هل تنامت قوة ونفوذ شركات التكنولوجيا الكبرى، مثل فيسبوك (ميتا) وأمازون وجوجل وغيرها، لدرجة تجعل من قدرة الحكومات الغربية على وضعها تحت السيطرة وإخضاعها لقوانين الاحتكار مهمة مستحيلة؟
هذا التساؤل قفز مرة أخرى إلى واجهة الأحداث خلال الأسابيع القليلة الماضية، بعد فضيحة التسريبات التي لاحقت فيسبوك وكشفت دور عملاق منصات التواصل الاجتماعي في تعميق الكراهية والانقسامات حول العالم لتحقيق أرباح جنونية، رغم أن السعي لإخضاع الشركات العملاقة لقوانين الاحتكار مستمر منذ سنوات.
ونشرت صحيفة The Guardian البريطانية تقريراً، بعنوان "هل يمكن كبح جماح شركات التكنولوجيا الكبرى؟"، رصد سيناريوهات التعامل مع تلك الشركات التي أصبحت تتمتع بنفوذ وسلطة تبدو أقوى بمراحل، مما تتمتع به الحكومات الغربية.
قصة تلك الشركات من بدايتها
عندما ينظر المؤرِّخون إلى هذه الفترة، فإن أحد الأمور التي سوف يجدونها رائعةً هو أن حكومات الديمقراطيات الغربية كانت نائمةً بسلامٍ لمدة ربع قرن بينما ظهرت خلال تلك الفترة أقوى الشركات، وأكثرها ربحيةً، عبر التاريخ، وقد تنامت بسرعاتٍ مُطردة دون توقُّفٍ أو إعاقة.
سوف يتساءلون كيف حَصَلَ عددٌ محدودٌ من هذه الشركات، التي أصبحت تسمَّى "عمالقة التكنولوجيا" (ألفابيت، وأمازون، وآبل، وفيسبوك، ومايكروسوفت) على سلطاتٍ غير عادية وبدأت في استخدامها. قاموا بتسجيل وتتبُّع كلّ ما نفعله على الإنترنت؛ من بريدٍ إلكتروني وتغريدات ومدونات وصور فوتوغرافية، وكلِّ ما أرسلناه على وسائل التواصل الاجتماعي، وكلِّ "إعجابٍ" سجَّلناه، وكلِّ مكانٍ زرناه، والمجموعات التي ننتمي إليها، ومن هم أقرب أصدقائنا.
هذا فقط مجرد بداية. حتى إن شركتين من هذه الشركات اخترعتا نوعاً جديداً من الرأسمالية الاستخراجية. ففي حين أن النموذج القياسي نَهَبَ الموارد الطبيعية للأرض، فإن "رأسمالية المراقبة" الجديدة هذه خصَّصَت الموارد البشرية في شكل سجلات ترصد سلوك المستخدمين، والتي تُرجِمَت من خلال الخوارزميات إلى ملفات تعريف مُفصَّلة يمكن بيعها لآخرين. وبينما جاءت أنشطة الرأسمالية الاستخراجية لنهب الكوكب في نهاية المطاف، تحوَّلَت أنشطة نظيرتها في المراقبة إلى تهديد الديمقراطية.
كانت بعض السلطات التي تمارسها هذه الشركات مألوفةً نسبياً، وهي في الأساس مجرد ظاهرة معاصرة لأنواع أقدم من القوة الصناعية، حيث الهيمنة الاحتكارية على أسواقٍ معينة.
لكن المؤرِّخين المستقبليين سوف يلاحظون أيضاً أن بعض السلطات التي حازتها شركات التكنولوجيا العملاقة في أوائل القرن الحادي والعشرين بدت جديدةً حقاً، وقد تضمَّنَت القدرة على تحويل المجال العام من خلال المعالجة الحسابية إلى خلاصات للمعلومات لدينا، والقدرة على إسكات أقوى سياسي في العالم الغربي فجأةً بمنعه من النشر على المنصات، والقدرة على إخفاء الأشخاص بشكلٍ فعَّال عن طريق حذفهم من عمليات بحث جوجل.
بداية القلق تجاه فيسبوك
انتهى سُبات الديمقراطية الطويل عام 2016، عندما هزَّ زلزالان سياسيان العالم السياسي، وهما التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانتخاب دونالد ترامب في الولايات المتحدة. ورغم أن كلتا الصدمتين كانت مؤشِّرة على توعُّكٍ عميقٍ في الديمقراطية الليبرالية، نُسِبَ كلٌّ منهما على نطاقٍ واسع -لكن بشكلٍ خاطئ- إلى وسائل التواصل الاجتماعي.
ليس هناك من شكٍّ في أن التكنولوجيا لعبت دوراً في اضطرابات العام 2016، ولكن أيَّ شخصٍ يعزو مثل هذه التحوُّلات الزلزالية إلى عمليات شركات التكنولوجيا فقط لم ينتبه إلى التاريخ الحديث للرأسمالية الديمقراطية. وفي الواقع، يقدِّم إلقاء اللوم هذا على شركات التكنولوجيا طريقةً ملائمةً لتجاهل الأسباب العميقة للاضطرابات.
ورغم ذلك، كان تركيز وسائل الإعلام واهتمام الجمهور ينصبان إلى حدٍّ كبيرٍ على قوة ودور شركات التكنولوجيا في مجتمعاتنا. شهدت السنوات منذ العام 2016، موجةً من النشاط: دعاوى قضائية ضد الاحتكار، وحملة السيناتورة إليزابيث وارن الرئاسية، وجلسات استماعٍ في الكونغرس، وتحقيق كبير من قِبَلِ مجلس النواب الأمريكي، والتسريبات من داخل الشركات، وفضائح كشفتها وسائل الإعلام (فضيحة Cambridge Analytica ودور فيسبوك في تسهيل الإبادة الجماعية في ميانمار، ودور يوتيوب في نشر التطرُّف الذي يفضي إلى إطلاق النار على الناس، إلخ)، وتحقيقات من قِبَلِ سلطات المنافسة في المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي ومناطق أخرى.
وفقاً لبعض الإحصائيات، هناك ما لا يقل عن 70 إجراءً من هذا القبيل قيد التنفيذ بجميع أنحاء العالم في الوقت الحالي. في الولايات المتحدة على سبيل المثال، أطلقت ما يقرب من 40 ولايةً دعاوى بشأن المنافسة ضد جوجل، وتُتابع وزارة العدل دعوى ضد فيسبوك. وفي أوروبا، رفعت المفوضية الأوروبية دعوى منافسة واتِّهاماتٍ أخرى ضد أمازون وجوجل، في حين رفعت بعض شركات التكنولوجيا الأخرى دعوى قضائية ضد شركة آبل، بسبب سلوكها المزعوم المناهض للمنافسة في إدارة متجر التطبيقات الخاص بها.
ومع ذلك، لم نشهد حتى الآن سوى قليل من القيود الملموسة والفعَّالة على سلطات شركات التكنولوجيا. وقد تؤدِّي الاكتشافات المثيرة التي تميط وسائل الإعلام اللثام عنها، إلى إثارة نقاشاتٍ محمومة، لكنها ليست بديلاً عن التدخُّل التنظيمي الجذري أو الإجراء التشريعي. ورغم أن جلسات الاستماع في الكونغرس الأمريكي قد تحسَّنَت مؤخَّراً، غالباً ما كانت مجرد مباريات صراخٍ يستدعي فيها المشرِّعون البارزون المديرين التنفيذيين في مجال التكنولوجيا.
هذا لا يعني أنه لم تكن هناك بعض التدخُّلات الجادة من قِبَلِ مُختلف السلطات. على سبيل المثال، فُرِضَت غرامات ضخمة على تجاوزات شركات فيسبوك وجوجل. في حالة جوجل، فرضت المفوضية الأوروبية ما مجموعه 9.5 مليار دولار من الغرامات على الشركة منذ عام 2017. والمشكلة هي أن هناك قليلاً من الأدلة على أن مثل هذه العقوبات الهائلة تمثِّل رادعاً لمثل هذه الشركات ذات الأرباح الجنونية.
هل أصبحت المهمة مستحيلة؟
لنعطِ مثالاً واحداً فقط. في عام 2012، تعرَّضَ فيسبوك لمرسوم موافقة من قِبَلِ المنظِّم الأمريكي، وهو لجنة التجارة الفيدرالية، تعهَّد فيه دائماً بالحصول على موافقة مستخدميه قبل مشاركة معلوماتهم بما يتجاوز إعدادات الخصوصية المحدَّدة. وبعد فضيحة Cambridge Analytica، قضت لجنة التجارة الفيدرالية بأن الشركة انتهكت هذا المرسوم وغرَّمتها 5 مليارات دولار، وهي أكبر عقوبة فرضتها على الإطلاق. أما النتيجة المباشرة لهذا الخبر، فكانت ارتفاع سعر سهم فيسبوك من 201 دولار إلى 205 دولارات.
إن مهمة إخضاع هذا النوع من الشركات للرقابة العامة مهمة عملاقة حقاً. وكما يعلم أيُّ شخصٍ عمِل في الحكومة، فإن التنظيم الصناعي صعبٌ على الديمقراطيات الليبرالية. أولاً، يتطلَّب إرادة سياسية، الأمر الذي يستلزم بدوره اهتماماً عاماً وتأييداً شعبياً. وثانياً، يحتاج إلى رؤيةٍ وأفكارٍ جديدة حول كيفية استخلاص فوائد التكنولوجيا للمجتمع مع تقليل الضرر الناتج عن سلطات الشركات غير المقيَّدة التي تتحكَّم فيها.
وثالثاً، يتطلَّب تحديداً تشريعياً والبقاء بالسلطة، لأن التغيير الهيكلي في الديمقراطية يستغرق وقتاً طويلاً. كلُّ هذه المتطلَّبات الأساسية كانت غائبةً في العقود التي كان عمالقة التكنولوجيا ينمون فيها وصولاً إلى هيمنتهم الحالية، مِمَّا يعني أن الديمقراطيات تلعب الآن دوراً في اللحاق بالركب.
في الآونة الأخيرة، أصبحت الحكومات الغربية متأخِّرةً في التحوُّل إلى فكرة أنه "يجب القيام بشيءٍ ما" بشأن قوة شركات التكنولوجيا. أما ما إذا كانوا يفهمون طبيعة وحجم المهمة، فهذا أمرٌ قابلٌ للنقاش. وبالنسبة لأولئك الذين يشكِّكون في قدرة الحكومات على إحداث تغييرٍ هيكلي، فإن الردَّ الأساسي هو أنه بما أن الديمقراطيات قد تعامَلَت مع هذا النوع من التحدي من قبل، فإنها تستطيع فعل ذلك مرةً أخرى.
في العقد الأول من القرن التاسع عشر والسنوات الأولى من القرن العشرين، استحوذت الجمهورية الأمريكية على الصناديق الصناعية الكبرى التي جمعتها عائلات روكفيلر ومورغان وكارنيغي وفاندربليت وأخضعتها لنوعٍ من السيطرة الديمقراطية.
لكن هذا لم يكن ممكناً إلا بسبب وجود قلقٍ عام واسع النطاق بشأن الانتهاكات الواضحة التي ترتكبها الصناديق الائتمانية لسلطتها الموحَّدة، وهو القلق الذي أذكته كميةٌ هائلةٌ من التقارير الاستقصائية التي أعدَّها كتَّابٌ وصحفيون مثل الكاتبة الأمريكية إيدا تاربيل. هذا القلق العام تحوَّل إلى ضغطٍ سياسي، فعلى سبيل المثال، شارك ثلاثة من المُرشَّحين الأربعة في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 1912 على منصاتٍ معادية بشدة لمثل هذه القوة الصناعية المتراكمة.
دور مستخدمي شركات التكنولوجيا
ومع ذلك، في الديمقراطيات المعاصرة، لا يقوم أيُّ حزبٍ سياسي بحملاتٍ على منصة كهذه، لسببٍ بسيط هو أن الناخبين لا يبدو أنهم مهتمون بقوة التكنولوجيا. وهذا ليس مفاجئاً تماماً، فالفهم العام للتكنولوجيا الرقمية مقيَّد بتعقيدها الهائل. والأهم من ذلك، نظراً إلى أن الإنترنت والخدمات التي تعمل عليها أصبحت متشابكة بشكلٍ وثيقٍ مع الحياة اليومية للناس، فقد أصبحوا معتمدين عليها، وهو اعتمادٌ أكَّدته الجائحة بوضوح.
لذا، على الرغم من أن استطلاعات الرأي قد تشير إلى أن الناس قلقون بشأن القوة التكنولوجية، فإن سلوكهم يروي قصةً مختلفة: إنهم يعانون مِمَّا يسميه علماء النفس "التنافر المعرفي"، حيث الضغط الناجم عن الاستمرار في فعل شيءٍ يتعارض مع ما تؤمن بأنه صحيح. وهذا هو مصدر "مفارقة الخصوصية" التي تسيطر على مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي الذين يخشون بالفعل أن تُقوَّض خصوصيتهم من قِبَلِ هذه الوسائل، لكنهم مع ذلك يواصلون استخدامها.
لكن الازدراء المتعالي لمثل هذا السلوك المتناقض غير عادلٍ ويؤدِّي إلى نتائج عكسية، لأنه يتجاهل قوة تأثير الشبكات التي تجعل الناس محبوسين في منصات الإنترنت. حاول إخبار الجدَّة التي تستخدم فيسبوك للتواصل مع أحفادها في أستراليا، بأن مخاوفها بشأن الخصوصية متناقضة! إنَّ ما يُغفله منتقدو وسائل التواصل الاجتماعي هو مدى تقدير الأشخاص "العاديين" لهذه الخدمات "المجانية"، حتى لو كانت لديهم شكوكٌ حول أخلاقيات الشركة التي توفِّرها.
والسياسيون في الديمقراطيات الليبرالية، بنظراتهم الثابتة بشكلٍ دائم على الدورات الانتخابية، يعرفون ذلك جيِّداً. تلقَّت الحكومة الأسترالية تذكيراً حاداً في فبراير/شباط الماضي، عندما حَظَرَ فيسبوك الأخبار على مستخدميها في البلاد حول نزاعٍ حول قانونٍ مُقتَرَح، من شأنه أن يجبرها ويجبر شركة جوجل على أن يدفعا لناشري الأخبار مقابل المحتوى. بعد أيامٍ قليلة، تم التوصُّل إلى تسويةٍ تتضمَّن تغييراتٍ في التشريع المقترح. وأعقب ذلك، كما هو مُتوقَّع، خلافٌ حول من الذي يُلام أولاً: فيسبوك أم الحكومة؟ ومع ذلك، كان الاستنتاج الذي لا مفر منه هو أن رئيس الوزراء المنتخب ديمقراطياً الذي سيمنع الوصول إلى إنستغرام (إحدى الشركات التابعة لفيسبوك) لم يُولَد بعد.
يُعتَبَر النقد النبيل لافتقار مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي إلى الأخلاقيات غير عادلٍ أيضاً، لأنه يحمِّلهم أكثر من طاقتهم. يتخيَّل معظم الناس أنهم إذا قرَّروا التوقُّف عن استخدام البريد الإلكتروني الخاص بـ"جوجل" أو "مايكروسوفت أوت لوك" أو لم يشتروا قط كتاباً من أمازون، فإنهم قد حرَّروا أنفسهم من مخالب هذه الشركات العملاقة. لكن تغلغل التكنولوجيا الشبكية وترابطها يجعلان الطريقة الوحيدة لتجنُّب مخالب شركات التكنولوجيا هي الخروج من الشبكة تماماً.
قبل ثلاث سنوات، أجرت صحفيةٌ جريئة تُدعى كشمير هيل تجربةً مثيرةً للاهتمام، من أجل معرفة ما إذا كان بإمكانها تجنُّب استخدام خدمات أمازون أو فيسبوك أو مايكروسوفت أو جوجل أو آبل. قالت: "على مدار ستة أسابيع، قطعت هذه الخدمات من حياتي، وحاولت منعهم من التعرُّف عليَّ أو كسب المال بأيِّ شكلٍ من الأشكال، ليس فقط عن طريق وضع هاتف الآيفون في الدرج لمدة أسبوع فقط، بل عن طريق منع هذه الشركات حقاً من الوصول إليّ. أردت معرفة مدى صعوبة الأمر، أو ما إذا كان بإمكاني القيام بذلك، بالنظر إلى أن عمالقة التكنولوجيا هؤلاء يسيطرون على الإنترنت بالعديد من الطرق غير المرئية التي يصعُب حتى التعرُّف عليها".
كانت النتائج التي توصَّلت إليها كشمير رائعة. لقد أوضحت أن حياتنا الآن تُدار على بنيةٍ تحتية تقنية تملكها وتشغِّلها وتتحكَّم فيها حفنةٌ من الشركات العملاقة، لا مفر منها حالياً إلا إذا كنت تخطِّط لسُباتٍ عميق. ولكن ربما كانت النتيجة الأكثر واقعية للتجربة هي مدى دعم كلِّ خدمةٍ رقمية نستخدمها، بواسطة خدمة الحوسبة السحابية من أمازون (اتَّضَح أنه حتى خدمات الأمن في الديمقراطيات الكبرى تستخدم هذه الخدمة). وبطريقةٍ ما، قد يساعد هذا في تفسير سبب حرص الحكومات الغربية على مواجهة عمالقة التكنولوجيا، خاصةً أمازون.