تخيم أجواء التشاؤم والتوقعات المنخفضة على مفاوضات إحياء الاتفاق النووي في فيينا لأسباب متعددة، فهل يكون القلق من نتيجة الطريق المسدود حافزاً لجميع الأطراف للوصول إلى اتفاق ولو مؤقت رغم رفض إيران؟
وانطلقت في العاصمة النمساوية فيينا جولة جديدة من المفاوضات بين الدول الكبرى وإيران بهدف إعادة إحياء الاتفاق النووي الموقع عام 2015 والذي كانت إدارة الرئيس الأمريكي السابق قد انسحبت منه بشكل أحادي عام 2018 وفرضت عقوبات خانقة على إيران، التي قامت بدورها بالتخلي تدريجياً عن التزاماتها النووية بموجب الاتفاق.
الاتفاق النووي أو "معاهدة العمل الشاملة المشتركة" كان قد تم توقيعه بين الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وروسيا والصين وإيران (اتفاق 6+1)، وكانت أبرز بنوده ألا تزيد إيران نسبة تخصيب اليورانيوم لديها على 3.76%، وألا تحتفظ بمخزون من اليورانيوم المخصب يزيد على نحو 200 كلغم بتلك النسبة، ووضع قيود أيضاً على ما تحتفظ به طهران من الماء الثقيل.
لكن يعتبر المحللون أن أهم بنود الاتفاق النووي هو إعطاء مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية صلاحيات خاصة تشمل التفتيش المفاجئ على أي منشأة نووية إيرانية في أي وقت، ودون إخطار مسبق. وانسحبت إيران عملياً من هذا البروتوكول الخاص مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتخصب اليورانيوم بنسبة نقاء تتخطى 60%، فيما يراه خبراء إنهاءً عملياً لبنود الاتفاق النووي.
لماذا التوقعات منخفضة في هذه الجولة من المفاوضات؟
جولة المفاوضات التي انطلقت الإثنين 29 نوفمبر/تشرين الثاني في فيينا سبقتها تطورات كثيرة تدور أغلبها في فلك البرنامج النووي لإيران، لكن بشكل أوسع تتعلق بتغيرات جذرية تشهدها منطقة الشرق خصوصاً والمسرح السياسي الدولي بشكل عام.
فهذه الجولة تأتي بعد توقف دام أكثر من 5 أشهر منذ آخر جولة مفاوضات في فيينا، والتي كانت آخرها في يونيو/حزيران وتزامنت مع انتخاب إبراهيم رئيسي كرئيس لإيران خلفاً لحسن روحاني (الذي كانت حكومته قد توصلت للاتفاق النووي عام 2015). ورئيسي ينتمي للتيار المحافظ أو المتشدد في إيران، وهو التيار الرافض -على الأقل بشكل علني- للانفتاح على الغرب من خلال توقيع الاتفاق النووي.
وكانت جولات التفاوض، التي تشارك فيها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بصورة غير مباشرة نظراً لرفض الإيرانيين الجلوس على نفس الطاولة مع الأمريكيين، قد انطلقت في أبريل/نيسان الماضي، وشهدت ستة اجتماعات قبل توقفها، وسط تقارير عن قرب التوقيع على إعادة إحياء الاتفاق النووي بالفعل بعد التوصل لتفاهمات وافقت عليها واشنطن وطهران.
لكن التصريحات الصادرة عن القوى الغربية (أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا) قبل هذه الجولة يغلب عليها التشاؤم بشكل واضح، فعنوانها التشكيك في مدى التزام طهران بالتوصل لاتفاق.
وحدد فريق التفاوض الإيراني الجديد -الذي عيّنه رئيسي- مطالب يرى دبلوماسيون أمريكيون وأوروبيون أنها غير واقعية، إذ يصر الإيرانيون على إسقاط جميع العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منذ 2018 بما فيها العقوبات التي لا ترتبط ببرنامجها النووي، بحسب تقرير لرويترز.
وفي الوقت نفسه تزايدت الخلافات بين طهران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، فقد واصلت إيران برنامج التخصيب بينما تقول الوكالة إن مفتشيها عُوملوا معاملة خشنة ومُنعوا من إعادة تركيب كاميرات المراقبة في موقع تعتبره الوكالة ضرورياً لإحياء الاتفاق مع الدول الكبرى.
وقال المبعوث الأمريكي الخاص لشؤون إيران روبرت مالي لـ"بي بي سي ساوندز"، في مقابلة السبت 27 نوفمبر/ تشرين الثاني: "إذا كانت إيران تعتقد أن بإمكانها استغلال هذا الوقت لتعزيز قوتها ثم تعود وتقول إنها تريد شيئاً أفضل، فلن ينجح ذلك. وسنفعل نحن وشركاؤنا كل ما لدينا لعدم حدوث ذلك". وحذر من أن واشنطن ستكون مستعدة لزيادة الضغوط على إيران إذا انهارت المحادثات.
وأصر المسؤولون الإيرانيون خلال الفترة التي سبقت محادثات اليوم الإثنين على أن تركيزهم ينصبّ فقط على رفع العقوبات وليس على القضايا النووية. وفي تأكيد لذلك فإن الوفد الإيراني المؤلف من 40 عضواً يضم في الغالب مسؤولين اقتصاديين.
وقال كبير المفاوضين النوويين الإيرانيين علي باقري كني في عمود في صحيفة فايننشيال تايمز، أمس الأحد: "لضمان أن تكون أي اتفاقية مقبلة صارمة، يجب على الغرب أن يدفع ثمناً لفشله في الحفاظ على الجزء الخاص به في الاتفاق. كما هو الحال في أي عمل تجاري، فإن الاتفاق هو اتفاق ولمخالفته عواقب".
وأضاف: "لا يمكن أن يمثل مبدأ الامتثال المتبادل قاعدة مناسبة للمفاوضات لأن الحكومة الأمريكية هي التي تركت الاتفاق من جانب واحد".
عنصرا الوقت وإسرائيل يضغطان على إدارة بايدن
من الطبيعي إذن أن تكون التوقعات منخفضة بشأن ما يمكن التوافق عليه في هذه الجولة من المفاوضات. لكن هناك عنصر آخر يضغط على الأطراف الغربية وهو عنصر الوقت. فمع مواصلة إيران أنشطتها النووية وغياب الرقابة من جانب الوكالة الدولية للطاقة الذرية على ما تفعله طهران، تتزايد المخاوف من أن تفاجئ إيران الجميع بتفجير نووي يعني أنها امتلكت سلاحاً نووياً بالفعل، رغم نفي طهران المتكرر سعيها لامتلاك قنبلة نووية.
ميخائيل أوليانوف، المندوب الروسي في مفاوضات فيينا، أكد أيضاً أهمية عنصر الوقت، إذ كتب على تويتر: "المحادثات لا يمكن أن تستمر إلى الأبد. هناك حاجة واضحة لتسريع العملية".
وهذا العنصر تحديداً يمثل ورقة الضغط الرئيسية التي تستخدمها إسرائيل في معارضتها العودة للاتفاق النووي بأي صورة، وتمثل هذه الضغوط الإسرائيلية قلقاً خاصاً للإدارة الأمريكية التي تواجه حسابات سياسية معقدة للغاية في الداخل، قبل عام من انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، ما يعني أن أي اتفاق مع طهران سيوظفه الجمهوريون بزعامة دونالد ترامب كتنازل من الديمقراطيين برئاسة بايدن يمثل "ضرراً" بأمن إسرائيل.
وقد يؤدي الفشل في التوصل إلى اتفاق إلى رد فعل من إسرائيل، التي قالت إن الخيارات العسكرية ستكون مطروحة على الطاولة. ففي مقال مشترك نشرته صحيفة تليغراف البريطانية قبل يوم من جولة المفاوضات النووية، قالت وزيرة الخارجية البريطانية ليز تروس ووزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد إن بريطانيا وإسرائيل "ستعملان ليلاً ونهاراً" للحيلولة دون أن تصبح إيران قوة نووية، بحسب رويترز.
وقال الوزيران إن "الوقت يمر، ما يزيد من ضرورة التعاون الوثيق مع شركائنا وأصدقائنا لإحباط طموحات طهران". وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت بالتزامن مع بدء اجتماعات فيينا إن "إسرائيل قلقة للغاية من الاستعداد لرفع العقوبات والسماح بتدفق مليارات (الدولارات) على إيران مقابل قيود غير مُرضية على الصعيد النووي".
وركز تحليل لشبكة CNN الأمريكية عنوانه "بدء المفاوضات النووية وأمريكا تقول إنها مستعدة لاستخدام خيارات أخرى إذا فشلت الدبلوماسية" على التصعيد من جانب طهران وواشنطن قبل إغلاق الأبواب والتفاوض الفعلي في فيينا. فالجمعة أعلنت طهران عن تقدم جديد في تخصيب اليورانيوم يخفض من الوقت الذي تحتاجه إيران لتطوير سلاح نووي، إذا ما اختارت ذلك، وهو تصريح هدفه إضافة مزيد من القوة على موقف طهران التفاوضي.
ماذا تريد إيران هذه المرة؟
المواقف المعلنة تشير إذن إلى استحالة التوصل لاتفاق من أي نوع، بحسب محللين. فطهران تريد رفع العقوبات كاملة من جانب الأمريكيين والأوروبيين، كما تريد ضمانات من إدارة بايدن بأن أي إدارة أخرى مستقبلية لن تنسحب من الاتفاق كما فعل ترامب من قبل.
ولا يمكن لإدارة بايدن أن تحقق لإيران المطلب الثاني تحديدا، لأسباب قانونية وسياسية تتعلق بالانقسام الشديد في الكونغرس بشكل عام والرفض الواسع لتعامل إدارة بايدن مع إيران بشكل خاص. أما المطلب الأول المتعلق برفع جميع العقوبات عن طهران فهو أيضاً لا يقل صعوبة، خصوصاً في ظل تمسّك الإيرانيين بعدم العودة لالتزاماتهم الخاصة بمراقبة أنشطتهم النووية وتخفيضها بشكل متزامن مع رفع العقوبات، أو مبدأ "الامتثال المتبادل".
وكانت هذه النقطة تحديداً هي ما أخرت إعادة بدء المفاوضات بعد تولي بايدن المسؤولية خلفاً لترامب، إذ على الرغم من الرغبة المعلنة من بايدن بالعودة للاتفاق، وهي الرغبة التي يرى أغلب المحللين أنها لدى طهران أيضاً، إلا أن لعبة شد الأصابع بين الطرفين أجلت انطلاق المفاوضات نحو ثلاثة أشهر.
وفي هذا السياق تحدثت تقارير إعلامية متعددة عن اقتراح قدمته واشنطن مفاده أن تتركز المفاوضات، التي انطلقت الاثنين في فيينا، على "اتفاق مؤقت" مع طهران في حال تعثر التوصل إلى اتفاق دائم بشكل أسرع ما جولات التفاوض السابقة، لكن طهران سارعت برفض هذا الاقتراح، على الأقل من ناحية التصريحات العلنية.
ويرى كثير من المحللين أن الحكومة الإيرانية، التي يسيطر عليها الجناح المتشدد بشكل كامل بعد أن أصبح رئيسي على رأس السلطة التنفيذية، تسعى للحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب قبل أن توقع على الاتفاق النووي، سواء الاتفاق الأصلي أو اتفاق جديد أو حتى اتفاق مؤقت كما اقترحت واشنطن، حتى تظهر داخلياً بصورة أقوى من إدارة الرئيس السابق حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف. والسؤال هو إلى أي مدى يشعر النظام الإيراني بالقوة ليواصل ضغوطه على واشنطن وحلفائها داخل المنطقة وخارجها.
ما الخيارات الأخرى التي تلوح بها واشنطن؟
"لا نزال نأمل بأن يكون الحل دبلوماسياً، لكن إذا فشلت الدبلوماسية فنحن مستعدون لاستخدام خيارات أخرى"، كان هذا ما قاله بريت ماكغورك منسق مجلس الأمن القومي الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أمام حوار المنامة السنوي الذي نظمه المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في البحرين قبل أيام.
وأضاف المسؤول الأمريكي: "لا يوجد شك في أننا لن نسمح لإيران بالحصول على سلاح نووي. وفيما يخص استخدام القوة العسكرية بغرض تغيير السلوك (تغيير النظام)، يعتبر هذا هدفاً مربكاً وغير مضمون العواقب من الناحية العسكرية. لكن عندما يكون هدف القوة العسكرية منع دولة ما من الحصول على سلاح نووي يصبح هذا الهدف قابلاً للتحقيق جداً".
وفي أعقاب اجتماع عقده روبرت ميلي المبعوث الأمريكي الخاص بإيران مع حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط وأوروبا، كتب ميلي على تويتر: "على إيران الاختيار بين طريقين لا ثالث لهما: مواصلة التصعيد النووي أو العودة المشتركة للاتفاق النووي وخلق فرص التعاون الإقليمي الدبلوماسي والاقتصادي"، مضيفاً أن "وقت الاختيار بات قصيراً للغاية".
وزارة الخارجية الأمريكية، وعلى لسان نيد برايس متحدثها الرسمي، قالت قبل أسبوع من مفاوضات فيينا إن "العودة المتبادلة للاتفاق النووي باتت اقتراحاً يتسم بعدم الاستقرار تماماً"، مضيفاً للصحفيين أنه على طهران الذهاب إلى فيينا للتفاوض "بحسن نية انطلاقاً مما توصلنا إليه في الجولات الست السابقة من المفاوضات".
وأكد برايس أن واشنطن ليست مستعدة "لاتخاذ خطوات منفردة بهدف تسريع العجلة"، بمعنى أن إدارة بايدن لن ترفع عقوبات بصورة أحادية لتشجع الإيرانيين على العودة إلى الاتفاق النووي، وهو المطلب الذي تصر عليه إيران.
وبحسب مصادر دبلوماسية تحدثت إلى CNN، لا واشنطن ولا حلفاؤها مستعدون الآن لتقديم "حوافز تشجيعية" لطهران كي تعود إلى الاتفاق، لكن هذه الخطوة تظل احتمالاً وارداً خلال المفاوضات نفسها، إذا ما أظهر الوفد الإيراني استعداداً لمواصلة المفاوضات من النقطة التي انتهت عندها في يونيو/حزيران الماضي.
وربما يكون الشيء الوحيد الذي تجمع عليه المصادر الدبلوماسية والتحليلات الغربية هو أن مسار الدبلوماسية لم يصل بعد إلى طريق مسدود، لكن حتى الآن لا توجد "خطة بديلة" واضحة الملامح لدى واشنطن وحلفائها حال وصلت المفاوضات إلى تلك النقطة من الانسداد.
الواضح هنا هي أن البديل الوحيد لعدم التوصل إلى اتفاق بشأن برنامج إيران النووي هو حرب مفتوحة لا يريدها أي من الأطراف لأن نتائجها، بحسب تحليل لموقع Responsible Statecraft الأمريكي، هو حالة من الصراع المفتوح وعدم الاستقرار تضرب الشرق الأوسط وتنتشر تداعياتها الكارثية في جميع أنحاء العالم.
وبالقطع هذه النتيجة غير غائبة لا عن طهران ولا عن واشنطن، طرفي النزاع الأصليين، وكانت هذه النقطة تحديداً السبب الرئيسي وراء عدم اندلاع حرب شاملة بين الطرفين طوال السنوات الثلاث الماضية، على الرغم من تعدد الأحداث التي بدت معها الحرب حتمية، كإسقاط إيران لطائرة استطلاع أمريكية أو اغتيال أمريكا لقاسم سليماني أو استهداف منشآت أرامكو النفطية في السعودية، أو اغتيال محسن فخري زاده أبو البرنامج النووي الإيراني، والقائمة تطول.
وبالتالي، يرى كثير من المحللين أن مبدأ "الحاجة أم الاختراع" على الأرجح سيفرض نفسه على تلك الجولة من المفاوضات النووية في فيينا، وقد يؤدي إلى نتيجة ما، حتى وإن كانت "اتفاق مؤقت" أعلنت طهران أنها ترفضه، تأجيلاً للملف إلى جولة أخرى وربما شراء مزيد من الوقت.