تمثل هزيمة الجيش الإثيوبي الذي يوصف بأنه واحد من أقوى جيوش إفريقيا، واحدة من أحجيات الأزمة الحالية في البلاد، ولكن الأكثر غرابةً أن الهزيمة جاءت على يد جبهة تنتمي إلى قومية التيغراي التي تمثل نحو 6% فقط من سكان البلاد البالغ عددهم نحو 110 ملايين نسمة.
ولسنوات طويلة اعتمد الاتحاد الإفريقي على الجيش الإثيوبي في مهام حفظ السلام، وسبق أن غزا جيشها الصومال، حيث أطاح باتحاد المحاكم الإسلامية قبل أن يخرج بسبب المقاومة ضده، ولكنه كان يلعب الدور الأساسي في عملية حفظ السلام بالصومال التي يقودها الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة.
والجيش الإثيوبي كان في يوم من الأيام يمثل قوة هائلة حظيت باحترام الولايات المتحدة، التي موّلته وسلّحته، بل زوّدت جنودها بوجبات جاهزة للأكل، وكانت إثيوبيا الشريك الأول لأمريكا فيما يسمى الحرب على الإرهاب بالقرن الإفريقي، خاصة في الصومال.
ورغم إعلانه مؤخراً استعادة مدينة من جبهة تحرير تيغراي، فإن الجيش الإثيوبي عانى من خسائر فادحة ومهينة على الخطوط الأمامية، لدرجة أن الحكومة اتخذت خطوة غير عادية بدعوة المواطنين العاديين للانضمام إلى الحرب ضد المتمردين التيغراي.
فكيف هزم التيغراي الذين يمثلون 6% من إثيوبيا، واحداً من أقوى الجيوش الإفريقية، حيث أصبحوا يهددون العاصمة أديس أبابا، والأهم كيف حكموا إثيوبيا نحو 30 عاماً؟
التيغراي مهد حضارة إثيوبيا ومؤسسو إمبراطوريتها العظمى
غالباً ما يُنظر إلى إقليم تيغراي على أنه مهد الحضارة الإثيوبية، وفي هذا الإقليم الواقع شمال إثيوبيا، وإريتريا، تأسست إمبراطورية إكسوم، وهي الإمبراطورية الأكبر في تاريخ البلاد والتي تشكلت من خلالها الهوية الإثيوبية، وورثتها الإمبراطوريات الحبشية المختلفة.
والتيغراي شعب ساميٌّ يُعتقد أن نشأة ثقافته تأثرت بمملكة سبأ اليمنية، رغم أن هناك خلافاً حول قدر هذا التأثير اليمني، واللغة التيغرانية من أقرب اللغات إلى اللغة الجئزية القديمة وهي لغة كنيسة إثيوبيا وحضارتها القديمة.
ويمكن القول إن التيغراي والأمهريين هم الشعوب الحبشية الأصلية، وإنه كانت هناك منافسة دائمة بين الشعبين على قيادة إثيوبيا حُسمت لصالح الأمهريين الأكثر عدداً والذين يتوسطون البلاد، وسيطروا على حكمها عن طريق الأسرة السليمانية التي ادعت نسباً يمتد إلى النبي سليمان وبلقيس ملكة سبأ.
ولكن يبدو أن التيغراي لم يقبلوا هيمنة الأمهريين باستمرار، ورغم أنهم من أقل الأقليات عدداً في إثيوبيا، وليسوا بالضرورة الأكثر تهميشاً، فإن ثوراتهم كانت الأكثر تأثيراً، وحتى أكثر تأثيراً من الأورومو الذين يمثلون أكبر مجموعة سكانية في البلاد، ومن الصوماليين في الولاية الصومالية الذين ضمت إثيوبيا أراضيهم ويُنظر لهم على أنهم الأكثر اختلافاً عن بقية الشعوب الإثيوبية.
فلطالما قاتل تيغراي أديس أبابا. لقد فعلوا ذلك في الأربعينيات من القرن الماضي ضد الإمبراطور هيلا سيلاسي فيما يسمى تمرد Woyane، حسبما ورد في تقرير لصحيفة the Financial Times البريطانية.
وبعد أربعين عاماً، شنوا حرب عصابات ناجحة ضد نظام ديرج الماركسي، ووصل إلى السلطة في عام 1991 بعد تقدمهم عسكرياً إلى العاصمة.
ثم حكمت جبهة تحرير تيغراي البلاد، كعضو مهيمن في ائتلاف حكومي من أربعة أحزاب، حتى عام 2017، وأشرفت على ما يوصف غالباً بأنه التحول الاقتصادي الأكثر نجاحاً بإفريقيا في بلد يزيد عدد سكانه على 110 ملايين نسمة، بعدما كان اسم إثيوبيا ذات يوم مرتبطاً بالمجاعة.
حققوا نجاحاً اقتصادياً رغم استبدادهم
وعلى الرغم من استبداد جبهة تحرير تيغراي، فإن إثيوبيا تحت حكمها كانت أسرع اقتصاد كبير نمواً في إفريقيا لمدة 20 عاماً، كما أن الجبهة خلقت نظاماً فيدرالياً قسم البلاد على أساس إثني.
بدأت المتاعب بعد أن نظمت أعداد ضخمة من أكبر مجموعتين عرقيتين في إثيوبيا- أورومو وأمهرة- احتجاجات ضد 27 عاماً من سيطرة جبهة تحرير تيغري على الحكومة.
وبعد هذه الاحتجاجات- وخاصة تلك التي قامت في إقليم الأورومو الأكبر سكاناً- سلمت جبهة تحرير تيغراي الحكم عام 2018، إلى آبي أحمد الذي ينتمي إلى الأورومو من ناحية الأب، والأمهريين من ناحية الأم، ولكن يعتقد أنه أقرب إلى الثقافة الأمهرية السائدة في البلاد.
كيف بدأ الخلاف مع آبي أحمد؟
بدأ الخلاف بين آبي أحمد وجبهة تحرير تيغراي، عندما أراد أحمد تأجيل الانتخابات التشريعية بدعوى القلق من جائحة كورونا، بينما أصرت الجبهة على إجرائها.
شعرت الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي بأن آبي أراد تركيز السلطة. لقد تسبب ذلك في خلاف كبير بينهما وأدى في النهاية إلى اندلاع الحرب، حسبما قال المحلل بمنطقة القرن الإفريقي، فيصل روبل، الذي يتخذ من الولايات المتحدة مقراً له، لهيئة الإذاعة البريطانية "bbc".
في بداية القتال، بدا أن قوات الجيش الإثيوبي، المدعومة من الجيش الإريتري عدو التيغراي التقليدي، قد حسمته بسهولة، وسط حديث عن فظائع تتضمن عمليات اغتضاب وقتل على الهوية، ولكن سرعان ما انقلبت دفة المعارك تماماً بعد أن هدأت قليلاً، حيث تقدمت قوات تيغراي مستولية على مناطق واسعة من إقليم الأمهرة الذي يعد معقل السلطة تقليدياً في البلاد، وهددت بقطع الطريق الذي يربط العاصمة أديس أبابا بميناء جيبوتي المنفذ البحري الوحيد للدولة الحبيسة، كما هددت العاصمة نفسها.
ورغم أن القتال هدأت وتيرته وفقدت جبهة تحرير التيغراي زخم التقدم، كما أن آبي أحمد أعلن بنفسه قيادة المعارك، ولكن يظل ما حدث يحتاج تفسير كيف حقق التيغراي هذه النجاحات العسكرية؟
كيف هزم التيغراي الجيش الإثيوبي؟
عندما بدأت الأزمة انسحب القادة التيغراي إلى الإقليم، ثم أطلقت جبهة تحرير تيغراي الطلقات الأولى في الصراع الحالي في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني 2020، من خلال شن هجوم على قاعدة عسكرية فيدرالية بدعم من الموالين لها في الجيش- ومن ضمنهم القادة والجنود التيغرايون- الذين انشقوا بعد ذلك وانضموا إلى صفوف الجبهة، حسب تقرير "bbc".
لم يتم الاستيلاء على مخزون ضخم من الأسلحة فحسب، بل قُتل أو أُسر بالآلاف من الضباط والجنود رفيعي المستوى الذين قاوموا.
وقال أشاميلة تاميرو، الاقتصادي والمعلق السياسي الإثيوبي، لـ"bbc": "لقد أدى الهجوم الليلي على القاعدة إلى فراغ جعل إثيوبيا بالمعنى الحرفي للكلمة بلا جيش فيدرالي".
ومع ذلك، فإن الجيش الإثيوبي- بمساعدة حاسمة من الجيش الإريتري، والقوات والميليشيات من منطقة أمهرة الإثيوبية- تغلب على النكسة، وشن غارات جوية وهجوماً برياً أدى إلى طرد الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي من السلطة في الإقليم في أقل من شهر ودخل الجيش الإثيوبي عاصمة إقليم تيغراي ميكيلي.
ولكن، لأن القوات الحكومية ارتكبت فظائع واسعة النطاق ضد المدنيين- وضمن ذلك الاغتصابُ والقتل وحرق المحاصيل- انضم أفراد شعب التيغراي من "جميع شرائح المجتمع بعد ذلك إلى جبهة تحرير تيغراي؛ لحماية كرامتهم"، حسبما يقول رئيس تحرير "بي بي سي" التيغراني السابق، صموئيل غبهريهوت.
"قال الآباء لأبنائهم: بدلاً من الموت في المنزل اذهبوا وقاتلوا. لقد أصبحت حرباً بين أهالي إقليم التيغراي والجيش الإثيوبي، وليست مجرد حرب بين الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي والجيش".
الجنرالات المنشقون من الجيش يغيرون دفة المعركة
ذهب الجنرالات السابقون الذين تقاعدوا أو انشقوا، إلى جبال وكهوف تيغراي لتشكيل قوة دفاع تيغراي (TDF) كجناح عسكري لجبهة تحرير التيغراي؛ لضمان تنظيم عشرات الآلاف من المجندين الجدد جيداً، حسب المحلل في منطقة القرن الإفريقي، فيصل روبل.
وقال روبل: "شعر هؤلاء الجنرالات بأن من واجبهم حماية مواطني تيغراي، وبمعرفتهم الداخلية بالجيش الإثيوبي سهّلوا هزيمته".
من هؤلاء كان تسادكان جبريتنساي، رئيس أركان الجيش الإثيوبي السابق، وقائد قوات التيغراي التي دخلت من قبلُ العاصمة وأسقطت نظام منغستو هيلا ماريام الشيوعي عام 1991، حسبما ورد في تقرير للموقع العربي لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي".
عادوا إلى تكتيكاتهم القديمة
يشرح فيصل روبل ما حدث قائلاً: "مقاتلو الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي استنزفوا الجيش الإثيوبي أولاً من خلال حرب العصابات في تيغراي عبر تنفيذ هجمات كر وفر. ثم تقدموا في القتال بهدف إنهائه".
وتذكّر تكتيكات مقاتلي الجبهة ادالشعبية لتحرير تيغري، رئيس تحرير "بي بي سي" التيغريني السابق، صموئيل غبهريهوت، بحياته كمقاتل إريتري شاب، حارب إلى جانب التيغراي ضد نظام مينغيستو هيلا مريام الإثيوبي حتى الإطاحة به في عام 1991.
كانوا "مسلحين بأسلحة خفيفة ورشيقة للغاية، ويعيشون على غذاء للبقاء على قيد الحياة ويظهرون صموداً وتصميماً عميقين".
إصلاحات آبي أحمد سبب هزيمة الجيش
قال أليكس دي وال، المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمي ومقرها الولايات المتحدة، إن آبي شرع أيضاً في إصلاح الجيش لضمان ولائه له، ومعالجة المخاوف بشأن هيمنة التيغراي عليه.
"كان التيغراي يشكلون نحو 18% من الجيش بأكمله، ونحو ضعف ذلك في سلك الضباط. كانت أعدادهم غير متناسبة مقارنة بحجم السكان. بدأ آبي أحمد بطرد التيغراي، وأنشأ حرساً جمهورياً دربه الإماراتيون"، حسبما قال البروفيسور دي وال لـ"bbc".
"ولكن هذه التغييرات أحبطت معنويات الجيش الإثيوبي، ولم يعد قوة متماسكة. لم يكن لدى آبي الوقت لإعادة تشكيله قبل بدء الحرب".
وقال إنه من بين فرق الجيش العشرين، تمت هزيمة 10- تتألف كل منها من نحو 5000 جندي- مع مقتل ما لا يقل عن 10 آلاف جندي، وأَسر عدد مماثل.
هجمات الموجة البشرية
بعد استعادة السيطرة على معظم إقليم التيغراي في يونيو/حزيران الماضي، شنت الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي هجوماً في منطقتي أمهرة وعفر المجاورتين، بينما دعا آبي جميع الإثيوبيين الأصحاء للانضمام إلى الجيش والميليشيات؛ للمساعدة في هزيمة المتمردين.
"لوقف تقدم التيغراي، نظم الجيش الحكومي في أمهرة هجمات موجات بشرية من قبل الفلاحين والطلاب وشباب المدن. كانوا متحمسين للدفاع عن أرضهم لكنهم لم يتلقوا سوى تدريب أساسي لبضعة أسابيع فقط"، حسب البروفيسور دي وال.
"في بعض الأحيان، لم يكن لدى المشاركين في الموجة الثانية من الهجوم حتى بنادق، وقتل الآلاف منهم- وربما عشرات الآلاف- على يد التيغراي.
ظروف القتال هذه خلقت وضعاً معقداً من أوضاع حقوق الإنسان، لأنها تطمس التمييز بين المقاتل والمدني. كما أنه يزيد العداء بين الناس- وتحديداً بين الأمهريين والتيغراي- ويزيد من صعوبة تحقيق السلام والمصالحة".
في أحدث خطوة لاستعادة المبادرة، أعلنت الحكومة الفيدرالية حالة الطوارئ، ومنحت نفسها سلطة تجنيد "أي مواطن في سن التجنيد لديه أسلحة"، واستدعاء الضباط المتقاعدين إلى الخدمة.
كما أعلنت حكومة إقليم الأمهرة عن إجراءاتها الخاصة، حيث أمرت بإغلاق جميع المكاتب الحكومية وطلبت من المواطنين منحها سياراتهم.
وقال البروفيسور دي وال "إن التحركات من غير المرجح أن تكون فعالة، إذ يمكنهم حشد أعداد كبيرة ولكن هيكل القيادة والسيطرة للجيش قد تفكك. والجيش هو مؤسسة بنيت على مدى سنوات".
لكن الخبيرة الأمنية المقيمة في كندا آن فيتز جيرالد، تعتقد أن مقاتلي الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي قد تكبدوا خسائر أكبر بكثير، قائلة إن الجبهة هي التي تستخدم "الموجات البشرية" كإجراء يائس للسيطرة على الطرق الاستراتيجية واكتساب قوة تفاوضية.
يقول البروفيسور فيتز-جيرالد إن الجيش الإثيوبي يحتفظ بموقفه حالياً، حيث أشارت تقارير محلية إلى أنه أحبط 12 محاولة من جانب الجبهة الشعبية لتحرير تيغري للاستيلاء على مدينة ميل- وهي بلدة قريبة من الطريق المؤدي إلى موانئ جيبوتي- وهو أمر حيوي بالنسبة إلى إثيوبيا الدولة الحبيسة.
الهدف هو التفاوض أم إسقاط آبي أحمد؟
مع وجود مقاتلين من التيغراي على بُعد أقل من 300 كيلومتر (185 ميلاً) من العاصمة، فمن الواضح أنهم يتمتعون حالياً بالتفوق على جيش كان في السابق أحد أقوى الجيوش بإفريقيا.
ومع ذلك، يعتقد أشاميلة تاميرو- الاقتصادي والمعلق السياسي الإثيوبي- أنّ تقدم الجبهة الشعبية لتحرير تيغري ليس سوى أمر"مؤقت".
وقال: "الإثيوبيون من كافة الإثنيات ينهضون للدفاع عن إثيوبيا وإنقاذها"، حسب تعبيره.
وتبدو قدرة وتشارُك الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي على إحكام الحصار على العاصمة التي يزيد عدد سكانها على خمسة ملايين نسمة، مشكوكاً فيها.
يقول صموئيل: "تريد الجبهة الشعبية لتحرير تيغري أن تضغط على الحكومة للتفاوض. لا أعتقد أنهم سيدخلون أديس أبابا. إنهم لا يتمتعون بشعبية كبيرة هناك".
ويقول البروفيسور دي وال إن الحكومة تواجه "هزيمة عسكرية، لكن الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي لا يمكنها أن تدعي أنها حققت النصر، لأن الفوز سياسي وليس عسكرياً فقط، إنهم بحاجة إلى دعم وتعاون عدد كاف من الفاعلين السياسيين، وهو ما ليس لديهم.
وحتى الآن من الواضح أن قوى الأورومو المتحالفة مع التيغراي ليس لها تأثير كبير على الأرض، ومن المعروف أن أديس أبابا تقع في منطقة أوروميا، كما أن منطقة عفار المسلمة ذات الأهمية الاستراتيجية لأنها تقع في الطريق بين جيبوتي وأديس أبابا أظهرت تأييداً للحكومة المركزية وصموداً أمام التيغراي.
وقد يعني غياب دعم من القوميات الأخرى لهجوم التيغراي، أنهم لن يركزوا على تغيير النظام في مجمل إثيوبيا؛ بل مستقبل تيغراي فقط.