هل يمكن إعادة إحياء الاتفاق النووي الأصلي بين إيران والقوى الكبرى؟ يسيطر هذا السؤال على أجواء جولة المفاوضات الحالية في فيينا، خصوصاً من زاوية ما قد تمثله إسرائيل كعقبة أمام إدارة بايدن.
وعلى الرغم من أجواء التشاؤم التي سبقت انطلاق جولة المفاوضات الحالية في العاصمة النمساوية بين الدول الكبرى وإيران بهدف إعادة إحياء الاتفاق النووي، جاءت مؤشرات اليوم الأول، مساء الاثنين 29 نوفمبر/تشرين الثاني، تحمل بعضاً من التفاؤل الحذر بشأن إمكانية التوصل إلى اتفاق ما.
والاتفاق النووي أو "معاهدة العمل الشاملة المشتركة" كان قد تم توقيعه بين الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وروسيا والصين وإيران (اتفاق 6+1)، وكانت أبرز بنوده ألا تزيد إيران نسبة تخصيب اليورانيوم لديها على 3.76%، وألا تحتفظ بمخزون من اليورانيوم المخصب يزيد على نحو 200 كلغم بتلك النسبة، ووضع قيود أيضاً على ما تحتفظ به طهران من الماء الثقيل.
لكن يعتبر المحللون أن أهم بنود الاتفاق النووي هو إعطاء مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية صلاحيات خاصة تشمل التفتيش المفاجئ على أي منشأة نووية إيرانية في أي وقت، ودون إخطار مسبق. وانسحبت إيران عملياً من هذا البروتوكول الخاص مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتخصب اليورانيوم بنسبة نقاء تتخطى 60%، فيما يراه خبراء إنهاءً عملياً لبنود الاتفاق النووي.
أين وصل البرنامج النووي الإيراني؟
بعد انسحاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من الاتفاق عام 2018، سرّعت إيران من برنامجها النووي بدرجة أصبح معها من شبه المستحيل إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، بحسب تقرير لوكالة Associated Press الأمريكية.
إذ بدأت إيران تتجاوز حدود الاتفاق النووي بعد انسحاب الولايات المتحدة منه، وهي الآن تخصّب كميات محدودة من اليورانيوم بنسبة نقاوة 60% القريبة من نسبة 90% اللازمة للأسلحة. وتشغّل إيران أيضاً أجهزة طرد مركزية متقدمة كانت ممنوعة بموجب الاتفاقية، ومخزونها من اليورانيوم الآن يتجاوز حدود الاتفاقية بكثير.
ويقول الخبراء إنه حتى لو أُجبرت إيران على التخلي عن مخزونها من اليورانيوم أو وقف أبحاثها، فلا يمكن سلبها الخبرة العملية التي اكتسبتها.
وبحسب تحليل الوكالة الأمريكية، فإن سؤال: هل يمكن إحياء اتفاق 2015 النووي التاريخي بين إيران والقوى العالمية؟ تبدو الإجابة الأكثر احتمالاً "لا". فالمؤشرات لا تبدو مشجعة على المدى القصير، إذ عرض الرئيس الإيراني المتشدد، إبراهيم رئيسي، بعض المطالب المُبَالغ بها، مثل مطالبة الولايات المتحدة بإلغاء تجميد أرصدة بقيمة 10 مليارات دولار كبادرة حسن نية.
وهذه المطالب المتشددة ربما تكون مناورة افتتاحية. والمفاوضون الأوروبيون واثقون من التوصل إلى اتفاق في المدى القريب أو المتوسط. لكن المسؤولين الأمريكيين لا يبدون متفائلين. إذ عقد الرئيس بايدن وكبار مستشاريه عدداً من الاجتماعات مؤخراً مع حلفاء مهمين وشركاء في المفاوضات استعداداً لاحتمال فشل المفاوضات.
موقف إسرائيل من الاتفاق النووي الإيراني
كان وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشيه يعلون، الذي كان يعارض الاتفاق الأصلي معارضة شرسة، من الأصوات النادرة في إسرائيل التي اعترضت على انسحاب ترامب من الاتفاق النووي عام 2018. ويقول الآن إن الانسحاب الأمريكي "أكبر خطأ" اُرتكب في المنطقة خلال العشر سنوات الماضية، بحسب الأسوشيتد برس.
وقال يعلون في مؤتمر أمني الأسبوع الماضي إن اتفاقاً معيباً "أهون من عدمه وتعلُّل الإيرانيين بالانسحاب ليستمروا في مشروعهم. والآن أصبحوا على أقرب مسافة في تاريخهم من أعتاب دولة نووية".
وقال يوئيل غوزنسكي المسؤول في مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي سابقاً والباحث البارز في معهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب حالياً، للوكالة الأمريكية: "لست متفائلاً. إيران تُبدي صبراً وصموداً وإصراراً. ويؤسفني أن أقول إن الأمريكيين ليسوا كذلك، ولا نملك الكثير من الوقت".
وكان كبير المفاوضين الأمريكيين روبرت مالي قد قال في لقاء إذاعي قبل انطلاق جولة فيينا الحالية بثلاثة أيام فقط، إن الإشارات التي تبعث بها إيران "ليست مشجعة".
وقال في حواره مع الإذاعة الوطنية العامة إن الولايات المتحدة تفضل الحل الدبلوماسي، ولكن إذا أصبح مستحيلاً، فسترد بما تراه مناسباً. وقال: "الخيارات المتاحة لأمريكا معروفة للجميع".
لكن بالنظر إلى الرد الأمريكي الفاتر على النشاط الإيراني العسكري المزعوم في المنطقة، مثل الهجوم على السفن المدنية في الخليج والضربة الجوية على قاعدة أمريكية في سوريا، لا يبدو الخيار العسكري تهديداً خطيراً. وانسحاب الولايات المتحدة "المهين" من أفغانستان زاد من فقدانها لمصداقيتها في المنطقة.
ما الذي يمكن أن تفعله إسرائيل؟
إسرائيل ليست طرفاً في المحادثات، ولكنها تبدو أكثر الأطراف انشغالاً بما قد تسفر عنه، فهي تعتبر إيران عدوتها الأولى وأن امتلاكها سلاحاً نووياً تهديد وجودي لها، رغم أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة المسلحة نووياً في المنطقة، دون أن تفصح علناً عن ترسانتها النووية.
وخليفة نتنياهو، نفتالي بينيت، حريص على ألا يختلف مع بايدن علناً، لكن مواقفه مشابهة لنتنياهو، حيث أعرب عن رغبته في أن تخرج المحادثات باتفاق أفضل، لكنه في الوقت نفسه جدد التأكيد على التهديد بأن تتخذ إسرائيل إجراءً منفرداً إذا لزم الأمر.
وقال الأسبوع الماضي: "سنحتفظ بحريتنا في الرد". وقال الأحد 28 نوفمبر/تشرين الثاني إن إسرائيل "منزعجة كثيراً" مما يعتبره استعداد القوى العالمية لرفع العقوبات وإعادة فرض "قيود غير كافية على النشاط النووي". وقال إن إسرائيل تنقل هذه الرسالة إلى جميع الأطراف المعنية.
واليوم الثلاثاء 30 نوفمبر/تشرين الثاني، قال المتحدث الرسمي بلسان الجيش الإسرائيلي ران كوخاف: "لقد سرّعنا استعدادنا لمنع إيران من ترسيخ نفسها في الساحة الشمالية، ومنعها من أن تصبح دولة ذات عتبة نووية".
وأضاف في حديث لهيئة البث الإسرائيلية: "عندما أقول إننا نسرع من الخُطى ضد إيران- أعني ذلك". ورداً على استئناف المفاوضات الدولية في فيينا، حول البرنامج النووي الإيراني، قال كوخاف: "لا أتدخل في الشؤون السياسية، ولكن كما قلنا من قبل، نحن نستعد لكل الاحتمالات"، بحسب وكالة الأناضول.
لكن رغم هذه التهديدات، فقد تتردد إسرائيل في تنفيذها. إذ أمضت إيران العشر سنوات الأخيرة في نشر مواقعها النووية في أماكن متفرقة وإخفائها تحت الأرض. وقد تخشى إسرائيل تدمير هذه الجهود الدبلوماسية، بحسب محللين غربيين.
والصين وروسيا، وهما منفذان مهمان للتجارة الإيرانية وطرف في الاتفاق، قد ينفد صبرهما من طهران، خاصة إذا انهار نظام التفتيش النووي الدولي. والضغوط الاقتصادية لا تزال تعصف بالإيرانيين، الذين تبددت مدخراتهم بعد تدهور قيمة العملة.
وقال المبعوث الصيني إلى المحادثات النووية للصحفيين، بعد محادثات اليوم الأول من المفاوضات، إنه على الولايات المتحدة رفع جميع العقوبات التي لا تتماشى مع اتفاق إيران النووي المبرم في 2015 مع قوى كبرى، بما في ذلك تلك العقوبات التي تطبق على الصين.
وقالت بعثة الصين الدائمة للأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى على تويتر: "شدد السفير وانغ تشون في اجتماع اللجنة المشتركة اليوم لخطة العمل الشاملة المشتركة على أن الحوار والمفاوضات الطريق الصحيح الوحيد لتسوية القضية النووية الإيرانية، ويجب على الولايات المتحدة رفع جميع العقوبات غير المتماشية مع خطة العمل الشاملة المشتركة ضد إيران وأطراف ثالثة، منها الصين".
وإذا طالت المحادثات أكثر من اللازم، فقد تلجأ الولايات المتحدة إلى عقوبات جديدة أو حتى تحرُّك عسكري. وخطر إقدام إسرائيل على تحرُّك عسكري قائم أيضاً.
إذ قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس الأسبوع الماضي: "سنرى في الأيام المقبلة ما هو بالضبط "نهج إيران" لكننا قلنا بوضوح أيضاً إن هذا لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية".
ماذا يعني ذلك لفرص الاتفاق إذن؟
رأت إدارة بايدن أن جولات المفاوضات الست السابقة (من أبريل/نيسان حتى يونيو/حزيران) كانت تتجه نحو تفاهم مع طهران، إذ تؤيد واشنطن العودة إلى الاتفاق، وتتوقع عودة الرئيس الإيراني الجديد إليه بعد فترة مناسبة، لكن يبدو أنها أساءت الحكم على الحالة المزاجية لطهران، بحسب تحليل لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
والسؤال الآن يتعلق بمدى سهولة التراجع عن التقدم الذي أحرزته إيران في هذه الفترة؟ وكيف يمكن إعادة الصفقة على مراحل؟ يشير المسؤولون الأمريكيون أيضا بوضوح إلى النتيجة النهائية وهي أن بايدن يرفض بشكل قاطع امتلاك إيران سلاحاً نووياً، وإذا فشلت المحادثات، فإن لدى الولايات المتحدة خيارات أخرى يمكنها تبنيها.
ويرى علي واعظ مدير مشروع إيران في مجموعة الأزمات الدولية أنه "رغم أن الافتراض بأن الفريق المفاوض الإيراني الجديد سيقود صفقة صعبة يعد رهاناً آمناً، لكن في الواقع من الصعوبة بمكان التنبؤ بما إذا كان الفريق، بالإضافة إلى مطالبه المتطرفة، يتمتع بالمرونة المطلوبة للالتقاء مع الجانب الأمريكي في منتصف الطريق".
ورغم معارضتهم السابقة للاتفاق النووي الإيراني، فقد غيّر العديد من حلفاء واشنطن الخليجيين رأيهم، كما يشير واعظ: "أدرك جيران إيران في الخليج العربي أن الصفقة غير الكاملة أفضل من عدم وجود صفقة".
وأضاف لبي بي سي: "لا يقتصر الأمر على أن الضغط الأقصى لم يحجّم إيران، بل على العكس أطلق العنان لنسخة أكثر عدوانية في المنطقة باتت معها العديد من دول الخليج العربية في مرمى تبادل إطلاق النار بين إيران والولايات المتحدة".
ومع تركيز واشنطن الاستراتيجي حالياً على الصين أكثر بكثير من الشرق الأوسط، يعتقد العديد من حلفائها الآن أن صفقة مُعاد صياغتها قد تصب في صلب مصلحتهم.
الخلاصة هنا هي أن المواقف المعقدة والمتشابكة لأطراف الاتفاق النووي الإيراني المباشرة (إيران والقوى الست الكبرى)، وغير المباشرة (إسرائيل والدول الخليجية)، ترجح أن تؤدي تلك الجولة من المفاوضات النووية في فيينا إلى نتيجة ما، حتى وإن كانت "اتفاقاً مؤقتاً" رغم إعلان طهران أنها ترفضه.