سلط تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية الضوء على تصاعد الجرائم التي يرتكبها جيش ميانمار أملاً في سحق المقاومة المتنامية له بمناطق متفرقة من البلاد، وذلك بعيد الانقلاب العسكري الذي نفذه ضد الحكومة المدنية في شباط/ فبراير 2021.
وتروي الصحيفة أحداثاً من بلدة دمرها الجيش مؤخراً شمال غرب ميانمار، تدعى ثانتلانغ، والتي كانت تنعم بالسلام طيلة عقود. وكان سكان القرية المسيحيين في غالبهم يعتزون بمنازلهم الواقعة بين الجبال، حيث كانوا يستضيفون مسابقة سنوية لكرة القدم لكنَّ كل ذلك تغيَّر بعد الانقلاب العسكري، إذ برزت ولاية تشين، التي تضم بلدة ثانتلانغ باعتبارها معقلاً غير مُتوقَّع للمقاومة في الوقت الذي تنحدر فيه ميانمار نحو الحرب الأهلية.
جيش ميانمار للسكان المحليين: "سنحرق بلدتكم عن بكرة أبيها"
في أغسطس/آب الماضي، استدعى الجيش أعيان بلدة ثانتلانغ لإيصال تحذير. فقال قس من إحدى كنائس ثانتلانغ، تحدث شريطة عدم الكشف عن هُويته خشية الانتقام، إنَّ أحد القادة "أخبرنا مراراً بأنَّ البلدة ستُحرَق عن بكرة أبيها وتصير رماداً إن لم نتعاون معهم".
وحين بدأ القصف بعد أقل من شهر، سارع السكان لبث المذبحة على الهواء مباشرةً. كان مقاتلون متمردون قد كمنوا لقوات المجلس العسكري، فقتلوا عدة جنود، وردَّ الجيش بقصف البلدة وإحراق أكثر من 12 منزلاً في 18 سبتمبر/أيلول 2021.
فرَّ كل سكان البلدة تقريباً، تاركين منازلهم وأشغالهم. ويرصد مقطع فيديو التُقِطَ قبل عام من ذلك تقريباً الدمار الذي خلَّفته النيران التي اجتاحت الممر الرئيسي للبلدة، وكانت تلك مجرد البداية كما تقول الصحيفة الأمريكية.
صعَّد الجيش، المعروف باسم "تاتماداو"، استخدامه للقوة ضد المدنيين باستخدام أساليب شحذها خلال الفظائع السابقة، وذلك بعدما لاقى مواجهة مسلحة عقب استيلائه على السلطة. ويكشف تحليل أجرته صحيفة The Washington Post الأمريكية لأكثر من 300 مقطع فيديو وصورة، بعضها لم يُعلَن عنه من قبل، فضلاً عن صور بالأقمار الصناعية وروايات لشهود عيان ووثائق تخطيط عسكري، حملة حرق وقتل متعمدة تستهدف المدنيين في ولاية تشين بدأت في سبتمبر/أيلول الماضي.
على غرار ما فعلوه بمسلمي الروهينغا
وتُظهِر وثائق التخطيط العسكري أنه جرى التخطيط للهجمات في وقت مبكر يعود إلى يونيو/حزيران الماضي، وأنَّ الجنود قد حصلوا على إذن لـ"تطهير" المنطقة، وهي أوامر مماثلة لما كان في عملية عام 2017 ضد مسلمي الروهينغيا. وتُورِّط الوثائق، المدعومة بأدلة مرئية، القادة في الفظائع لأول مرة منذ الانقلاب.
وفي ثانتلانغ، وجدت الصحيفة الأمريكية أنَّ الجيش عاد، على مدى ثلاثة أشهر، عدة مرات لتدمير معظم المباني بطول الطريق الرئيس بالبلدة. فبعد القصف والنيران في سبتمبر/أيلول، عاد الجنود في الشهر التالي ونهبوا المنازل المهجورة واستولوا على أجولة الأرز والنقود والمشروبات الكحولية. ووفقاً لروايات شهود عيان وأدلة مرئية، عادوا في 29 أكتوبر/تشرين الأول الماضي للحرق.
وقال أحد أعيان بلدة ثانتلانغ الذين حضروا لقاءات أغسطس/آب: "كل ما حذرونا منه يحدث لنا ولبلدتنا".
بضعة ناجين من المحرقة
تقول "واشنطن بوست"، إنه لم يتبقَّ إلا بضعة قرويين ونحو 20 طفلاً في أحد الملاجئ خارج البلدة ليشهدوا الأعمال التي وقعت في ذلك اليوم من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. كان بو بان هايك، الرجل البالغ الوحيد الذي كان موجوداً في ثانتلانغ آنذاك، يشاهد من ثقب الباب حين استخدمت القوات مادة محفزة لإشعال النيران.
وحين أدرك بو بان هايك أنَّ منزله سيُحرَق أيضاً، اختبأ مع أمه العجوز وصديقتها في حفرة طينية أسفل المنزل وظلوا هناك حتى غادر الجنود في المساء.
ووفقاً لتحليل الصحيفة الأمريكية للصور المتاحة، احترق حتى الآن نحو مليوني قدم مربعة (185806 متراً مربعاً). يمثل ذلك قرابة 30% من ثانتلانغ، أو نحو 600 من المباني الألفين القائمة في البلدة. ووفقاً لمنظمة "تشين لحقوق الإنسان"، دُمِّرَت كل محال وأعمال البلدة التجارية تقريباً.
ومنذ حرائق سبتمبر/أيلول، أحرق الجيش أجزاءً كبيرة من ثلاث قرى أخرى على الأقل، بما في ذلك منازل لمدنيين وأبنية دينية، وقتل أكثر من 10 مدنيين، بينهم قياديين مسيحيين في ولاية تشين. ويستحضر استهداف الأقليات الدينية أيضاً إلى الأذهان حملة الروهينغا، التي تخضع لتحقيق من محكمة العدل الدولية بشأن احتمالات حدوث إبادة جماعية.
قال هين لن بيانغ، وهو موظف سابق لدى نائب القائد المسؤول عن عملية ولاية تشين، والذي انشق عن الجيش في أكتوبر/كانون الأول الماضي على خلفية المعارضة الأخلاقية لتلك الأساليب: "الأوامر بسيطة: اقضوا على التمرد وحسب". وقال إنَّ القوات على الأرض حصلت على "حصانة تامة".
وتدحض الحرائق وتحركات القوات تأكيدات الجيش بأنَّ المقاتلين المتمردين هم مَن أشعلوا النيران. ووفقاً لخبيرين قانونيين اطلعا على المواد التي حصلت عليها صحيفة The Washington Post، تضيف أفعال الجيش في تشين مزيداً من الأدلة التي تشير إلى ارتكابه جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.
فقال توم أندروز، مقرر الأمم المتحدة المعني بميانمار: "بالنسبة لهم، الأضرار الجانبية ليست جانبية، بل هي المقصد. هذه قوة ساحقة مُوجَّهة لأهداف مدنية".
وقدَّمت مجموعة واحدة على الأقل أدلة للمحكمة الجنائية الدولية تفيد بارتكاب مين أونغ هلاينغ، قائد جيش ميانمار، جرائم ضد الإنسانية. وتلقَّت "آلية التحقيق المستقلة من أجل ميانمار" التابعة للأمم المتحدة، والتي أُنشِئَت للتحقيق في أخطر الجرائم التي يُزعَم أنَّ الجيش ارتكبها ضد القانون الدولي منذ 2011 نحو 220 ألف دليل منذ الانقلاب.
عمليات تصفية خاصة
وفي محرقة أخرى تشابه ما حدث ببلدة ثانتلانغ، قالت تقارير إعلامية وجماعة محلية في ميانمار معنية بحقوق الإنسان إن أكثر من 30 شخصاً منهم نساء وأطفال، قتلوا وأحرقت جثثهم في ولاية كاياه جنوب ميانمار، الجمعة 24 ديسمبر/كانون الأول 2021.
جماعة "كاريني" المدافعة عن حقوق الإنسان، أفادت بأنها عثرت السبت 25 ديسمبر/كانون الأول 2021 على الجثث المحترقة لنازحين قتلهم الجيش الذي يحكم البلاد، قرب بلدة هبروسو في قرية مو سو. كتبت الجماعة في منشور على موقع فيسبوك: "نندد بشدة بالقتل اللاإنساني والوحشي الذي ينتهك حقوق الإنسان".
وتظهر صور نشرتها الجماعة المدافعة عن حقوق الإنسان ووسائل إعلام محلية، الجثث المتفحمة على متن السيارات المحترقة. بدورها، ذكرت وسائل إعلام رسمية نقلاً عن الجيش إنه "قتل بالرصاص عدداً غير محدد من الإرهابيين بحوزتهم أسلحة من قوات المعارضة المسلحة في القرية"، وأضاف أنهم كانوا على متن سبع سيارات ولم يمتثلوا لأوامر الجيش بالتوقف.
ومع تنامي المقاومة للمجلس العسكري، شكَّلت مجموعات متمردة "قوة الدفاع الشعبي" لتكون جناحاً مسلحاً للحكومة المعزولة، الأمر الذي يؤدي إلى استنزاف موارد جيشٍ يقاتل بالفعل جيوشاً عرقية في المناطق الحدودية.
كان هين لن بيانغ يعمل في أبريل/نيسان الماضي في "قيادة العمليات التكتيكية" في هاخا، عاصمة ولاية تشين، حين بدأ المتمردون من بلدة ميندات المقاومة المسلحة للجنود باستخدام بنادق صيد وأسلحة أخرى.
قتل المتمردون، الذين أطلقوا على أنفسهم اسم "قوة دفاع تشينلاند"، عشرات الجنود بعدما كمنوا لشاحناتهم قبل أن يبلغوا بلدة ميندات. استخدم الجيش المدفعية الثقيلة والمروحيات لقصف البلدة، ما تسبب في نزوح أكثر من 10 آلاف من السكان. لكن في ظل معرفتهم الأفضل بالمنطقة والولاء القوي للزعيمة المعزولة أونغ سان سو تشي وحزبها "الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية"، قاوم المتمردون.
وقال هين لن بيانغ إنَّ الأحداث في ميندات دفعت الجيش لإرسال تعزيزات إلى تشين. وبصفته موظفاً، فكان أيضاً مساعداً شخصياً لنائب قائد القيادة العسكرية للمنطقة الشمالية الغربية، ميو هتوت هلاينغ، وعَمِلَ كحلقة وصل بين القوات على الأرض وكبار القادة.
وقال بيانغ في مقابلة: "اعتقدوا أنَّهم فقدوا السيطرة كلياً في ميندات لبعض الوقت، لذا كانوا يستعدون لتفادي حدوث موقف كهذا مجدداً". وقال بيانغ إنَّ القوات بدأت تصل في يونيو/حزيران، بما في ذلك الفرقة 11 مشاة خفيفة والكتيبة 222 مشاة.
وتُظهِر وثيقة منفصلة شاركها بيانغ مع صحيفة The Washington Post أنَّ الجيش قد أذن بـ"عملية تصفية خاصة" في تشين "ستبدأ في ما بين 4 أكتوبر/تشرين الأول 2021 و17 أكتوبر/تشرين الأول".
وبحلول مطلع أكتوبر/تشرين الأول، كانت قوافل الجيش التي ضمَّت مركبات مشاة قتالية مسلحة والعشرات من شاحنات النقل تنتقل من بلدة كالاي إلى ولاية تشين، وسلكت الطريق الذي ورد في الوثائق والذي من شأنه أن يقود في الأخير إلى ثانتلانغ.
توقفت القوافل ببلدات على طول الطريق الرئيسي، مُخلِّفةً وراءها نيراناً ودماراً. وقال بيانغ إنَّ الجنود كانوا يأملون شن حملة عقابية في مختلف أرجاء الولاية، مدركين أنَّهم كانوا يواجهون تمرداً.
وبين 11 و25 أكتوبر/تشرين الأول، رُصِدَت أدلة على وجود حركة للجيش بطول هذا الطريق 11 مرة على الأقل، وذلك وفقاً لأكثر من 40 مقطع فيديو وصورة جرى الاطلاع عليها وتحديد مواقعها الجغرافية من جانب الصحيفة الأمريكية ومشروع "Myanmar Witness"، وهو مشروع يقوم عليه مركز "Center for Information Resilience".
مرَّت واحدة من هذه القوافل، تتألف من أكثر من 20 مركبة عسكرية، عبر قرية ثلانراون الجبلية في 14 أكتوبر/تشرين الأول. وتقع القرية في المنطقة التي أمر الجيش بالقيام بـ"تصفية" فيها. وقد أُضرِمَت النيران في خمسة منازل على الأقل ذلك اليوم.
وعلى مدار الأسبوع التالي، ظهرت صور مماثلة لعشرات المركبات العسكرية تتحرك جنوباً، عبر المنطقة التي أُمِروا بتطهيرها. وتُظهِر الأدلة المرئية التي راجعتها الصحيفة الأمريكية وحددت موقعها الجغرافي أنَّها وصلت إلى هاخا في 20 أكتوبر/تشرين الأول.
فجَّر الجنود المتمردون جسراً يربط بين هاخا وثانتلانغ في اليوم التالي، على أمل أن يبطئ ذلك تقدم الجيش. لكنَّها لم تفعل الكثير لوقف الهجوم، أو لتغيير مصير ثانتلانغ.
"سنحرقهما عن بكرة أبيهما"
مع تحرُّك الجنود عبر ولاية تشين، لم يتركوا شكاً بشأن هدف مهمتهم. فقد أضرموا النيران بمناطق في ثلاث قرى على الأقل بطول الطريق بين بلدتيّ فالام وهاخا بحلول 25 أكتوبر/تشرين الأول، ما أدَّى لتدمير نحو 34 مبنى، بما في ذلك بلدة ريالتي بالكامل، وذلك وفقاً لتحليل لصور الأقمار الصناعية حصلت عليه صحيفة The Washington Post.
وبعد الحرائق التي أُضرِمَت في قرية تال، على بُعد 64.4 كم من ثانتلانغ، تركت القوات رسائل مشؤومة على جدران المنازل. تقول إحدى الرسائل التي كانت تشير إلى منظمتي التمرد الرئيسيتين في تشين، قوة الدفاع الشعبي وجيهة تشين الوطنية، "سنحرقهما عن بكرة أبيهما". وقد أحرقت نحو ربع القرية ذلك اليوم.
وبحلول أكتوبر/تشرين الأول، فيما كانت النيران مشتعلة في أرجاء ولاية تشين، كانت ثانتلانغ قد هُجِرَت إلى حدٍ كبير. فقد فرَّ أعيان البلدة وبقية سكانها البالغ عددهم 10 آلاف نسمة إلى القرى المجاورة، وعَبَرَ البعض الحدود الهندية بعد نيران يوم 18 سبتمبر/أيلول.
وقد أصبحت مخاطر العودة واضحة في 29 سبتمبر/أيلول، حين حاول خمسة من أعيان البلدة استعادة بعض متعلقاتهم بإذن من الجيش. وقد وقعوا في كمين حين مغادرتهم، وقُتِلَ اثنان منهم.
نشر الجندي أول أونغ كياو نايين من الكتيبة 222 مشاة، والذي نُشِرَ ضمن قوات الجيش في ثانتلانغ، عدة صور ومقاطع فيديو، قال فيها إنه لا حاجة للرحمة وقارن المتمردين بالجهاديين، وهي لغة مشابهة لتلك التي استخدمها الجيش سابقاً للإشارة إلى الروهينغا.
تستمر قوة الدفاع الشعبي في مهاجمة الجنود في ولاية تشين. وأفادت وسائل الإعلام في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بأنَّ المتمردين قتلوا أونغ كياو نايين. وظلَّ بو بان هايك في ثانتلانغ مختبئاً، إلى أن أجلاه المتمردون مساء 29 أكتوبر/تشرين الأول.
ووفقاً لصور الأقمار الصناعية التي تعود إلى يوم 18 ديسمبر/كانون الأول، وفي ظل وجود المدينة في حالة خراب، عاد الجنود وغامروا بالذهاب جنوباً أكثر ودمَّروا 200 مبنى على الأقل في منطقة لم تكن قد مُسَّت سابقاً. وتُظهِر أدلة مرئية لم تُنشَر سابقاً واطلعت عليها الصحيفة الأمريكية جنوداً ومركبات عسكرية تحيط بالمباني قبل وبعد حرقها، بما في ذلك كنيسة أخرى. وفي ما عدا ذلك، كانت البلدة خالية بما ينفي حجة الجيش بأنَّ مقاتلي المقاومة مسؤولون عن الحرائق.
وقالت بريا بيلاي، وهي محامية دولية اطلعت على أدلة الصحيفة، إنَّ أعمال الجيش في الغالب تمثل جرائم ضد الإنسانية. وأضافت بيلاي أنَّ تدمير الكنائس يمثل أيضاً انتهاكاً لقوانين الحرب والاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها ميانمار.
ولا يزال الإبلاغ عن الفظائع في مختلف أنحاء ميانمار مستمراً. ففي منطقة ساغاينغ التي تحد ولاية تشين، عثر القرويون هذا الشهر على بقايا 11 مراهقاً متفحماً في كومة. كانوا مربوطين معاً ومصابين بطلقات نارية وأجسادهم محترقة.