من الوقت، ويعني ذلك أنه من الصعب تتبُّع ماهية حمولة السفينة، ومن أين جاءت، وإلى أين تذهب؟
في المقابل، تتابع الولايات المتحدة عمليات تهريب النفط الإيراني بوسائل عدة منها بيانات مرئية تجمَعها السلطات الأمريكية عبر الأقمار الصناعية. ويسمح هذا بتتبُّع شحنات نفط إيرانية التي قد تُطفئ أجهزة إرسالها.
سفن عملاقة تحمل النفط الإيراني على أنه عراقي أو إماراتي
وعلاوةً على عمليات النقل في جنح الليل وعرض البحر، يتم تصدير الديزل الإيراني المخصص للأسواق العالمية، على متن ناقلات نفط تُبحر من إيران، مع تزوير بلد منشأ الشحنة، لتبدو وكأنها قادمةٌ من العراق أو الإمارات، وفقاً لبحارٍ ثالث وثلاثة من الخبراء في شؤون الأمن والطاقة.
وكانت هذه التجارة مربحةً للغاية حتى قبل انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي. إذ تتمتع إيران بأرخص أسعار النفط العالمية، نتيجة الانخفاض الشديد لتكلفة الإنتاج، والدعم الحكومي الكبير، وضعف العملة، لكن إعادة فرض العقوبات الاقتصادية منحت تلك التجارة دفعةً إضافية، في ظل سعي المهربين للإفلات من العقوبات المفروضة على صادرات النفط الإيرانية.
في حين قال كورماك ماك غاري، المدير المساعد في شركة Control Risks للاستشارات: "إنّ نقل المنتجات البترولية الإيرانية الخاضعة للعقوبات يجري بوتيرةٍ أسبوعية. وهناك دوافع مالية وطلبٌ على المنتجات، ما يدفع إيران للعثور على سبيل للتحايل على العقوبات، وتنص السياسة الإيرانية على إبقاء الأمر طيّ الكتمان، ولهذا لا يكشفون طريقة تنفيذه".
الحرس الثوري يسيطر على العملية
تتضمن عمليات التهريب بعض عناصر الدولة الإيرانية -خاصةً الحرس الثوري الإيراني- وشركات شحن خاصة مقرها في دول الخليج، وفقاً لمحللين متخصصين في صناعة الطاقة والأمن الإقليمي، وقالوا إنّ الحرس الثوري يُحاول أحياناً اعتراض من يُحاولون تهريب النفط دون إذنهم.
بينما أوضح أندرياس كريغ، المحاضر الكبير في كلية الدراسات الأمنية بكلية كينجز لندن، قائلاً: "يفرض الفيلق البحري التابع للحرس الثوري الإيراني قبضةً صارمة على الحدود البحرية ومرافق الموانئ. كما تُدفع الرشاوى لعددٍ كبير من الناس، لأن الحرس الثوري الإيراني مؤسسةٌ شديدة الفساد، وإذا نظرنا إلى الكميات التي يتم تهريبها سنوياً من إيران فنحن نتحدث عن الملايين من براميل النفط".
وقال الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، في 7 ديسمبر/كانون الأول 2021، إن "مبيعات النفط الإيراني شهدت تحسناً ملحوظاً رغم التهديدات والحظر الأمريكي".
وأضاف رئيسي، وخلال مراسم أقيمت بمناسبة اليوم الوطني للطلاب، بحسب وكالة الأنباء الإيرانية (إرنا): "تحسنت كميات صادراتنا من النفط ومكثفات الغاز أكثر من السابق، رغم التهديدات والحظر الأمريكي".
يشن غارات "مُرعبة" على السفن التي تهرِّب بدون إذنه
إذا احتجز الحرس الثوري سفينةً فإن الطريقة الوحيدة لإقناعه بتركها هي أن يدفع القبطان لهم نقداً، ويمكن لتلك النقود أن تنقذ البحارة من التعذيب، لأنهم (الحرس الثوري) لا يتصرفون مثل البشر، بل يبدأون بالضرب دائماً"، حسبما يزعم فيكاش ثاكور، البحار الهندي صاحب الخبرة التي تمتد لعقدٍ من الزمن.
كانت يدا ديباك فيرما مكبلتين تحت تهديد السلاح، وقد أُمِرَ بالبقاء في مكانه دون حراك. حيث انقضَّ ستة رجال مسلحين -يرتدون زياً عسكرياً- على سفينته "أميرة الأسفلت"، وعرّفوا أنفسهم بأنّهم من أفراد الجيش الإيراني.
وأردف فيرما (32 عاماً)، المهندس الثاني على متن السفينة: "حذّر قائدهم قائلاً: (إذا نطق أحدكم أو حاول فعل شيء فسوف نقتله)، ثم جلسنا على الأرض وأيدينا مكبلة خلف ظهورنا، وسألنا بعدها إن كان هناك ديزل على متن السفينة، لكننا لم ننبس ببنت شفة".
فقبلها ببضع ساعات في ذلك اليوم من شهر أغسطس/آب، أبحر قاربٌ صغير من إيران باتجاه أميرة الأسفلت، ونقل الديزل إلى الخزانات، حتى يتم بيع الوقود للسفن الأخرى وشحنه للخارج بحسب فيرما.
وقد أمر المعتدون الطاقم بأن يُبحر إلى إيران، لكن أفراد الطاقم -نحو 10 رجال من الهند وسريلانكا- ماطلوا، مدّعين أنّ المحرك به مشكلات وقد تشتعل فيه النيران. وبعدها رحل المعتدون فجأةً لأسباب غير واضحة في الساعات الأولى من الصباح التالي.
وسرعان ما توجهت أصابع الاتهام إلى القوات الإيرانية، والحرس الثوري تحديداً. فوفقاً لكريغ يحتجز الحرس الثوري السفن أو يختطفها حين تُحاول شركات الشحن تهريب المنتجات البترولية بدون إذنه.
وأردف كريغ: "حين يستولي الحرس الثوري على السفن بهذا الشكل، فهذا يعني أن تلك السفن لم تحصل على موافقة المستويات العليا من السلطة، التي تريد هي الأخرى التربح من ذلك النفط. كما أن تلك الخطوات لها تأثيرٌ جيد على سمعة إيران الدولية، لأن هناك مزاعم بأن الإيرانيين يُساعدون المهربين بشكلٍ نشط من أجل الالتفاف على العقوبات".
والشركة المالكة للسفينة مقرها في دبي وتنقله للصين وعمان
في حين قال ثلاثة بحارة بخلاف فيرما، إنّ شركة Prime Tankers، التي يقع مقرها في دبي، وتمتلك أميرة الأسفلت، متورطةٌ كذلك في شحن الديزل الإيراني على متن سفينتين أُخريين على الأقل.
وفي عام 2019، احتجز الحرس الثوري السفينة "إم تي رياه"، التابعة لأسطول Prime Tankers، وذلك لتهمٍ متعلقة بالتهريب.
في حين تُظهر وثائق الشحن لأميرة الأسفلت، التي حصلت عليها صحيفة Washington Post الأمريكية، أن عام 2021 شهد نقل السفينة لمنتجات نفطية مكررة وبتومين ومطاط معالج بالنفط من إيران إلى عمان والصين. ويُذكر أن هذه المنتجات تخضع جميعها للعقوبات الأمريكية.
الوقود الإيراني يُخزَّن في الشارقة كأنه عراقي
قال البحار الهندي فيكاش ثاكور، إنّه من الخطير الكشف عما رآه في الخليج. وأردف: "لا يريد البحارة الحديث عن تلك الأمور، فهم خائفون".
تزدحم الممرات البحرية بين مضيق هرمز وبين موانئ دبي والسعودية بالقوارب الصغيرة التي تحمل الديزل المهرَّب، من أجل نقله إلى السفن الأكبر حجماً بحسب ثاكور.
وفي بعض الأحيان -يقول ثاكور- يتم تخزين الديزل مؤقتاً داخل ميناء الشارقة الإماراتي، حيث يجري تزوير الوثائق ليبدو وكأن الوقود قادمٌ من العراق.
بينما يقول أندي بومان، المدير الإقليمي للشرق الأوسط وجنوب آسيا في جمعية Mission to Seafarers الخيرية: "وجود تجارةٍ غير مشروعة تجري في هذه المنطقة هو سرٌّ يعلمه الجميع، لكنهم لا يتحدثون عنه، حيث تزدحم المياه من عجمان الإماراتية إلى إيران، وخاصةً في الليل، بسفنٍ تتحرك في أوقات غير معتادة دون أن تدخل الميناء. وتقوم تلك السفن بتفريغ حمولتها أو الاتصال بالسفن الأخرى أثناء رسوّها".
الديزل الإيراني يصل إلى اليمن والصومال
ومن هناك، يجري نقل حمولات كاملة من المنتجات المكررة -مثل الديزل- إلى دولٍ مثل اليمن والصومال بحسب سمير مدني، الشريك المؤسس في TankerTrackers، لتعقُّب شحنات النفط الخام.
وأردف مدني: "تعتمد الطريقة الكلاسيكية للتشويش على إغلاق جهاز تحديد الهوية الآلي، والاختفاء لمدة أسبوع، ثم العودة بعد ذلك لتشغيل الجهاز، دون أن يعرف أحد من أين حصلت على حمولتك".
بينما قال ماك غاري إنّ إغلاق جهاز تحديد الهوية الآلي ينتهك قواعد الملاحة الدولية، ويُشير إلى ارتكاب نشاطٍ غير مشروع: "بسبب الثغرات في نظام تحديد الهوية الآلي يصير من الصعب تحديد مكان التقاء تلك السفن، وبالتالي نفقد أثر الشحنة ولا نعرف أين ذهبت؛ لأنها نُقِلَت إلى سفينةٍ أخرى".
كما يُمثل انعدام الشفافية هذا خطراً على المشترين المحتملين، بحسب ماك غاري، لأن ذلك قد يورطهم في تجارة ديزل أو نفط خام يبدو "شرعياً بالكامل"، لكنه يندرج تحت العقوبات الأمريكية، ويُعرّض تلك الشركات لغرامات محتملة.
أما بالنسبة للبحارة فهي تجارةٌ محفوفةٌ بالمخاطر، حيث يأتي التهديد من الحرس الثوري والقراصنة على حدٍّ سواء، وعادةً ما تحمل السفن مبالغ كبيرة من المال في حال اضطرت لدفع الرشاوى لأحد الطرفين.