تكدس آلاف الأشخاص في خيام بالية وملاجئ مؤقتة مرتجلة يعانون فيها التجمد وبؤس الظروف في الغابات الواقعة غرب بيلاروسيا. بعضهم يكابد البرد والجوع، وغيره أعجزه المرض، وآخرون سقطوا صرعى بالفعل، هذا المشهد ليس إلا جزءاً من سياسات روسيا لإضعاف أوروبا.
ومن المتوقع أن هؤلاء المهاجرين المساكين قد يتبعهم مزيد من الضحايا في الأيام المقبلة، يُشحنون إلى مينسك عاصمة روسيا البيضاء مع وعود من النظام هناك بـ"رحلة شاملة" تنقلهم فيها الحافلات إلى الحدود؛ في محاولة للوصول إلى أوروبا الغربية عبر بولندا. وفي هذا النوع الجديد من الحروب، تبدو معاناة البشر هي الذخيرة.
هؤلاء المهاجرون هم ضحايا خطة جيوسياسية شديدة الخطورة وُضعت لتعرية نقاط ضعف الغرب، وتأجيج انقساماته الداخلية، وإذكاء الخلافات بين دولِه والطعن في مصداقيتها، حسبما ورد في تقرير لمجلة The Times البريطانية.
سياسات روسيا لإضعاف أوروبا تتجلى في أزمة المهاجرين
تقف وراء كل هذا روسيا. واقع الأمر أنها بلد ضعيف اقتصادياً، اقتصاده يوازي حجم اقتصاد إيطاليا الأقل مساحة بكثير، ويعاني أزمات داخلية وخارجية لا تُحصى. ومع ذلك، فإن روسيا تستعين بالحيلة والدأب لإرباك الغرب مرةً تلو المرة. ويعتمد الكرملين على وكلائه، مثل بيلاروسيا، لمنحه قدراً من الإنكار المعقول لمسؤوليته عن تلك الأزمات.
على سبيل المثال، يرفض المتحدث باسم بوتين أي تلميح إلى أن روسيا قد يكون لها يد في أزمة المهاجرين، ويصف من يشيرون إلى هذا الاحتمال بأنهم "مهووسون"، وفي الوقت نفسه يلقي باللوم على الاتحاد الأوروبي في وقوع الأزمة.
لكن الحقيقة هي أن حاكم بيلاروسيا المستبد، ألكسندر لوكاشينكو، يعتمد اعتماداً كلياً على الكرملين للحصول على الأموال والقوة العسكرية التي يحتاجها للبقاء في السلطة. والأمر لا يستدعي أكثر من مكالمة هاتفية قصيرة من بوتين لإجباره على التراجع.
يريد فرض إتاوة على أوروبا
والحال أن الكرملين ودولة بيلاروسيا الدائرة في فلك تبعيته يديران عمليةً هدفها الحصول على إتاوة من الاتحاد الأوروبي، بأسلوب يليق بفنون إدارة العصابات، حتى إن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، اقترح مباشرةً أن يدفع الاتحاد الأوروبي أموالاً إلى بيلاروسيا للحد من تدفق المهاجرين عبر الحدود، مشيراً إلى اتفاق شبيه وقعته الدول الأوروبية مع تركيا في عام 2015.
استطاع بوتين ولوكاشينكو أن يفعلا ذلك، لأن الغرب عالق في معضلة تتعلق بالهجرة وكيفية التعامل معها. فمن جهة، يؤدي النمو السكاني المفرط والتغير المناخي والحروب والفقر والمجاعات وفساد الحكومات إلى تدفق ملايين الأشخاص من الشرق الأوسط والبلدان الإفريقية وغيرها من المناطق، إلى أوروبا.
لكن على الجهة الأخرى، يعارض الناخبون في الدول الغربية الهجرة الجماعية وداعميها، ومن ثم لا يملك السياسيون الغربيون سوى الانصياع لرغبات ناخبيهم، لكن النتيجة هي أن الناس يموتون على حدود الدول الغربية، وتتعرى حقيقة القيم الإنسانية التي لطالما ادعتها تلك الدول أمام العالم بأسره.
سبق أن فعلها مع فنلندا ونال مراده
أمَّا الحل الآخر، فهو إثراء تجار البشر هؤلاء وتخلي الدول عن سيادتها إرضاء لهم. سبق أن جربت روسيا ذلك في عام 2016، بشحن المهاجرين إلى حدودها مع فنلندا. ولم ينتهِ التهديد وقتها إلا عندما وافقت هلسنكي على استئناف العلاقات الثنائية التي كانت مجمدة مع روسيا بعد حرب الأخيرة على أوكرانيا.
وفي هذا السياق، قال تقرير صادر عن "مركز الدراسات المشرقية" OSW في وارسو: "وفيما يتعلق بأدوات السياسة الخارجية للكرملين، فقد أصبح التهديد بتوجيه تدفقات المهاجرين إحدى وسائل الضغط البارزة التي يمكن استخدامها لفرض الشروط في العلاقات الثنائية". علاوة على أن قضية المهاجرين يمكن استخدامها لتقويض ثقة الجمهور بالمسؤولين المنتخبين وزيادة حدة الاستقطاب بين الآراء السياسية، وكلا الأمرين يتناسب مع هدف الكرملين بعيد المدى، الذي يمكن تلخيصه في مبدأ "فرِّق تسُد".
الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يتحملان المسؤولية
فشلت الولايات المتحدة ومعها الدول الأوروبية ومؤسساتها فشلاً ذريعاً في مواجهة الدول المارقة، مثل بيلاروسيا وروسيا الحاضنة لها، وهو فشل ممتد منذ عقود. وقد حاول أوباما "إعادة ضبط" العلاقات مع الكرملين في عام 2009، لكن الأمر جاء بعواقب وخيمة كما كان متوقعاً.
وتقول أرمينيكا هيليك، وهي سياسية بريطانية مرموقة لها باع في الشؤون الخارجية، إن "بوتين يزداد قوةً مع كل بادرة ضعف يبديها الغرب تجاه استفزازاته المستمرة من البلقان إلى بولندا إلى دول البلطيق. بمعنى أنه لن يتوقف إلا إذا تصدينا له".
في الوقت الحالي، يمسك الكرملين زمام المبادرة، فهو المتحكم في إيقاف أزمة الهجرة أو استمرارها. ويقع في يده أمر الالتفات في أي وقت إلى هدف آخر، مثل ليتوانيا أو لاتفيا أو بلد آخر بشمال أوروبا، أو زيادة حدة الأزمات من جبهات عدة في وقت واحد.
فعلاوة على أزمة المهاجرين، هدد لوكاشينكو بقطع إمدادات نقل الغاز إلى أوروبا. ومع أن روسيا أعلنت رفضها هذا التهديد، فإن الواقع يشهد بأنها كانت تؤجج منهجياً أزمة إمدادات الغاز الشتوية في أوروبا بالتناقض بين أقوالها وأفعالها.
كل هذه التفاصيل جزء من صورة أوسع نطاقاً للصدام الغربي مع روسيا، فكما هو الحال مع تسرب المطر من كل ثغرة يجدها في سقف مثقوب، يخترق نفوذ روسيا كل ثغرة يجدها في ساحة المواجهة الغربية معه.
وها هو يخترق أوروبا من خاصرتها الجنوبية الغربية الرخوة، ويهدد بإعادة الحرب للبوسنة
ويمكن النظر إلى منطقة غرب البلقان باعتبارها مثالاً واضحاً في هذا السياق، إذ بعد أن كان الرهان على الاحتمال المغري بالانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي كافياً لتشجيع الإصلاحات الاقتصادية والسياسية وإبعاد مثيري الانقسامات الخارجيين والحفاظ على السلام، ها هو صبر السكان المحليين قد أوشك على النفاد وتلاشت الموثوقية بالغرب، لاسيما بعد قمة الاتحاد الأوروبي في الصيف والتي أوقفت أي محادثات أخرى بشأن العضوية. وكانت النتيجة أن بدأت كل من روسيا والصين في استغلال الفرصة الجديدة التي أتيحت لهما.
تمر البوسنة والهرسك بأعمق أزمة سياسية تشهدها البلاد منذ أكثر من عقدين، وعاد الصراع المسلح ليصبح احتمالاً قائماً مرة أخرى. وبالطبع فإن الحليف الرئيسي لروسيا، زعيم صرب البوسنة السلطوي ميلوراد دوديك، له دور بارز في هذه الأزمة، فهو يدعو إلى انفصال بحكم الأمر الواقع عن دولته، وقال إنه سينسحب من المؤسسات الدستورية المتبقية في البلاد، وهو ما يمهد الطريق لعودة التطهير العرقي والمذابح واللاجئين، وربما مزيد من التدخل الروسي.
كل ما يحتكم عليه دوديك هو زعامته لنحو 1.2 مليون شخص من صرب البوسنة واقتصاد يبلغ حجمه 6.71 مليار دولار، ومع ذلك فهو قادر على تحدي الاتحاد الأوروبي، الذي يزيد حجمه على ذلك بنحو 300 مرة. وكما هو الحال مع بوتين ولوكاشينكو، فإن السبب في ذلك بسيط: ألا وهو فشل القيادة الغربية في التعامل مع الأزمة.
هل يكون الحل في اتخاذ الغرب موقفاً حاسماً ضد روسيا؟
بالعودة إلى أزمة اللاجئين على الحدود البيلاروسية، فإنّ فرض عقوبات على شركات الطيران التي تنقل المهاجرين إلى بيلاروسيا هو إحدى الخطوات التي يفترض سهولتها وإمكانية تطبيقها على نحو عاجل. ومع ذلك، فإن حتى هذه الخطوات اليسيرة تأخرت. والأهم من ذلك هو التدخل الإنساني بدعم من الأمم المتحدة، وتوفير مساعدات عاجلة للأشخاص الذين تقطعت بهم السبل على الحدود.
لكن هذه تظل مجرد إصلاحات قصيرة المدى، وما يجدر بالغرب فعله حقاً هو رد منظم على تلك الضربات التي تستعين فيها روسيا بترسانة أسلحة ضخمة، تشمل الاغتيالات والفساد والهجمات الإلكترونية والضغط الدبلوماسي والاقتصادي والأموال القذرة والمعلومات المضللة والتجسس والجريمة المنظمة والدعاية الموجهة، فضلاً عن السلاح الحالي: تعزيز تدفقات الهجرة على الحدود الأوروبية.
كانت الآمال معقودة على إدارة بايدن في أن يحسن التصدي للخطر الروسي، وقد أحرزت الولايات المتحدة بالفعل تقدماً غير متوقع في التعامل مع التدفقات الدولية للأموال غير المشروعة، لكن الأولوية القصوى للإدارة الأمريكية حتى الآن هي مواجهة الصين، وهي الجبهة التي تبدو فيها أوروبا عديمة الجدوى بالنسبة إلى الولايات المتحدة. ومن ثم، تنصرف الولايات المتحدة عن دعم أوروبا، ويقول المسؤولون في واشنطن: ما الذي يدعو الولايات المتحدة إلى الاهتمام بأمن القارة الأوروبية أكثر من اهتمام الأوروبيين أنفسهم به؟
أسباب عديدة تدعو الولايات المتحدة إلى التدخل بصرف النظر عن موقف أوروبا حالياً، فألمانيا بلا قيادة حتى تتولى حكومة جديدةٌ السلطة، ولا يملك إيمانويل ماكرون رأس مال سياسياً فائضاً، لاسيما وهو يخوض معركة إعادة انتخابه. أما بريطانيا، فبدلاً من إعادة بناء علاقاتها الأمنية الحيوية مع الاتحاد الأوروبي بعد الخروج منه، أثار بوريس جونسون خلافاً لا داعي له حول البروتوكول المتعلق بأيرلندا الشمالية.
تقول الصحيفة البريطانية: "الخلاصة أنه في الوقت الذي يُحجم فيه قادة الغرب عن التدخل وينشغلون بالتشاجر مع بعضهم، فإن الخصوم يعملون بجدٍّ وينتصرون في معارك جديدة".