مع ارتفاع وتيرة الرفض التام لانفراد الرئيس قيس سعيّد بالسلطة وتحول المظاهرات الرافضة لإجراءاته الاستثنائية إلى زخم شعبي لا يمكن إنكاره، هل تمثل "المبادرة الديمقراطية" مخرجاً لأزمة تونس؟
فبعد مرور ما يقرب من أربعة أشهر منذ اتخاذ سعيّد إجراءاته الاستثنائية، كشف حراك "مواطنون ضد الانقلاب" ونشطاء سياسيون ومستشارون سابقون في رئاسة الجمهورية التونسية، قبل أيام، عن خارطة طريق لإنهاء التدابير الاستثنائية التي اتخذها رئيس البلاد قيس سعيّد، أطلقوا عليها "المبادرة الديمقراطية".
وكان سعيّد قد قرر فجأة يوم 25 يوليو/تموز الماضي إقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي، متولياً بنفسه السلطة التنفيذية بمعاونة حكومة قال إنه سيعين رئيسها، كما قرر تجميد اختصاصات البرلمان لمدة 30 يوماً، ورفع الحصانة عن النواب، وقرر ترؤس النيابة العامة، ولاحقاً أصدر أوامر بإقالة مسؤولين وتعيين آخرين.
ثم قرر سعيّد تمديد تجميد عمل البرلمان لأجل غير مسمى، وسط مؤشرات نحو اتجاه الرئيس إلى تعديل الدستور، وهو ما لمّح إليه سعيد نفسه، وأثار انتقادات ورفضاً من جانب جميع الأحزاب والتيارات والهيئات التونسية، حتى هؤلاء الذين أبدوا تأييداً لقرارات الرئيس الاستثنائية في بدايتها.
ما بنود المبادرة الديمقراطية؟
تهدف خارطة طريق وثيقة "المبادرة الديمقراطية" إلى "إلغاء حالة الاستثناء وكلّ ما ترتب عنها من إجراءات اعتباطية، وفرض العودة إلى المسار الدستوري استعداداً لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية سابقة لأوانها، خلال النصف الثاني من سنة 2022″، بحسب بيان المبادرة.
كما تتضمن "عودة مجلس نواب الشعب المنتخب ليتولى فوراً تعديل نظامه الداخلي، بما يضمن حسن سيره وحوكمته وفرض الانضباط داخله، بما يمكنه من إنجاز المهام الأساسية".
وهذه المهام هي "استكمال انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية (..) وإرساء هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد وتجديد عضوية أعضاء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، والعمل على إتمام المسار القانوني لإرساء باقي الهيئات الدستورية، لاسيما هيئة الاتصال السمعي البصري".
كما شدد البيان على ضرورة "تشكيل حكومة إنقاذ وطني حائزة على شرعية تمكنها من بناء الثقة مع كل الفاعلين الاقتصاديين وطنياً ودولياً وفق برنامج اقتصادي يوقف نزيف المالية العمومية ويجنب البلاد مخاطر الانهيار والانفجار الاجتماعي".
ودعا القائمون على المبادرة إلى الالتزام "بالتشاور والشراكة مع كل القوى الوطنية، وفي مقدمتهم الاتحاد العام للشغل (أكبر منظمة عمالية) لإطلاق حوار وطني وشامل حول الملفات الاستراتيجية الكبرى وبمشاركة كل الفاعلين في الشأن العام من أحزاب ومنظمات وطنية ومدنية دون إقصاء".
تونس تعاني من عزلة دولية
إطلاق "المبادرة الديمقراطية" جاء في مؤتمر صحفي حضرته شخصيات سياسية من مختلف التيارات الحزبية والأيديولوجية، بينهم مسؤولون سابقون في رئاسة الجمهورية في فترة ما بعد 14 يناير/كانون الثاني 2011، مثل زهير إسماعيل، مستشار الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي، ورضا بلحاج، مستشار للرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، وعبد الرؤوف بالطبيب، المستشار السياسي لسعيد، الذي استقال في فبراير/شباط 2020.
وقال "بالطبيب"، في المؤتمر، إنه "لا أحد ينكر أن تونس في عزلة دولية، ولنا شراكة مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ومجموعة السبع الذين أجمعوا أن لا عودة للتعاون إلا بعد الرجوع إلى الشرعية الدستورية".
كان موقع Responsible Statecraft الأمريكي قد تناول الموقف في تونس في أعقاب إجراءات سعيد الاستثنائية في تقرير له بعنوان "قيس سعيّد يدخل في تحالفات إقليمية محفوفة بالمخاطر"، محذراً من عدم امتلاك الرئيس سعيّد لرؤية واضحة لمستقبل البلاد.
وترفض غالبية القوى السياسية في تونس تدابير سعيد الاستثنائية، وتعتبرها "انقلاباً على الدستور"، بينما تؤيدها قوى أخرى في ظل أزمات سياسية واقتصادية وجائحة كورونا، حيث ترى فيها "تصحيحاً لمسار ثورة 2011″، التي أطاحت بالرئيس آنذاك زين العابدين بن علي.
وبدعوة من مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب"، وصل آلاف التونسيين إلى وسط العاصمة السبت 14 نوفمبر/تشرين الثاني، لكن قوات الأمن منعتهم من بلوغ مقر البرلمان، ورددوا هتافات منددة بتدابير سعيد الاستثنائية منها: "يسقط الانقلاب" و"ارحل" و"الشعب يريد ما لا تريد".
معارضة أكثر تنظيماً لانقلاب الرئيس
وقال عادل بن عبد الله، باحث في الشؤون السياسية، للأناضول، إن إطلاق "المبادرة الديمقراطية" يعني "تجاوز المرحلة السلبية من النضال، والانطلاق نحو المعارضة الفاعلة الإيجابية والخروج من منطق المعارضة دون طرح بديل إلى معارضة مصحوبة بطرح لبديل تتجمع حوله قاعدة ومنفتح على باقي الأطراف، ويمكن أن يطور أو يعدل المبادرة".
وتابع أن المبادرة "هي جملة من المقترحات القابلة للإضافة في إطار حوار مع باقي قوى المعارضة ومنظمات المجتمع المدني، وخاصة الاتحاد العام للشغل، الذي كشف في المدة الأخيرة عن مسافة بينه وبين أطروحات الرئيس، فأصبح الاتحاد يبين خلافه معه (سعيد) في مستوى الجزئيات".
وأفاد بأنه توجد مبادرات بالتوازي مع "المبادرة الديمقراطية" التي أطلقتها مجموعة "مواطنون ضد الانقلاب" ومطالبهم لا تختلف جوهرياً إلا من ذلك النفس الأيديولوجي في الديباجة بتحميل الفشل للترويكا والائتلاف الحاكم في العشرية الأخيرة".
و"الترويكا" هو ائتلاف من أحزاب "حركة النهضة" و"المؤتمر من أجل الجمهورية" و"التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات"، والذي حكم البلاد بين 2011 و2014.
ووقعت مجموعة من النخبة التونسية، بينهم أكاديميون ووزراء وسفراء سابقون ونشطاء حقوقيون ومحامون وقضاة ورؤساء جمعيات، على عريضة، نُشرت في 6 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، للتنديد بمذكرة جلب دولية أصدرها القضاء التونسي بحق الرئيس الأسبق المرزوقي (2011-2014)، أحد أشد الرافضين لتدابير سعيد الاستثنائية.
ورأى "بن عبد الله" أن "إمكانية التلاقي بين المبادرات السياسية الدافعة نحو العودة إلى المسار الديمقراطي تصطدم بمن يكون قاطرة المعارضة في انتظار تسويات سياسية قادمة".
وبخصوص وجود "بالطبيب" كأحد الداعمين للمبادرة، قال إن "بالطبيب اكتسب وزنه السياسي من تقلده منصب مدير الديوان الرئاسي وقربه من الرئيس سعيّد، ووجود بالطبيّب في صف المعارضة يعني أن الرئيس يتفنن في خسارة الأصدقاء فهو يصنع من الأصدقاء أعداءً، وبينهم مستشارون استقالوا وأحزاب مساندة اتخذت منه مسافة مثل التيار الديمقراطي وحركة الشعب".
وفي 2019 بدأ سعيد ولاية رئاسية من 5 سنوات، وهو يقول إن قراراته الاستثنائية ليست انقلاباً، وإنما تدابير في إطار الدستور لحماية الدولة من "خطر داهم"، وفق تقديره.
مبادرة "تصحيح المسار"
المحلل السياسي بولبابة سالم اعتبر أن مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب" هي مبادرة وطنية فوق الأحزاب السياسية، صحيح أنها تضم مناضلين لأحزاب، ولكن جمعت أطيافاً مختلفة، ورأيت أن ما يجمع بينهم هو الدفاع عن الحرية والديمقراطية، التي تعتبر مهددة بفعل الانقلاب".
وأضاف سالم للأناضول أن "هذه المبادرة تهدف إلى إنقاذ المسار الديمقراطي والمحافظة على الدستور، وهي محاولة إنقاذ وطني حقيقية لأنها تشمل انتخابات رئاسية وتشريعية سابقة لأوانها وتنقيح القانون الانتخابي وإرساء المحكمة الدستورية".
وتابع أن المبادرة "فيها ضبط محدد لبقية أعمال مجلس النواب في الفترة القادمة حتى لا تكون جلساته مجالاً للتهافت السياسي الذي تستغله بعض الأطراف الفوضوية والتي تريد ترذيل العمل السياسي في تونس، والذي أدى إلى انقلاب 25 يوليو".
ورأى أن "هذه المبادرة فيها وفاء لشهداء الثورة التونسية الذين ضحوا من أجل الحرية ولا يمكن بناء تنمية أو تشغيل (توفير فرص عمل) بدون ديمقراطية، هناك تلازم بين التنمية والديمقراطية، فالسلطة المطلقة هي المفسدة المطلقة".
وأكد سالم أن "وجود رموز مثل عبد الرؤوف بالطبيب الذي عمل في ديوان رئاسة الجمهورية ومستشار رئيس الدولة سعيد أثبت أن المشكلة في شخص الرئيس؛ لأنه لا يستمع إلا لنفسه والكثير ممن كانوا يشتغلون معه انفضوا من حوله".
وأردف: "بالطبيّب ليس المستشار الوحيد الذي استقال، وهذا يطرح مشكلة حقيقية، فالرئيس ليس لديه استعداد للتفاعل مع أي مقترح، ووجود بالطبيب يعطي زخماً آخر لهذا التحرك الذي يدفع نحو العودة إلى المؤسسات الديمقراطية، وأساساً البرلمان، وإنقاذ البلاد، فمكاسب الحقوق والحريات أصبحت مهددة".
"التونسيون لهم مشاكل عديدة في فترة الانتقال الديمقراطي (منذ ثورة 2011)، ولكن مكسب الحريات لا يختلف فيه اثنان"، معتبراً أن "حضور نواب ووجوه قيادية من أحزاب وسطية ويسارية وعلمانية ووجوه قريبة من حركة النهضة الإسلامية وناشطين سياسيين ومدونين وكتاب صحفيين ومستقلين في المؤتمر الصحفي لإطلاق المبادرة الديمقراطية، يعبّر عن التعدد والإجماع، رغم كل اختلافاتهم، على رفض الانقلاب وضرورة العودة إلى الديمقراطية، والدفاع عن مكاسب الثورة".
وبشأن مدى قدرة "المبادرة الديمقراطية" على إنهاء الوضع الاستثنائي الراهن، اعتبر سالم أن "هذه المبادرة ستدفع بقوة نحو إيقاف العمل بالتدابير الاستثنائية، باعتبار أن هناك هَبة مواطنية كبيرة للدفاع عن الديمقراطية".
ومتفقاً مع سالم، قال "بن عبد الله": "بكل تأكيد، فهذه المبادرة تتفق حولها كل القوى الديمقراطية في تونس وتشكل مخرجاً حقيقياً من الأزمة السياسية، وتنهي غموض صنعه رئيس الدولة عبر التدابير الاستثنائية".
وتابع: "الانقلاب بلا أفق ولا بوصلة، والمبادرة تمهد للاستقرار السياسي.. هي مخرج من الأزمة، لكن تتوقف على موقف رئيس الدولة منها، والذي يصُم أذنيه عن كل المقترحات ولا يستمع إلا لنفسه".
واستطرد: "لا يمكن أن تنهي هذه المبادرة الحالة الاستثنائية ما دامت ليست مبادرة وطنية جامعة وما دام الغرب لا يضغط بجدية على الرئيس وما دام الرئيس متحكماً في القوة الصلبة، وهي الجيش والأمن، ومناصرة اتحاد الشغل له".