لا يزال اللبنانيون في انتظار أن تُسفر محاولة إيمانويل ماكرون حل الأزمة بين لبنان والسعودية عن تغيير حقيقي في المشهد، بينما الرئيس الفرنسي يبدو أنه حقق أهدافه التي تتصدرها معركته الانتخابية للبقاء في الإليزيه.
كان الرئيس الفرنسي ماكرون قد نجح في "تأمين" اتصال بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ورئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي، واعتبر الأخير أن الاتصال "خطوة مهمة" لإعادة إحياء العلاقات مع الرياض، بعد تدهورها إلى مستوى غير مسبوق، إثر تصريحات حول حرب اليمن أدلى بها جورج قرداحي قبل توليه حقيبة الإعلام في لبنان، ثم قادته إلى الاستقالة في 3 ديسمبر/كانون الأول الجاري.
لكن تاريخ دبلوماسية ماكرون بشكل عام، وفي لبنان بشكل خاص، يلقي بظلال قاتمة من الشكوك حول احتمالات أن ينتج شيء إيجابي يستفيد منه اللبنانيون، بغض النظر عن نوايا الرئيس الفرنسي، بحسب خبراء ومراقبين.
وقد حذّر خبراء من نتائج عكسية لتدخل ماكرون، قد تُدخل لبنان في صراعات جديدة وتبقيه عالقاً في دوامة الأزمات السياسية والانهيار الاقتصادي، مستشهدين بدور الرئيس الفرنسي ومبادراته، في أعقاب تفجير مرفأ بيروت، التي لم تُسفر عن أي تغيير على الأرض.
إذ بعد انفجار مرفأ بيروت، في أغسطس/آب من العام الماضي، تصدّر ماكرون المشهد وزار لبنان أكثر من مرة، وقدم وعوداً سخية للبنانيين وتهديدات عنيفة لزعماء لبنان، ومهلة لتشكيل حكومة، وفي نهاية المطاف لم يتحقق شيء على الأرض، وفي النهاية انسحب الرئيس الفرنسي من المشهد، وها هو يعود لتصدره مرة أخرى في خضم استعداداته للسباق الرئاسي في بلاده.
البيان المشترك بين فرنسا والسعودية حول لبنان
في اليوم التالي لتقديم جورج قرداحي استقالته من حكومة ميقاتي، وفي ختام زيارة ماكرون لمدينة جدة السعودية، صدر "بيان مشترك" بين الرياض وباريس تطرق إلى الشأن اللبناني، وتضمن "ضرورة حصر السلاح بيد مؤسسات الدولة"، وتأكيد القرارات الدولية 1559 و1701 و1680.
وتعود هذه القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي إلى ما بين عامي 2004 و2006، وتشكل بعض مضامينها مادة خلافية بين القوى السياسية في لبنان، خصوصاً تلك التي تنص على تجريد الجماعات اللبنانية من سلاحها.
وتمتلك جماعة "حزب الله"، المدعومة من إيران، ترسانة كبيرة من الأسلحة والصواريخ، وخاضت على مدى سنوات مواجهات عديدة ضد إسرائيل، التي انسحبت عام 2000 من معظم الأجزاء التي كانت تحتلها جنوبي لبنان.
وعادة ما تتهم قوى سياسية لبنانية "حزب الله" بتهديد الساحة الداخلية بهذا السلاح، بينما تقول الجماعة إنه مكرس حصراً للدفاع عن لبنان في وجه إسرائيل، التي تواصل احتلال أراضٍ لبنانية.
وتاريخياً، كانت تسود علاقات دافئة بين الرياض وبيروت، إلا أنها توترت بعد 2016، حين اتهمت السعودية "حزب الله" (حليف الرئيس اللبناني ميشال عون) بأنه يسيطر على القرار السياسي والأمني في البلاد، فضلاً عن تدخله في حرب اليمن بدعم الحوثيين، الذين انقلبوا على الحكومة اليمنية عام 2014.
وتقود السعودية، منذ عام 2015، تحالفاً ينفذ عمليات عسكرية في اليمن دعماً للقوات الموالية للحكومة، في مواجهة قوات جماعة الحوثي المدعومة من إيران، والمسيطرة على محافظات بينها العاصمة صنعاء (شمال) منذ 2014.
وفي هذا السياق، قال الكاتب والمحلل السياسي منير الربيع للأناضول، إن "الموقف الفرنسي أيد شروط الرياض على لبنان لعودة انفتاحها عليه". وأضاف: "لا يمكن إغفال الشق الإقليمي والدولي في البيان (الفرنسي- السعودي)، عندما أكد ماكرون أن السعودية دولة محورية وحاضرة في المعادلة الإقليمية، في ظل مفاوضات فيينا حول نووي إيران".
وتقول دول غربية وإقليمية، في مقدمتها السعودية، إن إيران تمتلك أجندة توسعية في المنطقة وتسعى إلى إنتاج أسلحة نووية، بينما تقول طهران إنها ملتزمة بعلاقات حُسن الجوار، وإن برنامجها النووي مصمم للأغراض السلمية.
ورجح الربيع أن "موقف ماكرون سينعكس صدمة لدى الإيرانيين وحزب الله، ففي حين كانت الإدارة الفرنسية مؤخراً على تواصل مع حزب الله وتنسيق تام مع طهران، جاء البيان المشترك ليشكل استهدافاً للحزب".
"بذلك فإن ماكرون، وانطلاقاً من لبنان وعلاقته بالخليج وحماسته لتوقيع الاتفاق النووي بين الدول الكبرى وإيران، يخوض معركته الرئاسية داخل فرنسا، ويسعى إلى تعزيز حضوره في منطقة الشرق الأوسط".
وفي أبريل/نيسان 2022، تنطلق انتخابات رئاسية يسعى ماكرون من خلالها إلى الفوز بفترة رئاسية ثانية.
تصعيد كبير للأزمة اللبنانية
اعتبر الربيع أنه "في حال كانت هناك جدية وإصرار فرنسي- سعودي على تطبيق مدرجات البيان المشترك، فسينعكس ذلك تصعيداً كبيراً في لبنان". وأضاف أن "أول من سيدفع ثمن ذلك هو رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، في ظل ارتياب حزب الله من تلك التطورات، ما سيؤدي إلى أزمة سياسية جديدة وانقسام إضافي".
"أما في حال كان الموقف الفرنسي كلامياً وشكلياً فقط لتمرير زيارة ماكرون إلى السعودية والاتصال بين بن سلمان وميقاتي، فإن ذلك سيبقي لبنان في نفس المسار الحالي، أي استمرار الانهيار الاقتصادي"، بحسب الربيع.
ويعاني لبنان، منذ أكثر من عامين، من أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه، مع انهيار للعملة المحلية الليرة، وشح في الأدوية والوقود وسلع أساسية أخرى، بالإضافة إلى هبوط حاد في القدرة الشرائية. ويقول خبراء إن المقاطعة السعودية للبنان ترتب تداعيات اقتصادية ومالية قاسية، في ظل تراجع الاستثمارات الخليجية في البلاد، وقرار الرياض وقف جميع وارداتها من لبنان.
تاريخ من المبادرات الفاشلة لماكرون في لبنان
هذه ليست المرة الأولى التي يحاول فيها ماكرون التدخل من خلال ما تُسمى "مبادرة" لحل أزمة سياسية لبنانية، فقد كانت هناك محاولة بعد أيام على انفجار مرفأ بيروت، في 4 أغسطس/آب 2020.
ووقتذاك، أطلق ماكرون "مبادرة" لحل الأزمة في البلاد، بعدما استقالت حكومة حسان دياب، على خلفية الانفجار الضخم الذي أودى بحياة 217 شخصاً وأصاب نحو 7 آلاف آخرين، وفي ظل أزمة اقتصادية طاحنة.
إلا أن مراقبين اعتبروا لاحقاً أن "المبادرة" فشلت، واستمر الفراغ الحكومي 13 شهراً قبل تأليف حكومة ميقاتي، في سبتمبر/أيلول الماضي، وبعد نحو شهر انفجرت الأزمة الدبلوماسية مع السعودية.
ففي 29 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، سحبت الرياض سفيرها في بيروت وطلبت من السفير اللبناني لديها المغادرة، وفعلت ذلك لاحقاً الإمارات والبحرين والكويت واليمن، رفضاً لتصريحات لقرداحي اعتبر فيها أن "الحوثيين في اليمن يدافعون عن أنفسهم ضد اعتداءات السعودية والإمارات".
ووفق المحلل السياسي فيصل عبد الساتر، فإن ما سمي في الإعلام "مبادرة فرنسية لحل الأزمة بين السعودية ولبنان"، سبقها شرط وهو استقالة قرداحي، وهذا ما حصل فعلاً، بهدف فتح باب لحل الأزمة عن طريق ماكرون.
لكن عبد الساتر، القريب من "حزب الله"، عبّر عن اعتقاده، في حديث للأناضول، بأن "استقالة قرداحي قد لا تشكل بداية لحل الأزمة، فالجميع يعلم أن المشكلة ليست بتصريحات قرداحي، وإنما أبعد من ذلك".
"السعودية تعلم أنه لا يقوى أحد في لبنان على تحقيق مثل تلك العناوين الكبيرة التي وردت في البيان المشترك (السعودي- الفرنسي)، حتى وإن تدخل الفرنسيون من أجل ذلك".
وأضاف الساتر: "سبق وأن تدخل الأمريكيون والعالم كله، وأصدروا قرارات من مجلس الأمن بشأن سلاح حزب الله من خلال القرارين 1559 و1701، وهما لا يزالان معلقين، لا سيما بشأن تجريد الحزب من سلاحه، أو أن يكون السلاح في لبنان محصوراً بيد الجيش".
"خلاصة ما حدث أن الرئيس ماكرون يبيعنا أوهاماً، والمساحة التي يتحرك فيها قد تعيد حضوره في المنطقة، لكن دون أن يكون لذلك انعكاس إيجابي على لبنان"، واعتبر الساتر أن "الرياض حققت نصراً معنوياً بزيارة ماكرون واستقالة قرداحي، فضلاً عن توقيع عقود تجارية ضخمة بين البلدين، وبذلك فإن الرابحين من الزيارة هم ماكرون وبن سلمان، والخاسرين الأساسيين هما لبنان واليمن".
وزيارة ماكرون هي الأولى التي يقوم بها زعيم غربي للسعودية منذ مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، داخل قنصلية بلاده بمدينة إسطنبول التركية، في أكتوبر/تشرين الأول 2018، ما أثار الرأي العام العالمي.
أما الناشط السياسي سمير سكاف، فقال للأناضول إن "دور ماكرون في لبنان، وبغض النظر عن نيته، يؤدي إلى تعويم السلطة ذاتها، التي انتفض ضدها الشعب خلال الاحتجاجات العارمة التي اندلعت أواخر 2019 واستمرت عدة أشهر".
وأضاف سكاف، وهو عضو مجموعة "اتحاد ساحات الثورة"، أن "الدعم الدولي مطلوب للبنان، لكن هذا الدعم يجب أن يكون للشعب مباشرة اقتصادياً ومعيشياً، بجانب المساعدة في إجراء انتخابات نزيهة ومراقبتها". وأردف: "نرى أن هذه السلطة يجب تغييرها؛ لأنها هي التي أوصلت لبنان إلى الجحيم الذي نحن فيه".
وكان عشرات المسؤولين الفرنسيين قد تحدثوا لوكالة Bloomberg الأمريكية، معربين عن إحباطهم من إصرار الرئيس ماكرون على تقديم مبادرات رفيعة المستوى، تركز فقط على المظهر أكثر من تركيزه على الجوهر.
وبرغم أنَّ النظام الفرنسي يمنح الرئيس السيطرة الكاملة على السياسة الخارجية، لكن عملية صنع القرار تأخذ في الاعتبار عادةً المزيد من التوجيهات من خارج الفقاعة الرئاسية، ولا سيما من وزارة الخارجية. لكن ماكرون أكثر إصراراً على المضي قدماً بمفرده أكثر مما فعل أسلافه، وقد همّش مراراً وتكراراً أعضاء حكومته، على الرغم من خبرته المحدودة في الشؤون الدولية عندما تولى منصبه.