"لا تثقوا بالصين".. هي الرسالة التي يُكرّرها الأمريكيون لقادة إفريقيا، لكن الواقع يشير إلى أن بكين أصبحت القوة العالمية الأكثر نفوذاً في القارة السمراء، فكيف حققت الصين هذا الاختراق؟
وتتمتع قارة إفريقيا برصيد ضخم من الموارد الطبيعية والطاقة البشرية تجعلها أفضل بيئة لفرص الاستثمار الهائلة، وكانت دائماً ولا تزال مسرحاً لأطماع القوى الكبرى. ورغم انتهاء الحقبة الاستعمارية فإنه لا يزال الصراع على خيرات القارة مستمراً بين القوى الكبرى وإن بصور مختلفة.
ومع نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية حقبة التحرر من الاستعمار الأوروبي وظهور الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي كقوتين متصارعتين، سارعت واشنطن بتوجيه رسالة إلى القارة الإفريقية، مفادها "نحن لسنا أوروبا"، لتصبح أمريكا صاحبة نفوذ ضخم في القارة على مدى عقود طويلة.
استراتيجية الصين في إفريقيا
منذ مطلع القرن الحالي، بدأت الصين في توجيه أنظارها نحو القارة الإفريقية، واتّبعت في سبيل ذلك استراتيجية أساسها الاقتصاد وليس الشق الأمني أو العسكري أو التدخل لفرض نظام حكم معين.
وبعد عقدين من الاستراتيجية الصينية، جاء وقت قطف الثمار لبكين، فيما تسعى الولايات المتحدة للعب في الوقت الضائع، مع توجيه رسالة مكررة أيضاً للأفارقة تقول "لا تثقوا بالصين"، بحسب تحليل لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
ويشهد هذا الأسبوع اجتماعات بين كبار المسؤولين الصينيين مع مجموعة من النخب السياسية والعسكرية والمدنية في إفريقيا في العاصمة السنغالية داكار، لحضور الاجتماع الثامن لـ"منتدى التعاون الصيني الإفريقي" (FOCAC).
ويزيد عدد القادة الأفارقة الذين قرروا حضور منتدى التعاون الصيني الإفريقي على أولئك الذين يحضرون اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، بسبب التركيز الصيني على تنمية الشراكات على أساس من اتجاهات تلك الدول في الحكم ومنهجيات عملها الوطنية.
ولفترة طويلة، كانت الرسالة الرئيسية التي وجهتها الولايات المتحدة إلى البلدان الإفريقية هي "نحن لسْنا أوروبا"، في المقابل فإنه منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين على الأقل، باتت رسالة الصين إلى قارة إفريقيا هي "نحن لسْنا الولايات المتحدة".
وحازت الصين مكانة كبيرة لنفسها في إفريقيا من خلال التركيز على بناء العلاقات مع النظراء الأفارقة، والتغطية الإعلامية واسعة النطاق لجميع دروب التعاون، مع الحفاظ في الوقت نفسه على الحد الأدنى من العقوبات والتزامات الشراكة الأمنية.
على النقيض من ذلك، أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن مؤخراً أن إثيوبيا ومالي وغينيا لن تكون مؤهلة للحصول على إعفاء من الرسوم الجمركية على صادراتها إلى الولايات المتحدة، اعتباراً من 1 يناير/كانون الثاني 2022، بسبب انتهاكات حقوق الإنسان التي شاركت فيها أنظمة تلك الدول في منطقة تيغراي الإثيوبية، والحكم العسكري غير الدستوري في مالي وغينيا، الواقعتين في غرب إفريقيا.
الصين حاضرة وأمريكا غائبة
وقد يتعذَّر على المرء أن يتذكر آخر مرة التُقطت فيها الصور لعدد من قادة دول إفريقيا مع رئيس أمريكي، فضلاً عن تلقيهم دعوة لزيارة واشنطن. وحتى عندما جاء الرئيس الزامبي هاكيندي هيشيليما إلى واشنطن، في سبتمبر/أيلول الماضي، التقى نائبة الرئيس كامالا هاريس وليس بايدن.
في المقابل، فإن كل زعماء إفريقيا (ليس لديهم علاقات مع تايوان، التي تعتبرها الصين جزءاً منها) يتطلعون إلى الاجتماع بانتظام مع الرئيس الصيني من خلال منتدى التعاون الصيني الإفريقي.
وإذا كان منتدى التعاون الصيني الإفريقي يستمر في كونه أداة ناجحة لسياسة الصين في إفريقيا، فإنه لبعض الخبراء الأمريكيين تذكير مرير بالقصور الدبلوماسي الأمريكي في القارة.
ولا تحتاج الولايات المتحدة إلى إنشاء نسختها الخاصة من المنتدى لتحقيق النجاحات نفسها، لكنها تحتاج إلى سياسة أخرى للتعامل مع إفريقيا تستثمر في نقاط القوة الأمريكية، وتدرك أهمية بناء العلاقات، بحسب مجلة Foreign Policy.
فقد جعلت الصين المشاركات الاقتصادية مع الدول الإفريقية أولوية لها على المخاوف الأمنية وقضايا حقوق الإنسان وحرية التعبير، كما تروج لها إدارة جو بايدن، وجعلت بكين شاغلها الأمور التي تجعلها على وفاق مع النوابغ وقادة المجتمع، والسكان المحليين عموماً، مثل أنشطة التبادل الطلابي.
وفي هذا الإطار، أعلنت الصين في الدورة السابقة من منتدى التعاون الصيني الإفريقي في عام 2018 عن 50 ألف منحة حكومية و50 ألف منحة دورة تدريبية قصيرة الأجل، مقدمة لطلاب الجامعات ومسؤولي إنفاذ القانون وموظفي الخدمة المدنية والموظفين في قطاع الخدمات الصحية وعمال الإرشاد الزراعي والعسكريين، وغيرها من قطاعات العمل المختلفة في جميع أنحاء إفريقيا.
وتكشف دراسة ميدانية أُجريت في زيمبابوي، في يونيو/حزيران ويوليو/تموز من عام 2013، نقلاً عن مسؤول كبير في وزارة الزراعة في زيمبابوي، أن غالبية موظفي الوزارة ذهبوا بالفعل إلى الصين للتدريب، حتى إن عدداً كبيراً منهم ذهب بالفعل إلى جولات ثانية من التدريبات.
وتنطبق القصة ذاتها على جميع الوزارات في كل دولة إفريقية لها علاقات مع الصين اليوم. وهو ما يشير إلى عمق واتساع نطاق العلاقات التي طورتها الصين مع القادة الأفارقة الحاليين وقادة المستقبل خلال العقد الماضي على الأقل.
هل يمكن لأمريكا العودة لإفريقيا؟
من ثم، ولبلوغ المستوى ذاته من النجاحات الدبلوماسية، يشير بعض الخبراء الأمريكيين إلى أن الولايات المتحدة قد تحتاج إلى الابتعاد عن نهجها العقابي، وربما يجب أن تفكر في إعادة تقييم اعتمادها على تدابير اتَّخذتها، مثل العقوبات الأمريكية السارية حالياً على 9 دول إفريقية، علاوة على إثيوبيا ومالي وغينيا التي يُفترض أن تنضم إلى القائمة قريباً.
بالإضافة إلى ذلك، قد تحتاج الولايات المتحدة أيضاً إلى إعادة النظر في مجموعة من العلاقات التي كانت مدفوعة بدرجة أساسية بالمخاوف الأمنية، والالتفات بدلاً من ذلك إلى الاعتبارات الاقتصادية.
وتشتد أهمية ذلك إذا استدعينا تداعيات حملات مكافحة الإرهاب الأمريكية في إفريقيا على طبيعة علاقات واشنطن مع الدول الإفريقية، ويكفي القول إن الولايات المتحدة أنشأت، منذ هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2011، شبكةً تضم نحو 29 موقعاً عسكرياً في جميع أنحاء القارة الإفريقية.
بطبيعة الحال، أُنشِئت هذه الشبكة بالتعاون مع شركاء محليين وتؤدي دوراً حيوياً في دعم جهود الحفاظ على الأمن المحلي في كثير من المناطق، وهو ما يسلط الضوء على قدرة الولايات المتحدة على الاستثمار في العلاقات الإفريقية عند الضرورة، لكن الاقتصار على هذه الجهود بوصفها استراتيجية للسياسة الخارجية الأمريكية في إفريقيا يُخاطر بإعطاء الأولوية لما هو مهم على المدى القصير دون التفات إلى أهمية المنطقة على المدى الطويل.
ومنذ عام 2009، تتفوق الصين تفوقاً مطرداً على الولايات المتحدة في سباق الشريك التجاري الأكبر للدول الإفريقية. ولما برزت الصين بوصفها مصنع العالم في القرن الحادي والعشرين باتت شهيتها المفتوحة على المواد الخام أساساً صلباً للعلاقات مع الدول الإفريقية، ومن المرجح أن يستمر ذلك لسنوات عديدة قادمة.
رداً على ذلك، تتطلع الولايات المتحدة إلى تنشيط مشاركتها في المنطقة لمواجهة النفوذ الصيني حيثما أمكن ذلك. فعلى سبيل المثال تركِّز برامج الشراكة الأمريكية، مثل برنامج "إعادة بناء عالم أفضل" Build Back Better World، و"شبكة النقطة الزرقاء" Blue Dot Network لتمويل البنى التحتية، على مواجهة مبادرة الحزام والطريق الصينية، دون التفكير ملياً فيما إذا كانت الولايات المتحدة تستطيع، أو ينبغي لها، أن تحاول التنافس مع الصين في مشروعات البنية التحتية العملاقة. فمن الصعوبة بمكان أن تتفوق الشركات الأمريكية التنافسية مع الشركات الصينية التي تثابر على بناء الطرق والسكك الحديدية في إفريقيا منذ ستينيات القرن الماضي.
ويجادل بعض الخبراء بأن هذا التركيز قصير النظر على مواجهة الارتباطات الصينية الآنية قد أعمى الولايات المتحدة عن نقاط قوتها الفريدة، والمثال الرئيسي على ذلك هو "قانون النمو والفرص الإفريقية" الأمريكي (أغوا AGOA)، الذي من المقرر أن تنتهي صلاحيته في عام 2025، وهو برنامج تجاري أمريكي بشروط مخففة، يمنح 39 دولة إفريقية الحق في وصول صادراتها بدون رسوم جمركية إلى أسواق الولايات المتحدة، وقد كان لهذا آثار محفزة في التصنيع الإفريقي.
ويشير بعض النقاد إلى حقيقة أن شركات صينية عديدة قد انتقلت بالفعل إلى إفريقيا للاستفادة من الفرص التي يوفرها قانون أغوا الأمريكي. ومع ذلك لا ينبغي أن يكون هذا مصدر قلق كبير لصانعي السياسات في الولايات المتحدة، بحسب تحليل فورين بوليسي. فمن خلال نقل المصانع إلى إفريقيا، يخلق هؤلاء المستثمرون الصينيون مزيداً من الوظائف في القارة، ويحفِّزون الطلب أو العرض على الصناعات الأخرى، ويصنعون إمكانية لنقل المعارف والخبرات للسكان المحليين.
الخلاصة في نهاية المطاف، أن نفوذ الولايات المتحدة في إفريقيا قد شهد تراجعاً، لكنها بالتأكيد لم تخرج من الساحة الإفريقية. وبدلاً من أن تسعى الولايات المتحدة إلى التنافس مع الصين في المجالات التي تتمتع فيها الأخيرة بالنفوذ والرسوخ، مثل قطاع البنى التحتية، يجدر بالولايات المتحدة أن تستغل نقاط قوتها، مثل برامج تحفيز القطاع الصناعي وتعزيز التجارة مع إفريقيا.