على مدى 10 سنوات استغلت إسرائيل شركة NSO وبرنامجها الأخطر بيغاسوس لأغراض سياسية ودبلوماسية دون أن تتدخل أمريكا، لكن صفقة سرية مع دولة إفريقية أثارت غضب واشنطن.
وبرنامج بيغاسوس للاختراق أو التجسس طوّرته شركة NSO Group الإسرائيلية وباعته لحكومات حول العالم على مدى عقد كامل، ولديه القدرة على اختراق مليارات الهواتف التي تعمل بأنظمة تشغيل iOS أو أندرويد.
وفي يوليو/تموز الماضي، نشرت صحيفة الغارديان البريطانية نتائج تحقيق أجرته 17 مؤسسة إعلامية، أفاد بأن برنامج بيغاسوس انتشر على نطاق واسع حول العالم، "ويتم استخدامه لأغراض سيئة"، وزعم التحقيق أن حكومات 10 بلدان على الأقل من بين عملاء شركة NSO، بينها المغرب والسعودية والإمارات.
صفقة إفريقيا السرية
الشركة الإسرائيلية تأسست عام 2010 ويعمل فيها نحو 500 موظف، وتتخذ من تل أبيب مقراً لها. لكن فجأة أثارت الشركة غضب واشنطن ووجدت طريقها قبل نحو شهر إلى القائمة السوداء لتواجه المجهول.
ونشرت صحيفة Financial Times البريطانية تقريراً بعنوان "صفقة إفريقيا السرية التي أوصلت شركة NSO إلى حافة الانهيار"، رصد تفاصيل صفقة ترجع إلى قبل عامين استخدم بيغاسوس من خلالها للتجسس على دبلوماسيين أمريكيين.
إذ سافر الرئيس التنفيذي لشركة NSO الإسرائيلية، شاليف هوليو، إلى أوغندا عام 2019 لإتمام صفقة بيع برنامج بيغاسوس الشهير مع ابن الرئيس الأوغندي، موهوزي كاينيروغابا، المسؤول عن أمن والده، وفقاً لشخصين مطلعين على صفقات NSO في شرق إفريقيا.
ويعتبر بيغاسوس أقوى برنامج تجسس على الإطلاق، فحالما يجد طريقه إلى هاتفك، ودون أن تلاحظ، يتحوّل الهاتف إلى جهاز مراقبة يعمل على مدار الساعة، فيصبح بإمكانه نسخ الرسائل التي ترسلها أو تتلقاها، وجمع صورك وتسجيل مكالماتك، وقد يصورك سراً من خلال كاميرا هاتفك، أو ينشّط الميكروفون لتسجيل محادثاتك، وبإمكانه أيضاً تحديد مكانك، والمكان الذي كنت فيه، والأشخاص الذين قابلتهم.
وكانت الصفقة النهائية محدودة بالنسبة لشركة NSO. إذ قال شخص مطلع عليها للصحيفة البريطانية إن قيمتها كانت في حدود 10 أو 20 مليون دولار، وهذا جزء بسيط من مبلغ الـ243 مليون دولار الذي قدرت شركة موديز أن شركة NSO الخاصة حققته عام 2020.
ولكن بعد حوالي عامين من هذه الصفقة، حاول أحدهم استخدام بيغاسوس لاختراق هواتف 11 دبلوماسياً وموظفاً أمريكياً في السفارة الأمريكية في أوغندا، وفقاً لمسؤولين أمريكيين.
وليس واضحاً من الذي حاول اختراق هواتف المواطنين الأمريكيين. فقد كانت رواندا، جارة أوغندا، تستخدم بيغاسوس أيضاً لاختراق الهواتف داخل أوغندا، لكن هذا الكشف كان صدمة للولايات المتحدة.
الأمريكيون "خط أحمر"
كانت شركة NSO الإسرائيلية تحرص على تنبيه عملائها إلى أن أرقام الهواتف الأمريكية خط أحمر. وفي هذه الحالة، كان جميع المستهدفين الـ11 يستخدمون أرقاماً أوغندية، لكنهم كانوا على اتصال بأجهزة آبل باستخدام إيميلاتهم في وزارة الخارجية الأمريكية، وفقاً للمسؤولين الأمريكيين.
وقالت شركة NSO إنها أغلقت أنظمة القرصنة "لدى العملاء المرتبطين بهذه القضية" وإنها تحقق فيها. ولم يرد السكرتير الصحفي الرئاسي للرئيس الأوغندي يوري موسيفيني ووزير الإعلام في الحكومة الأوغندية على طلب الصحيفة البريطانية للتعليق. وقال شخص مقرب من موسيفيني إنه "غير مصرح له بالحديث عن هذا الموضوع".
ورفض مسؤولون إسرائيليون وأمريكيون تأكيد أن حادثة القرصنة في أوغندا هي السبب وراء إدراج NSO في القائمة السوداء. لكن أحد المسؤولين الأمريكيين الذين ناقشوا القضية مع وزارة الدفاع الإسرائيلية قال: "انظروا إلى التسلسل الكامل للأحداث هنا، لم يكن من قبيل الصدفة". وأضاف أن الهدف من وضع NSO، إحدى أهم شركات التكنولوجيا الإسرائيلية، على قائمة أمريكية سوداء "معاقبة ونبذ" الشركة.
وإضافة شركة NSO للقائمة السوداء، في نوفمبر/تشرين الثاني، يعني أنه لم يعد بإمكانها شراء أي أدوات أو خدمات أو ملكية فكرية من الشركات التي توجد في الولايات المتحدة دون إذن موافقة، وهو ما أفضى إلى شلّ حركة شركة تستخدم خوادم من ديل وإنتل، وأجهزة توجيه من سيسكو، وأنظمة تشغيل ويندوز، وفقاً لورقة مواصفات من صفقة بيع في غانا غرب إفريقيا.
وفي الأسابيع الأخيرة، على سبيل المثال، طلبت إنتل من جميع موظفيها وقف أي علاقات تجارية قائمة مع NSO، حسبما قال شخص مطلع. وقالت إنتل في بيان إنها "تلتزم بجميع القوانين الأمريكية المعمول بها، بما يشمل لوائح مراقبة الصادرات الأمريكية".
واستقال الرئيس التنفيذي الجديد، إيتسيك بنبنيستي، الذي استقدمته شركة NSO من شركة Partner Communications، وهي واحدة من كبرى شركات خدمات الاتصالات في إسرائيل، بعد أسبوعين من تعيينه في وظيفته الجديدة بعد إدراج الشركة في القائمة السوداء.
وكان الكشف عن التوسع الكبير من جانب دول وحكومات في استخدام بيغاسوس للتجسس على مواطنين ومسؤولين في دول أخرى قد تسبب في أزمات، ربما أشدها حدة ما شهدته العلاقات بين الجزائر والمغرب، وإن لم يكن بيغاسوس السبب الأوحد في ذلك التدهور.
هل تنهار شركة NSO في نهاية المطاف؟
ورغم أن الشركة حاولت التسرية عن موظفيها بحفلة حانوكا في منتجع إيلات، بدا هوليو -الذي عاد لإدارة الشركة بعد استقالة بنبنيستي- أقل تفاؤلاً في مكالمة هاتفية أجراها مؤخراً مع زميل عمل قديم.
وقال شخص مطلع على المكالمة إن هوليو قال لصديقه: "كنا نعلم دوماً أن هذا سينتهي يوماً"، وأبدى استياءه من تحول بعض زبائنه إلى منافسين أقل شهرة.
وبعد انقضاء عشر سنوات كانت فيها الحكومة الإسرائيلية راضية عن شركة NSO، وجدت نفسها الآن مصدر إزعاج في العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة، حيث تصرفهما عن التركيز على مشكلة إيران، وفقاً لما قاله مسؤول في وزارة الخارجية طلب عدم الكشف عن هويته.
وهذا تغير كبير في موقف الحكومة من شركة NSO، التي استخدمها رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو كبطاقة تواصل دبلوماسي مع العديد من الدول، مثل الإمارات والمغرب والبحرين والسعودية، التي لم تكن لديها علاقات رسمية مع إسرائيل.
وهذا الضرر الذي لحق بسمعتها جعل من الصعب عليها أيضاً الاستمرار في توظيف الخريجين الواعدين من وحدات استخبارات الإشارات، الذين يتمتعون بالمهارات المطلوبة لخداع دفاعات هواتف آيفون وأندرويد باستمرار.
وفي الوقت نفسه، دخلت شركة NSO أيضاً مرمى نيران وادي السيليكون، حيث أثارت غضب أبل وميتا باختراقها هواتف أبل وتطبيق واتساب.
وقال شخص مطلع إن نهج آبل ثنائي الاتجاه -تحذير العديد من أهداف NSO، وفي الوقت نفسه مقاضاة الشركة في محاكم أمريكية- أثار اضطرابات في هذه الصناعة.
وكانت آبل ومؤسسة Citizen Lab قد نشرتا أيضاً بعض الأسرار التقنية لشركة NSO، وهو ما أقلق الشركات المنافسة ودفعها لمطالبة عملائها بالتقليل من استخدام برامج التجسس الأخرى، خوفاً من الوقوع في شباك أبل، حسبما قال مسؤول تنفيذي سابق في شركة تكنولوجيا إسرائيلية.
وقال: "يسود شعور بأن هذه حرب شاملة على الصناعة بأكملها"، مضيفاً أن الموظفين الإسرائيليين البارزين في شركة NSO وغيرها من الشركات المماثلة "لا يخرجون من إسرائيل" خشية استجوابهم في الولايات المتحدة والدول الحليفة لها. وفي الوقت الحالي، لم يترك الضغط الأمريكي أمام شركة NSO سوى خيارات قليلة، حسبما قال مطلعون من الشركة.
وقد خفضت شركة موديز مستوى ديون NSO حيث أصبح التدفق النقدي الحر في الشركة سلبياً عام 2020 ويُتوقع أن يظل سلبياً هذا العام. وقالت موديز: "NSO قد لا تتمكن من الامتثال" لاتفاق قروض بقيمة 500 مليون دولار حصلت عليها عام 2019 لتصبح شركة خاصة بقيمة مليار دولار.
واستعانت شركة NSO بمصرف Moelis & Co الاستثماري في نيويورك لتعرف إن كان يمكنها بيع أجزاء من الشركة لتجمع بعض الأموال النقدية، بل وعرضت تغيير بيغاسوس إلى منتج "دفاعي" لو أن ذلك يجعلها أكثر قبولاً لدى المستثمرين الأمريكيين.
لكن هذا الباب أُغلق أيضاً الأربعاء الماضي، بعد أن كتب 18 عضواً من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي إلى وزير الخارجية أنتوني بلينكن ووزيرة الخزانة جانيت يلين لمطالبتهما بمعاقبة NSO بموجب قانون ماغنتيسكي، إلى جانب بعض شركات التجسس الإلكتروني الأخرى.
وإذا وافقت الولايات المتحدة على هذا الطلب، فستُمنع شركة NSO من التعامل مع النظام المصرفي الأمريكي وسيُمنع موظفوها من السفر إلى الولايات المتحدة.