في مساء الإثنين 29 نوفمبر/تشرين الثاني، أعلنت جزيرة باربادوس نفسها جمهورية، لتصير أول دولة تتخلى عن تبعيتها لملكة بريطانيا إليزابيث الثانية منذ نحو ثلاثة عقود. وقد جرى التحوّل بشكلٍ ودي، عقب الإشارة إليه العام الماضي في ذروة النشاط السياسي الذي استمد الإلهام من حركة حياة السود مهمة، وذلك بحضور الأمير تشارلز. كما ساد الأجواء شيءٌ من الحذر؛ حيث اتُّخِذَت الخطوة بعد أكثر من 20 عاماً منذ أن أوصت بها لجنةٌ حكومية، كما تقول صحيفة The Guardian البريطانية.
ولكن لا شكّ أنّ التخلّي عن الملكية البريطانية يأتي ضمن حملةٍ أوسع تشمل تقوية العلاقات مع الدول الإفريقية، التي ينحدر منها غالبية أبناء باربادوس، وتجديد المطالبات لحكومة المملكة المتحدة بتعويضات عن الجرائم التاريخية التي ارتكبتها.
الاستغلال والعبودية.. "باربادوس كانت حفرة من الجحيم"
مع اقتراب ذروة موسم السياحة، تُعاني باربادوس مع أسوأ موجة كوفيد-19 تضرب البلاد؛ حيث تنتشر أقنعة الوجه في كل مكان، بينما نصّب العديد من محلات السوبر ماركت والبنايات الحكومية أجهزةً للتحقق من درجات الحرارة. ومع ذلك، يستمر الزوار في الوصول إلى موانئ باربادوس، حيث تجذبهم شواطئ الجزيرة الشهيرة وطقسها اللطيف وغاباتها النائية.
وكانت هذه الثروات الطبيعية نفسها هي السبب الذي جعل من الجزيرة الواقعة أقصى شرق الكاريبي معملاً رائعاً لتطوير شكلٍ جديد من أشكال الرأسمالية في القرن الـ17. إذ ازدهرت زراعة السكر على أراضي باربادوس الخصيبة، الذي يتطلّب إنتاجه جهداً كبيراً وظل لقرون حكراً لأثرى أثرياء أوروبا؛ حيث وفّرت تضاريس الجزيرة المستوية مساحات شاسعة للزراعة.
لكن ابتكاراً آخر كان المسؤول عن إطلاق "ثورة السكر" التي جعلت إنجلترا شديدة الثراء ووضعت نموذجاً انتشر بعدها في الأمريكتين، وهذا الابتكار هو: إتقان النموذج القائم على استخدام الأفارقة المستعبدين في العمل داخل الحقول. ويقول ديفيد كوميسيونغ، سفير باربادوس إلى الجماعة الكاريبية: "لقد تم اختراع نموذج إنتاج مزارع العبودية هنا، في باربادوس".
فبعد أن أُعيد تصنيفهم تحت القانون البريطاني باعتبارهم من (الممتلكات)؛ تعرّض الرجال والنساء والأطفال الذين عملوا في حقول قصب السكر لوحشية تفوق التصورات. إذ وجدت أول دراسة منهجية لصحة المدفونين في مقبرة نيوتن للعبيد أنّ متوسط العمر المتوقع لمن تم فحصهم كان 18 عاماً فقط، مع الاعتقاد بأن حياة النساء كانت أكثر ترويعاً. حيث أوضح كوميسيونغ: "باربادوس كانت حفرةً من الجحيم. لقد كانت مجتمعاً وحشياً وجهنمياً بالنسبة لذوي البشرة السوداء".
"كل ما كنا نعرفه هو تاريخ ملوك وملكات إنجلترا"
بعد عقودٍ من نهاية العبودية، "كان هناك نوعٌ من اللامبالاة، وشيءٌ من الصمت" إزاء تاريخ الجزيرة المخزي بحسب شاعرة باربادوس إستر فيليبس. وترى إستر أنّ تلك اللامبالاة تنبع جزئياً من الشعور بالذنب والعار بين من تحرّروا: "من سيرغب في العودة إلى تذكر آلام صدمته بعد أن خرج منها؟".
واستمر هذا الصمت من جيلٍ لآخر مدعوماً بالمناهج التعليمية الاستعمارية التي يدرسها شباب باربادوس، والتي يُجادل البعض بإنها لم تخضع للإصلاح الكافي حتى يومنا هذا. إذ تقول إستر: "لم أكن أعلم أنّ هناك شيئاً يُدعى تاريخ الهند الغربية أو تاريخ الكاريبي. كل ما كنت أعرفه هو تاريخ ملوك وملكات إنكلترا".
وخلال العقود التي أعقبت استقلال باربادوس قبل 55 عاماً، شهدت البلاد جهوداً تدريجية لمواجهة ماضيها وتداعياته على مستقبلها، ولكن بحذرٍ دائماً. حيث بحثت لجنةٌ حكومية في السبعينيات مسألة التحوّل إلى جمهورية وأوصت بعدم اتّخاذ الخطوة، خشية التجارب المماثلة التي أدّت إلى الاستبداد وعدم الاستقرار في دولٍ كاريبية مثل سورينام وغيانا.
لكن هذا التحفّظ كان براغماتياً بعض الشيء، كما تقول صحيفة الغارديان؛ لأنّ باربادوس كانت تبني مجتمعاً ناجحاً للغاية بكل المقاييس، مع مجموعةٍ من أفضل مؤشرات التنمية البشرية في العالم المُستعمر سابقاً، وبقفزةٍ هائلة عن الأوضاع اليائسة التي سادت عقود الحكم البريطاني. إذ قالت ميلاني نيوتن، أستاذة التاريخ في جامعة تورنتو: "تمتلك باربادوس منظومة خدمات عامة شديدة القوة، وتعليماً رائعاً، ورعايةً صحية جيدة. وهي تعتمد في الكثير من ذلك على السياحة، والشركات العالمية، والاستثمار المصرفي".
هكذا دفعت احتجاجات "حياة السود مهمة" أبناء باربادوس للمطالبة بالاستقلال
تمخّض عام 2020 عن تغيرات زلزالية في كل مكان، ولم تكُن باربادوس استثناءً. حيث شهدت نقطة تحوّل فتحت الباب أمام الحكومة لاقتراح فكرة الجمهورية الموعودة منذ عقود- بعد تأجيلها لسنوات.
وننتقل هنا إلى الحديث عن ألكساندر داونز، الذي كان يُفترض به أن يكون في أستراليا الآن للدراسة، لكنه علق في بلده باربادوس مطلع العام بعد إغلاق الحدود فجأة. وأثناء مروره بساحة الأبطال القوميين، ألقى نظرةً على تمثال الأميرال الإنجليزي هوراشيو نيلسون الذي نُصِّب هناك منذ عام 1813، قبل ثلاثة أعوام من تنصيب تمثاله في لندن.
ويُعتبر داونز (32 عاماً) من أبناء أول الأجيال التي لا تتذكر باربادوس في العصر الاستعماري، ولم تعش سنوات الاستقلال الأولى. وبالتالي يميل هو وأصدقاؤه إلى التشكيك في الأشياء التي تعامل معها آباؤهم باعتبارها أمراً مفروغاً منه: "أتحدث أحياناً إلى والدي أثناء مرورنا ببعض المناطق، فيقول: (يا إلهي، حين كنت طفلاً، لم أكن أستطيع الاقتراب من هذه المنطقة)، فأسأله: (ولم لا؟)".
وتشمل قائمة الأشياء التي يُشكّك فيها داونز مثلاً مكانة الفخر التي مُنِحَت للمدافع عن العبودية البريطانية نيلسون، الذي تسبّب تنصيب تمثاله البرونزي لأول مرة في اندلاع احتجاجات صغيرة قبل عقود، لكن الحكومة استجابت لتلك الاحتجاجات بتدوير التمثال ليتحوّل وجهه بعيداً عن المدينة. ويقول داونز: "لك أن تتخيّل أنّ الحل الوسط لم يكُن التخلص من التمثال، بل مجرد تدويره حرفياً".
وفي منتصف العام، بدأت احتجاجات "حياة السود مهمة" في الانتشار حول دول العالم، بما فيها باربادوس، وقد شعر داونز بأن شيئاً يتغيّر داخل مجتمع الحذر. وبعد التشاور مع أصدقائه، نشر عريضةً تُطالب بإزالة تمثال نيلسون.
وأوضح: "قلت في نفسي، ما الذي نفعله بباربادوس؟ لدينا ماضٍ استعماري، ماضٍ كان غارقاً في العنصرية… وهذا التمثال هو مجرد طوبٍ وحجارة. وإذا بدأنا بالتمثال، فسوف تدور العجلة ونبدأ في التطرّق للقضايا الأكبر".
وقد انتشرت عريضته كالنار في الهشيم لتجمع أكثر من 10 آلاف توقيع، وتتجلى جهوده بعقد اجتماعات مع المسؤولين الحكوميين، قبل تأكيد إزالة تمثال نيلسون في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2020 ونقله إلى متحف.
وربما اعترض البعض على جهوده وطالبوه بعد فتح كتاب الماضي. إذ أوضح داونز: "كانوا يسألونني عن سبب رغبتي في نقل ذلك التمثال الموجود منذ تاريخٍ يسبق ولادتي، ويُطالبونني باحترام تاريخي. فأجبتهم قائلاً إنّ ما أفعله اليوم سيكون جزءاً من تاريخنا أيضاً بعد 10 سنوات".
وخلال الاحتفال الذي أُقيم بمناسبة إزالة التمثال، قالت رئيسة وزراء باربادوس ميا موتلي إنّ هذا النصب الخاص بأبطال معركة طرف الغار كان يُمثّل "تأكيداً على السلطة والهيمنة". ثم رفعت هاتفها أمام الحضور وقالت لهم إنّها وضعت صورة مغني الريغي بوب مارلي خلفيةً لشاشة هاتفها، "حتى تُذكّرني دائماً بأنّ مهمة جيلي تتمثّل في تحرير عقول شعوبنا".
وقد استشعرت ميا أنّ الفرصة سانحة في ذلك العام. لذا أعلنت حكومتها، في نفس يوم إزالة التمثال، أّن باربادوس ستتخلّى عن تبعيتها للتاج البريطاني وستنتخب رئيسها الخاص في غضون عام.