أن يقع انقلاب في قارة إفريقيا قد لا يكون حدثاً غريباً، لكن 2021 بات يعرف بعام الانقلابات نظراً لارتفاع العدد، من مالي إلى غينيا إلى السودان، بينما الديمقراطية في تونس تعاني من الإجراءات الاستثنائية.
فخلال العقود التي تلت حصول دول قارة إفريقيا على الاستقلال من الاستعمار الغربي، كانت الانقلابات العسكرية أمراً معتاداً، إذ ظل العدد الإجمالي لمحاولات الانقلاب في إفريقيا، في العقود الأربعة بين عامي 1960 و2000 ثابتاً، بمتوسط بلغ حوالي أربع محاولات انقلاب سنوياً. لكن في العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، أي من 2000 وحتى 2019 انخفض المتوسط إلى حوالي محاولتين انقلابيتين فقط كل عام.
لكن مسار الديمقراطية في القارة السمراء خلال عام 2021، الذي يستعد للرحيل، لوَّنته الانقلابات العسكرية وتداعيات كورونا والانتخابات المثيرة للجدل، ففي تشاد ومالي وغينيا والسودان وقعت انقلابات عسكرية، بينما شهدت تونس استيلاء قيس سعيد الرئيس المنتخب ديمقراطياً على السلطة بإجراءات استثنائية وصفها أكبر حزب في البلاد بالانقلاب.
انقلاب السودان
أحد التعريفات المستخدمة للانقلاب أنه محاولة غير قانونية وعلنية من قبل الجيش- أو غيره من المسؤولين المدنيين- لعزل قادة بلد من مناصبهم. وحددت دراسة أجراها الباحثان الأمريكيان، جوناثان باول وكلايتون ثين، أن أكثر من 200 محاولة من هذا القبيل نُفذت في إفريقيا منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي.
وأشارت الدراسة إلى أن حوالي نصف هذه الحالات كانت ناجحة، أي أنها استمرت لأكثر من سبعة أيام. يقول باول لهيئة الإذاعة البريطانية BBC: "ينكر قادة الانقلاب بشكل شبه دائم أن عملهم كان انقلاباً في محاولة لجعله شرعياً"، مستشهداً بالانقلابات في مالي وغينيا والسودان.
ويرى إندوبويسي كريستيان أني، من جامعة كوازولو ناتال، أن الانتفاضات الشعبية ضد الحكام المستبدين الذين خدموا لفترة طويلة وفرت فرصة لعودة الانقلابات في إفريقيا، وأضاف لبي بي سي: "في حين أن الانتفاضات الشعبية شرعية ويقودها الناس، إلا أن نجاحها غالباً ما يتحدد بقرار الجيش".
لكن هذا الأمر بدأ في التغير، كما يقول مدير المعاهد الديمقراطية الوطنية في إفريقيا، كريستوفر فومونيوه، في حوار مع دويتش فيله: "الأمر السار بشأن الانقلابات اليوم أن الناس لم يعودوا على استعداد لقبول الانقلابيين ببساطة أو السماح لأنفسهم بأن يكونوا شركاء لهم".
ففي السودان على وجه الخصوص، تحدى عشرات الآلاف من السودانيين مراراً وتكراراً مدبري الانقلاب. ولم يردعهم عن ذلك حتى إطلاق النار عليهم من قبل الجيش. وفي نهاية المطاف اضطر الجيش إلى إعادة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك إلى منصبه على مضض.
كان السودانيون قد استيقظوا، الإثنين 25 أكتوبر/تشرين الأول، على حملة اعتقالات، شملت حمدوك وعدداً من وزرائه ومستشاريه وقادة قوى "إعلان الحرية والتغيير"، المكون المدني في السلطة الانتقالية في البلاد، ثم ألقى قائد الجيش عبد الفتاح البرهان بياناً في اليوم نفسه، أعلن خلاله جملة قرارات أنهت عملياً الشراكة بين العسكر والمدنيين في البلاد.
إذ قرر البرهان إقالة حكومة حمدوك ومديري الولايات في السودان، كما حل مجلس السيادة، وألغى قرار حل المجلس العسكري، وجمّد عدداً من مواد الوثيقة الدستورية الموقعة في أغسطس/آب 2019، بمثابة دستور للفترة الانتقالية في البلاد، وانفرد البرهان وزملاؤه في المجلس العسكري بالسلطة في البلاد.
ووسط تقارير عن وساطات تتم بين البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو من جهة وحمدوك، الموجود قيد الإقامة الجبرية، من جهة أخرى، شهد الأحد 21 نوفمبر/تشرين الثاني رفع الإقامة الجبرية عن حمدوك بعد توقيعه على اتفاق سياسي جديد مع البرهان، عاد بموجبه إلى منصبه رئيساً للوزراء وأعاد البرهان مجلس السيادة الذي كان قد أعلن حله من قبل.
ونص الاتفاق السياسي الذي وقعه حمدوك والبرهان على 14 بنداً، أولها التأكيد على الوثيقة الدستورية لسنة 2019 والمعدلة في 2020، وأنها المرجعية الأساسية القائمة لاستكمال الفترة الانتقالية، وثانيها ضرورة تعديل الوثيقة الدستورية بالتوافق بما يضمن مشاركة سياسية واسعة عدا حزب "المؤتمر الوطني" المحلول (حزب الرئيس المعزول عمر البشير). لكن القوى المدنية لا تزال مصرة على رفض اتفاق البرهان وحمدوك وتعتبره استمراراً للانقلاب.
تونس وإجراءات قيس سعيد
وعلى الرغم من أن تونس لم تشهد انقلاباً عسكرياً، إلا أن الإجراءات الاستثنائية التي أقدم عليها الرئيس قيس سعيد وضعت مسار الديمقراطية في البلاد في مفترق طرق مرة أخرى. كان سعيّد قد قرر فجأة يوم 25 يوليو/تموز الماضي إقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي، متولياً بنفسه السلطة التنفيذية بمعاونة حكومة قال إنه سيعين رئيسها، كما قرر تجميد اختصاصات البرلمان لمدة 30 يوماً، ورفع الحصانة عن النواب، وقرر ترؤس النيابة العامة، ولاحقاً أصدر أوامر بإقالة مسؤولين وتعيين آخرين.
ثم قرر سعيّد تمديد تجميد عمل البرلمان لأجل غير مسمى، وأعلن مؤخراً عن إجراء انتخابات قال إنها سوف تنعقد بعد عام من الآن. وقرر الرئيس إجراء "استشارة شعبية على الإنترنت" تشمل التونسيين في الداخل والخارج، لتقديم مقترحات بشأن الإصلاحات السياسية، في الفترة بين الأول من يناير/كانون الثاني وحتى نهاية شهر مارس/آذار عام 2022.
ووفق قرارات الرئيس، فإنه سوف يتم إجراء استفتاء على هذه الإصلاحات المقترحة في الخامس والعشرين من يوليو/تموز المقبل. وسوف تجرى الانتخابات البرلمانية يوم 17 ديسمبر/كانون الأول عام 2022، حسبما أعلن سعيد.
كل ذلك في وقت فاقمت فيه أزمة وباء كورونا الحالة الاقتصادية الصعبة أصلاً للبلاد، ليرتفع معدل إلى نسبة 6% ونسبة البطالة إلى 18%، بينما تجاوز حجم ديون تونس الخارجية 30 مليار دولار وباتت خزينة الدولة على أبواب الإفلاس.
وفي هذا السياق يقول تقرير لمعهد التنمية الألماني في بون: "إن الشعب التونسي وحده هو من يمكنه أن يقرر بنفسه، وسيقرر ما إذا كانت الأزمة الحالية تعني العودة إلى الحكم الاستبدادي أو ما إذا كانت خطوة نحو نوع من الديمقراطية التمثيلية".
ويمكن رصد ملامح الموقف الحذر للعواصم الغربية من الأزمة في تونس، في أحدث بيان صادر عن مجموعة الدول الصناعية الكبرى. بينما رحبت الخارجية الأمريكية بخارطة الطريق التي أعلن عنها سعيّد وشددت في نفس الوقت في أن "تكون عملية الإصلاح شفّافة وأن تشمل تنوّع الأصوات السياسية والمجتمع المدني"، مؤكدة أن "الولايات المتّحدة تدعم تطلّعات الشعب التونسي إلى حكومة فعّالة وديمقراطية وشفّافة تحمي الحقوق والحريات".
مقاومة شعبية للانقلابات في إفريقيا
كان السودان قد شهد، منذ الاستقلال، أكثر من 15 انقلاباً، نجح خمسة منها فقط. كما اشتهرت نيجيريا بالانقلابات العسكرية في السنوات التي أعقبت الاستقلال بثمانية انقلابات بين يناير/كانون الثاني 1966 واستيلاء الجنرال ساني أباتشا على السلطة عام 1993. ومع ذلك، فمنذ عام 1999، تنتقل السلطة في نيجيريا، أكبر دولة إفريقية من حيث عدد السكان، عن طريق انتخابات ديمقراطية.
وتميز تاريخ بوروندي بأحد عشر انقلاباً منفصلاً، مدفوعة في الغالب بالتوترات بين مجتمعات الهوتو والتوتسي. وشهدت سيراليون ثلاثة انقلابات بين عامي 1967 و1968، وانقلابات أخرى في عام 1971. أما بين عامي 1992 و1997، فشهدت البلاد خمس محاولات انقلاب أخرى.
وحصلت غانا أيضاً على نصيبها من الانقلابات العسكرية، حيث شهدت ثمانية انقلابات في عقدين من الزمن. كان الأول عام 1966، عندما أُزيح كوامي نكروما من السلطة، تلت ذلك محاولة فاشلة من قبل صغار ضباط الجيش في العام التالي.
وبشكل عام، شهدت إفريقيا انقلابات أكثر من أي قارة أخرى، وشهدت مالي انقلاباً عام 2020 ثم "انقلاب داخل الانقلاب" عام 2021، بينما كانت غينيا أيضاً من الدول التي شهدت انقلاباً هذا العام وكذلك تشاد.
لكن على الرغم من عودة الانقلابات بمعدلات مرتفعة إلى القارة السمراء خلال العام المنصرم، إلا أن غالبية شعوب دول إفريقيا يرفضون الرؤساء الاستبداديين، ويتضح هذا من خلال الاحتجاجات الحاشدة في العديد من دول إفريقيا، وليس في السودان وحده.
ففي السنغال نزل الشباب على وجه الخصوص إلى الشوارع تحت وسم #FreeSenegal (سنغال حرة) ضد رئيس الدولة الحاكم الاستبدادي بشكل متزايد ماكي سال. كما اندلعت مظاهرات عنيفة ضد الملك الاستبدادي مسواتي الثالث في إيسواتيني أيضاً، لكن قوات الجيش والشرطة نكلوا بهم وقمعوا تظاهراتهم.
وفي هذا السياق تقول غراوفوغل من معهد "جيجا" للدراسات الإفريقية لدويتش فيله: "لا تزال شعوب دول إفريقيا تفضل الديمقراطية على أي شكل آخر من أشكال الحكم. وهذا يعني أن هناك رغبة قوية جداً في الديمقراطية".
كما أن المنظمات الإفريقية باتت تتعامل اليوم مع مدبري الانقلابات بشكل أقوى مما كانت عليه في السابق، إذ تقول غراوفوغل: "لمست في ردود فعل المنظمات الإقليمية التي جاءت متسقة نسبياً، بصيص أمل، خاصة من قبل الاتحاد الإفريقي، الذي علق عضوية السودان في الاتحاد بعد الانقلاب".
ويأمل المعارض الأوغندي البارز بوبي واين، وهو لا يزال في الـ39 من العمر، أن تشكل مثل هذه الأمثلة سابقة في القارة السمراء برمتها، ويقول: "في أوغندا وأجزاء كثيرة من إفريقيا لا تعمل الحكومات والحكام إلا على تمجيد الذات والإثراء بكل الطرق الممكنة. ولن يتوقف ذلك إلا إذا خرجت أجيال الشباب لمعارضة ذلك الوضع ومواجهته".
والنتيجة ذاتها خلصت إليها دراسة نشرها موقع Africa Report بعنوان "إفريقيا في 2021.. نهاية الديمقراطية؟"، إذ رصدت الدراسة ارتفاع الانقلابات في القارة السمراء هذا العام، لكن في الوقت نفسه ارتفعت الأصوات الشعبية الرافضة للاستسلام لهذا التراجع في المسار الديمقراطي، ولم يعد رفض الانقلابات مرتبطاً فقط بمواقف الدول الغربية، التي تقوم بالأساس على حسابات تلك الدول الخاصة بمصالحها.