"طائرات إيران المسيّرة انقلبت عليها"، كان هذا هو التطور الخطير الذي كشفته محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2021.
كان السلاح المستخدم في محاولة اغتيال الكاظمي طائرةً مسيَّرة بدائية للهواة، من النوع الذي يُمكن شراؤه عبر الإنترنت ببضعة آلاف من الدولارات. وقد أُضيف إليها أربع شفرات مروحية على غرار المستخدمة في طائرات الهليكوبتر وبطارية كبيرة الحجم وقنبلة صغيرة قليلة الوزن، ولكنها قوية بما يكفي لتفجير سيارة أو ربما قتل رئيس دولة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
فحص المحققون شظايا الطائرة المسيرة، التي كانت إحدى طائرتين استهدفتا المقر الرسمي لرئيس الوزراء العراقي في 7 نوفمبر/تشرين الثاني، وسرعان ما نسبوا الهجوم إلى الميليشيات العراقية القوية المدعومة من إيران.
وخلص الخبراء إلى أن القنبلة نفسها ذات تصميم سبق أن كان له ارتباط بإيران.
المسؤولون العراقيون خلصوا إلى أن طهران لم تسمح بالهجوم
أما النتيجة الثالثة التي جاءت مفاجِئة لبعض المحللين: فهي أن المسؤولين العراقيين خلصوا إلى أن طهران لم تاذن بالهجوم، بل وعارضته بشدة في الواقع، وأن محاولة اغتيال مصطفى الكاظمي كانت من عمل الميليشيات الخاصة التي أصبحت الآن مسلحة بطائرات مسيَّرة ولديها الجرأة والقدرة على تنفيذ ضربات ذات عواقب كارثية، وأحياناً دون انتظار الموافقة من رعاتها المفترضين.
سلَّط هجوم الشهر الماضي الضوءَ على ما وصفه مسؤولون استخباراتيون وخبراء معنيون بأنه خطر ما انفك يستفحل على الاستقرار في الشرق الأوسط وما وراءه: انتشار الطائرات المسيَّرة الهجومية، لا سيما بين الجماعات شبه العسكرية التي لها علاقات وثيقة مع إيران.
فعلى مدار العامين الماضيين -وعلى نحو أشد لفتاً للأنظار منذ بداية هذا الصيف- استحوذ المقاتلون الشيعة على أساطيل جديدة من الطائرات المسيَّرة، أو "الدرونز"، القادرة على شن ضربات صغيرة الحجم، ولكن عالية الدقة، على مجموعة كبيرة من الأهداف العسكرية والمدنية.
طائرات إيران المسيّرة تخرج عن سيطرتها بعد انتشارها بأعداد كبيرة
تشير تقديرات لمسؤولين استخباراتيين غربيين إلى أن المسلحين في العراق وسوريا وحدهما حصلوا على "عشرات" من الطائرات بلا طيار الجديدة، بدءاً من النماذج الإيرانية المتطورة القادرة على التحليق لمسافات طويلة، إلى الطائرات المسيَّرة الجاهزة الأرخص ثمناً وتعمل بالتحكم فيها عن بُعد ومعدَّلة لحملِ مواد متفجرة صغيرة لكنها قوية. وقال مسؤولون استخباراتيون حاليون وسابقون إن إيران بدأت عمداً في تزويد الميليشيات الحليفة لها في العراق بنوعين على الأقل من الطائرات المسيَّرة بعد وقت قصير من اغتيال إدارة ترامب للقائد العسكري الإيراني قاسم سليماني.
وجاء تسليح الميليشيات العراقية بهذه الطائرات في أعقاب قرارات سابقة من طهران بتوفير الطائرات المسيرة الهجومية للمتمردين الحوثيين في اليمن، ومقاتلي حزب الله في لبنان. كما أن فيلق القدس الإيراني، المسؤول عن دعم شبكة الميليشيات الأجنبية الإيرانية وتسليحها، شارك في تزويدها بأنظمة تشغيل محوسبة لتلك الطائرات، بالإضافة إلى تدريب المسلحين على كيفية تعديل الطائرات المسيَّرة التجارية لتصبح متاحة للاستتخدام العسكري، وفقاً لما قاله مسؤولون استخبارتيون غربيون تحدثوا لصحيفة The Washington Post بشرط عدم الكشف عن هويتهم لحساسية هذه المعلومات الاستخباراتية.
مع ذلك، وبعد أن أمدَّت طهران الميليشيات المتحالفة معها بالطائرات المسيّرة والمعرفة اللازمة لتشغيلها، يبدو أنها بدأت تفقد قدرتها على التحكم في كيفية استخدام هذه الطائرات، كما يقول بعض المسؤولين والمحليين.
الأمر بدأ منذ مقتل سليماني
وقال مسؤولون أمريكيون وعراقيون حاليون وسابقون إن الانضباط داخل شبكة الميليشيات الشيعية في العراق يشهد تراجعاً منذ مقتل سليماني. ولفت مسؤولون وخبراء إلى أن انتشار تكنولوجيا الطائرات المسيّرة يتزامن مع تراجع شعبية الميليشيات داخل العراق، وهو تحول أدى إلى الانخراط في نزاع مفتوح مع الحكومة العراقية، علاوة على الغضب الكامن داخل هذه الميليشيات من القيود التي فرضها الرعاة الإيرانيون.
يقول مايكل نايتس، المحلل العسكري ومحرر مدونة Militia Spotlight المعنية بتعقُّب نشاط المسلحين في العراق وسوريا ودعايتهم على شبكة الإنترنت، إنه "بمجرد أن تصبح هذه الأدوات متاحة في الميدان، يتعذَّر التحكم في كيفية استخدامها".
يقول محللون عسكريون غربيون إن إيران تضخم قدراتها أحياناً، غير أن الطائرات المسيرة تمثل عنصراً أساسياً في العمليات العسكرية الإيرانية بدءاً من مراقبة الحدود خاصة في الخليج العربي، إلى تنفيذ عمليات رمادية ضد خصومها بالمنطقة حيث يعتقد أنها استخدمت من قبل طهران في الهجوم على شركة أرامكو السعودية النفطية في سبتمبر/أيلول 2019.
وسبق أن كشفت مصادر خاصة لـ "عربي بوست" أن الهجوم الذي استهدف معملين تابعين لشركة أرامكو بمحافظة بقيق وهجرة خُرَيص شرقي السعودية، والذي يعد "أكبر عملية في العمق السعودي للطيران المسير"، تم عبر تنسيق مباشر بين الحوثيين "أنصار الله" وقوة "حزب الله" العراقي، وذلك في أول استهداف حقيقي للأمن القومي السعودي من الأراضي العراقية.
وتزايد اعتماد إيران وقوى إقليمية تدعمها على الطائرات المسيرة في اليمن وسوريا والعراق في السنوات الأخيرة.
كما كشف تقرير نشرته شبكة Bloomberg الأمريكية، في يناير/كانون الثاني 2021، أن إيران قامت باختبار طائرة مسيَّرة بعيدة المدى وُصفت بـ"الانتحارية".
ولكن يبدو أن السحر قد انقلب على الساحر، وأن إيران قد تدفع ثمن نشرها لطائراتها المسيرة في المنطقة.
أزمة عسكرية قد تنشب بين أمريكا وإيران بسبب الهجمات العشوائية
يوجد في العراق نحو 3 آلاف جندي أمريكي، وكان الجنود والدبلوماسيون الأمريكيون من بين الأهداف التي تعرضت لهجمات بطائرات الميليشيات المسيّرة في الأشهر الأخيرة، وهو ما أثار مخاوف أمريكية من احتمال وقوع هجوم مميت يمكن أن يؤدي إلى أزمة عسكرية مع إيران، بصرف النظر عما إذا كان في الأمر دليل واضح يربط الهجوم بطهران.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الهجمات المميتة على مسؤولي الحكومة العراقية قد تحمل عواقبها خطورةً مماثلة. فلو نجحت محاولة احتيال الكاظمي على سبيل المثال، كان من الممكن أن تغرق العراق في حالة من الفوضى، وتندلع صدامات جديدة بين الطوائف العرقية والدينية في البلاد.
في أي من المسارين، قد تجد إيران نفسها ملومةً في أزمة ليس لها ضلع فيها، حسب تقريرصحيفة The Washington Post.
وتقول الصحيفة يبدو أن إيران حسبت أنها مقبلة على تعزيز نفوذها بين الجماعات بتزويدها بتلك الطائرات واستغلال الميليشيات في تنفيذ العمليات عنها دون أي إثبات على تورطها. لكن مسؤولين حاليين وسابقين يقولون إن الأمور تغيرت والمخاطر اشتدت وطأتها مع مواجهة الجماعات المسلحة لأسلحة جديدة وتهديدات أكبر.
يقول ماثيو ليفيت، خبير مكافحة الإرهاب السابق في مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي، إنه "من الواضح أن بعض المجموعات لم تعد ترى نفسها وكيلة عن إيران بالأساس، بل جهات فاعلة مستقلة لا تحتاج إلى إذن من أي جهة لفعل ما تريد. وإن إضافة الطائرات المسيّرة إلى هذه المعادلة يُضاعف القلق من وقوع ردود فعل مبالغ فيها وانتشارها خارج نطاق السيطرة".
من نفذ محاولة اغتيال الكاظمي؟
في غضون أيام، قال المسؤولون العراقيون إن الجناة المحتملين في محاولة اغتيال الكاظمي هم عملاء مرتبطون بثلاث ميليشيات شيعية قوية ومعروفة: "عصائب أهل الحق" و"كتائب حزب الله العراقية" و"كتائب سيد الشهداء"، والثلاثة يحظون بدعم إيراني، وإن كانت علاقة عصائب أهل الحق بطهران قد شهدت بعض التوترات مؤخراً. وقد أرسلت إيران مبعوثاً بارزاً من الحرس الثوري إلى بغداد لطمأنة المسؤولين العراقيين وإدانة كل من شارك في هذه الضربة علانية.
من جهة أخرى، فإنه منذ يناير/كانون الثاني، شنَّ مسلحون ما لا يقل عن 6 هجمات بطائرات مسيَّرة ضد القوات الأمريكية وقوات التحالف في العراق. ففي أبريل/نيسان، هاجمت طائرة مسيّرة مسلحة بالمتفجرات مبنى مقر التحالف في مدينة أربيل شمال العراق.
وفي 5 يوليو/تموز، أسقطت القوات الأمريكية طائرة مسيرة من نوع "كوادكوبتر" (رباعية المراوح) مطابقة تقريباً لتلك المستخدمة في محاولة اغتيال الكاظمي بالقرب من السفارة الأمريكية في بغداد. وبعدها بثلاثة أسابيع، عُثر على طائرة مسيرة أخرى من النوع نفسه على سطح أحد المباني المطلة على نهر دجلة في مواجهة السفارة مباشرة.
وفي عدة حالات، كانت القنابل المحمولة على الطائرات المسيَّرة مماثلة لتلك المستخدمة في الهجوم على الكاظمي، وفقاً لمدونة Militia Spotlight، التي قالت إن هذه الطائرات تتسم أيضاً بأنظمة اتصالات وقوة هجومية معززة "تدل على أن وراءها فريق هندسي بارع".
ويلفت دوجلاس باري، وهو محلل في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في بريطانيا، إلى أن المتفجرات التي تحملها تلك الطائرات، وإن كانت في العموم صغيرة جداً وعاجزة عن إلحاق أضرار كبيرة بأهدافها، فإنه حتى الطائرات التجارية الصغيرة أو طائرات الهواة إذا عُزِّزت وسُلِّحت يمكن استخدامها في القتل وإحداث إصابات جسيمة. وأشار باري إلى أن الطائرة المسيَّرة التي استخدمت في الهجوم على منزل الكاظمي كانت نموذجاً للطائرات المسيّرة البدائية، لكنها فعالة إذا استخدمت في هجمات انتحارية على غرار هجمات "الكاميكازي" اليابانية في الحرب العالمية الثانية.
ويخلص باري، الذي ألف كتاباً تعريفياً بصناعة الطائرات المسيّرة الإيرانية، إلى أن هذه الطائرات في حوزة الميليشيات وإن "كانت تتسبب في انفجارات ضعيفة، لصغر حجمها وقلة وزن الحمولة التفجيرية التي يمكنها حملها، فإنك إذا كنت تتطلع إلى استخدامها بوصفها سلاحاً في هجوم إرهابي أو أداةً للاغتيال، فإنها تظل لديها القدرة على الوصول بك إلى هدفك بفاعلية".