تتواصل الاحتجاجات الرافضة لانفراد الرئيس قيس سعيد بالسلطات في تونس، دون أن يبدو في الأفق مؤشرات على تراجع الرئيس أو وجود رؤية موحدة لدى المعارضة لكيفية العودة للمسار الديمقراطي، فما احتمالات سقوط البلاد في براثن الديكتاتورية؟
مرّ الآن 4 أشهر منذ اتخاذ سعيّد إجراءاته الاستثنائية، وأوشك المعسكر الذي أيده في البداية على أن ينفض تماماً من حوله بسبب استمرار ضبابية المشهد، ورغم ذلك لا يبدو أن قيس سعيّد نفسه ربما يكون غير واثق بشأن الوجهة التي يريد أن يأخذ البلاد إليها، بحسب أغلب المراقبين.
كان سعيّد قد قرر فجأة يوم 25 يوليو/تموز الماضي إقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي، متولياً بنفسه السلطة التنفيذية بمعاونة حكومة قال إنه سيعين رئيسها، كما قرر تجميد اختصاصات البرلمان لمدة 30 يوماً، ورفع الحصانة عن النواب، وقرر ترؤس النيابة العامة، ولاحقاً أصدر أوامر بإقالة مسؤولين وتعيين آخرين.
ثم قرر سعيّد تمديد تجميد عمل البرلمان لأجل غير مسمى، وسط مؤشرات نحو اتجاه الرئيس إلى تعديل الدستور، وهو ما ألمح إليه سعيد نفسه، وأثار انتقادات ورفض من جانب بعض من أيَّدوا قرارات الرئيس الاستثنائية.
وبالنظر إلى الظروف الحالية في تونس، فإن أي مسار انتقالي تسلكه البلاد خلال الأشهر المقبلة لن يقودها في غالب الأمر إلى طريق العودة إلى الديمقراطية، بحسب تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي عنوانه "هل تونس بصدد التحول إلى نظام حكم أوتوقراطي ليبرالي؟".
ماذا يعني الحكم الأوتوقراطي؟
يرى تحليل الموقع الأمريكي للموقف الحالي في تونس أن الوجهة الأرجح حتى الآن هي انزلاق البلاد إلى وضع تصبح فيه دولة شبه سلطوية، أو ما يسميه بعض المحللين بـ"أوتوقراطية ليبرالية".
ويتسم هذا النظام الهجين بمزيَّة التسامح مع قدر من الانفتاح السياسي، لكن هذا التسامح لا يكون إلا تحت مظلة المؤسسات والقوانين والقواعد ذاتها التي تمنح النظام الوسائلَ لردع (أو سحق) أي تهديد لسيطرته المطلقة.
من جهة أخرى، فإن الحافز الذي قد يدفع بعض قادة المعارضة لتحمُّل هذا النوع من الأنظمة (أو القبول به) هو أن البديل- الذي يمكن أن نطلق عليه ببساطة أوتوقراطية كاملة- من شأنه أن يعيد تونس إلى عصر القمع الذي يريد بعض القادة، ومنهم سعيّد نفسه، استعادته.
من ثم، فإن بعض المجموعات داخل البلاد قد ترى في بعض أنواع الأوتوقراطية الليبرالية بديلاً معقولاً، وخاصة إذا استثنى هذا النظام منافسيها السياسيين من المشاركة في الانتخابات.
وربما لهذا السبب تحديداً، فإن كثيراً من القيادات السياسية التونسية، رغم مخاوفها، لم ترفض انقلاب سعيّد رفضاً كاملاً بعد. ومع أن هدف هؤلاء قد يكون إصلاح ما آلت إليه تونس من ديمقراطية هشة بها نوع من تقاسم السلطة، فإن كثيرين منهم لن يذرفوا دمعةً إذا أقصى النظام الناتج عن ذلك الأحزاب الإسلامية وحركة النهضة على وجه الخصوص.
وقيس سعيّد يعرف جيداً أن هذا التضارب في المصالح بين معارضيه هو ورقته الرابحة. لهذا السبب، إذا أرادت تونس أن تتجنَّب الانحدار إلى الأوتوقراطية الليبرالية، فإن ما تشتد الحاجة العاجلة إليه هو معارضة موحدة تضم الإسلاميين والليبراليين واليساريين.
وفي هذا السياق، فإن احتجاجات 14 نوفمبر/تشرين الثاني الحاشدة أمام البرلمان -والتي قادتها مبادرة جديدة تطلق على نفسها اسم "مواطنون ضد الانقلاب"- قد تشير إلى البوادر الأولى لتكوين جبهة موحدة من هذا النوع. ومع ذلك، فإن سعيّد لا يزال مؤيداً بدعم العديد من القادة السياسيين، وجزء من عامة الناس، علاوة على الدعم الصريح أو الضمني لكثير من القيادات العليا للجيش والأمن. لذلك، فإن سعيّد يملك فرصة كبيرة للانتصار، خاصةً إذا استمر نجاحه الكبير في التلاعب بالحساسيات القومية من خلال وصمِه خصومه بأنهم مرتبطون بـ"قوى خارجية".
انتصار سعيد سيكون خسارة لتونس
في المقابل، فإن انتصار سعيّد سيكون خسارة لتونس، بحسب الموقع الأمريكي. فالبلد بحاجة إلى ديمقراطية دستورية لأن البدائل السياسية والاقتصادية عن ذلك أشد سوءاً وعاقبة، وقد تنهار البلاد من الداخل إذا لم تستقر على ضمانات لاستمرار الديمقراطية التعددية.
يمكن أن يحدث التقدم في سبيلي الديمقراطية والاستقرار جنباً إلى جنب، لكن تعايشهما المثمر يتطلب جهداً مستمراً من القادة التونسيين للاتفاق على خارطة طريق ديمقراطية متجددة. ومع أن الدفع الخارجي إلى الديمقراطية قد يعزز الخطاب الشعبوي لسعيّد واستغلاله، فإن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يظل لديهما مصلحة ملحة وملموسة في الدفع باتجاه تسوية سياسية حقيقية.
لكي ينجح نظام سياسي ما في التأسيس لنظام حكم أوتوقراطي ليبرالي، عليه أن يلبي أربع متطلبات أساسية. فرِّق تسُد؛ هذه استراتيجية مجرَّبة وموثوقة لكثير من الأنظمة الأوتوقراطية، لكنها حاسمة في الأوتوقراطية الليبرالية لأن الحكام في هذه الأنظمة يحتاجون إلى انفتاح الساحة السياسية بقدرٍ ما- أو مُتحكَّم فيها- إذا أرادوا أن يحظوا بالدعم من مجموعة سياسية ضد أخرى.
ومن ثم، فإن التأسيس لنوعٍ من التعددية العرجاء ضروري لبقاء النظام. وإن تأكيدات سعيد المتكررة أنه لن يكون "مستبداً" تدل على أنه يستوعب هذا، وإن لم يكن استيعابه كاملاً.
تجنُّب الإصلاحات الكبرى في النظام الاقتصادي أو تخفيف حدَّتها؛ للحفاظ على نجاح استراتيجية "فرِّق تسُد"، يتعين على الحاكم أن يتجنب فرض سياسات اقتصادية أو اجتماعية قد توحِّد المجموعات المنافسة للنظام. وخلال السنوات العشر الماضية، أدى فشل الحكومات المتعاقبة على السلطة في صياغة أي نوع من برامج الإصلاح الاقتصادي إلى انتشار لخيبة الأمل في الديمقراطية.
لكن هذا السجل التعيس لا يعني أن سعيّد سيحوز قلوب الشباب الساخطين في البلاد أو ينفذ إلى عقولهم باتخاذ القرارات ذاتها التي تجنَّبها أسلافه خوفاً من المعارضة. على النقيض من ذلك، فإن أفضل استراتيجية قد يلجأ هي الوصول إلى صيغة اقتصادية تنطوي على ضخٍّ مكثف للمساعدات الاقتصادية الخارجية، على نحو قد يخفف من الضغط عليه ويُتيح له فرض قرارات اقتصادية صعبة، والخلاصة أن الأوتوقراطية الليبرالية يجب أن تجد دعماً مالياً لها بطريقة أو أخرى.
تعزيز المنظومة القضائية الأمنية؛ في مقابل القدر الذي تسمح به من الانفتاح السياسي، فإن الأنظمة الأوتوقراطية الليبرالية يجب أن تتمتع أيضاً بالقدرة على استخدام الأجهزة الأمنية والقضائية لردع الجهة التي تريدها، ومعاقبتها إذا لزم الأمر ذلك. ولما تكون الخطوط الحمراء للمعارضة محكومة بالحكم التعسفي للسلطة التنفيذية، فإنها تظل غامضة ومتغيرة باستمرار، وهو ما يعزز في نهاية الأمر السلطةَ المطلقة للرئيس.
رئيس لديه الجلد والبراعة اللازمة لإدارة الأمور؛ لا تقتصر متطلبات القيادة في الأنظمة الأوتوقراطية الليبرالية على الثقة والحزم فحسب، بل تحتاج أيضاً إلى البراعة والعقلانية والذكاء. والمقصود أن القائد المحاط بالمتملقين الذين يدفعونه باتجاه الأحكام السيئة- أو العاجزين عن تعويض أوجه قصوره- لن ينجحوا في الحفاظ على التوازن المعقد بين الانفتاح المتسامح من جهة والسيطرة التي يفرضها النظام على المجال المؤسسي والقانوني اللازمة لاستقرار الأوتوقراطية الليبرالية من الجهة الأخرى.
عراقيل في طريق فرض سعيّد سلطته المطلقة
يبدو سعيّد ناضحاً بقدر فائق من الثقة، لكن لا أحد يعرف ما إذا كانت تلك الثقة تستند حقاً إلى مزيج من الفطنة السياسية ورؤية عقلانية أحكم لإدارة التحديات المؤسسية والاستراتيجية التي يواجهها. فحتى الآن، ساعدته تحركاته الغريزية وتحكمه الصارم في ذاته واطلاعه الواسع في التعامل مع كثير من الأمور التي تعتبر أساسية في الدفع من أجل الأوتوقراطية الليبرالية.
ويبدو أنه يحظى بولاء كبار المسؤولين في الجيش وقوات الأمن الداخلي والجهات الفاعلة الرئيسية في القضاء. ويُضاف إلى ذلك براعته في خطة "فرِّق تسد" ضد خصومه، فحملات الهجاء المكشوفة التي يشنها على حركة النهضة ذات التوجه الإسلامي تبدو حتى الآن محسوبة لردع السياسيين الذين قد ينضمون إلى معارضة الانقلاب.
علاوة على وعوده بتنظيم حوار وطني يستبعد "الذين نهبوا أموال الشعب والخونة". بالإضافة إلى أن اعتقال 6 صحفيين وقادة سياسيين من المعسكرات الإسلامية واليسارية ومحاكمتهم تشير إلى أنه ينتهج استراتيجية قمع انتقائية، ومع أنها تظل تعسفية فإنها تحافظ على صورة الحماية القانونية والدستورية الرسمية أثناء استخدام المحاكم العسكرية لفرض حدود المعارضة المقبولة.
في المقابل، فإن تصرفات سعيد وخطابه لا تبشِّر حتى الآن باستقراره على استراتيجية حكم متماسكة أو فعالة. فهو لم يتخلَّ عن رؤيته الطوباوية طويلة الأمد في إنشاء لجان شعبية محلية بدلاً من الأحزاب السياسية والبرلمان. بل إن شعبويته يحركها نوع من الحساسية تجاه مؤسسات الحكم الرسمية، وهو ما يتعارض مع العقلانية السياسية والاقتصادية المطلوبة لدفع النظام شبه السلطوي الذي يُفترض أنه يسعى إلى تأسيسه.
ضاعف تعنُّت سعيّد فعلياً من معاناة البلاد على الصعيد الاقتصادي. ويواجه الرئيس التونسي أزمة اقتصادية حادة وشبه متجذرة في اقتصاد تهيمن عليه مجموعة من الجهات القوية، منها رجال أعمال واتحادات عمالية منظمة، وكلاهما يضغط لإحباط أي برنامج إصلاح اقتصادي مستدام، ويعمل على التأثير في استراتيجية التفاوض مع صندوق النقد الدولي لكي تخدم مصالحه الخاصة.
ويضاف إلى ذلك أن تصريحات سعيد الاقتصادية ومطالباته في هذا الشأن تشير إلى نقص حاد لديه في أساسيات المعرفة الاقتصادية، وهو ما جمع عليه سخرية النخب واستنزاف رصيد الصبر عليه لدى عامة الناس.
بدا أن سعيّد يعوِّل على السعودية والإمارات لدعمه بمساعدات اقتصادية ضخمة، للتخفيف من حدة إجراءات التقشف التي تنطوي على مخاطر سياسية، لكن حتى الآن لا يوجد ما يشير إلى أن أياً من الرياض أو أبو ظبي ستلبي هذه الطلبات. وعلى النقيض من ذلك، أشار محللون سياسيون في واشنطن ممن لديهم تواصل مع الإدارة الأمريكية إلى أن البيت الأبيض حثَّ دول الخليج على تجنب الدعم اللازم لتمكين سعيّد. وهو ما يُنذر بتفاقم الأزمة الاقتصادية في تونس.
المعارضة وفرص الاتفاق على هدف واحد
قد تشير مظاهرات 14 نوفمبر/تشرين الثاني إلى إحراز بعض التقدم على طريق تكوين جبهةٍ معارضة أوسع نطاقاً. ومع ذلك، ستكون هذه المهمة شاقة بكل تأكيد؛ إذ لا تزال المعارضة تواجه انقسامات أيديولوجية واجتماعية واقتصادية تعقِّد جهود جوهر بن مبارك، وغيره من معارضي الحكومة، الساعين إلى صياغة أرضية مشتركة.
وأحد الأمثلة على ذلك، أنه في الوقت الذي كان يقدم فيه المتظاهرون قائمة مطالبهم، وعلى رأسها عودة البرلمان، خرج رئيس الاتحاد العام التونسي للشغل قائلاً للصحفيين إنه أبلغ سعيّد بأن الاتحاد النقابي مستعد لقبول انتخابات مبكرة دون عودة للبرلمان.
قد يستغل سعيّد الانقسامات داخل المجموعات ذات التوجه الإسلامي لاستقطاب المنشقين عن النهضة، وقد يكفل له دعمهم الضمني تعزيزَ نفوذه التفاوضي أثناء محاولته الموازنة بين الحفاظ على قدر من الانفتاح من جهة والسعي اللازم لمعاقبة منتقديه من جهة أخرى. ومع ذلك، فإن الحكم بالقبضة الحديدية قد يأتي بنتائج عكسية، ويمنح المعارضة دافعاً إلى تركيز سخطها على سعيّد نفسه، بحسب الموقع الأمريكي.
أعطى إصدار سعيَد لمذكرةٍ دولية لاعتقال الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي انطباعاً سيئاً، وبدا أن هناك خطوطاً حمراء يجب على الرئيس التونسي ألا يتجاوزها إذا أراد ألا يخاطر بتوسيع دائرة المعارضة له.
ومع ذلك، يبدو أن سعيّد يفتقر إلى المَلَكة والبصيرة والمهارة اللازمة للحفاظ على التوازن المعقد الذي يلزم لتجنب الانزلاق إلى هاوية التأسيس لنظام أوتوقراطي بالكامل. ولتجنب هذا الانحدار، يتعين عليه تقديم تنازلات لا يمكن بدونها أن ينعقد حوار وطني هادف وفعَّال للمضي بالبلاد قدماً.
ويواجه المجتمع الدولي تحدياً فيما يتعلق بإيجاد طريقة للاستفادة من تزايد المعارضة لانقلاب سعيّد داخلياً والافتقار القائم إلى الثقة به، دون تقويض مصداقية خصومه. لن يكون من السهل إدارة هذه المعضلة الصعبة، لا سيما مع الحماسة التي يبديها أنصار سعيّد المتحمسون في حملاتهم الإلكترونية التي صُمّمت بوضوح لترهيب منتقديه، وربما تهديدهم وعائلاتهم بدفع ثمن المعارضة.
ومع ذلك، فإن استعادة الديمقراطية الدستورية شرط لا غنى عنه، وإن لم يكن كافياً، للحيلولة دون انهيار اجتماعي أشد فداحة في البلاد. ومن ثم، يجب أن تستمر انتقادات الاتحاد الأوروبي وإدارة بايدن لانتهاكات حقوق الإنسان، إلى جانب الدفع إلى إعادة البرلمان وإقامة حوار وطني صادق وليس مزيفاً كما تبدو عليه الدعوات الحالية.
تشتد أهمية ذلك للإدارة الأمريكية التي توشك على عقد مؤتمر دولي حول الديمقراطية، لكنها على النقيض من ذلك متقبلة تقريباً لكل الأنظمة الأوتوقراطية في العالم العربي.
وعلى خطى الإدارات الأمريكية السابقة، يبدو أن البيت الأبيض يُنازع بين التزاماته المعيارية والأمنية في العالم العربي، والواضح حتى الآن أنه يميل للأخيرة. لكن العمل على عدم انتقال تونس إلى نظام مستبد قد يصحِّح هذا الوضع ويساعد في إقناع التونسيين على بذل الجهود مرة أخرى من أجل إحياء تجربتهم المبتورة في الديمقراطية وتجاوز معايبها السابقة بدلاً من تركها تندثر بلا رجعة.